البحث

التفاصيل

الحكمة من اختلاف قراءات القرآن الكريم

الرابط المختصر :

الحكمة من اختلاف قراءات القرآن الكريم

بقلم: الشيخ د. عبدالحي يوسف

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

 

فقد ثبت في الصحيحين من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف) وفيهما كذلك من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها. فكدت أن أعجل عليه. ثم أمهلته حتى انصرف. ثم لببته بردائه. فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسله. اقرأ)، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت) ثم قال لي: (اقرأ) فقرأت. فقال: (هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. فاقرؤوا ما تيسر منه).

 

وفي صحيح مسلم أن جبريل قال له: (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا) قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: قوله (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا) معناه لا يتجاوز أمتك سبعة أحرف ولهم الخيار في السبعة، ويجب عليهم نقل السبعة إلى من بعدهم بالتخيُّر فيها وأنها لا تتجاوز، والله أعلم.

 

وقال ابن حجر في الفتح: ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولاً بلسان قريش، ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلَّف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد، كل ذلك من اتفاق المعنى ا.هـ.

 وقال ابن حجر أيضاً موضحاً ذلك: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي -أي أن كل أحد يغيِّر الكلمة بمرادفها في لغته- بل المراعي في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم ا.هـ.

والأحرف السبعة لا تزال محفوظة حتى الآن بناء على القول الراجح في تفسيرها أن المراد بها اختلاف الأوجه.

 

وقال الشيخ عبد الفتاح القاضي في كتابه (الوافي في شرح الشاطبية): وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة اختلافاً كثيراً، وذهبوا فيه مذاهب شتى، والذي نرجحه من بين هذه المذاهب مذهب الإمام أبى الفضل الرازي وهو أن المراد بهذه الأحرف الأوجه التي يقع بها التغاير والاختلاف، والأوجه التي يقع بها هذا التغاير والاختلاف لا تخرج عن سبعة:-

 

الأول: اختلاف الأسماء في الإفراد والتثنية والجمع، نحو قوله تعالى في سورة البقرة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} قرئ لفظ (مسكين) هكذا بالإفراد وقرئ (مساكين) بالجمع. وقوله تعالى في الحجرات: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} قرئ بفتح الهمزة والخاء والواو وبعدها ياء ساكنة على أنه مثنى أخ، وقرئ: {إخوتكم} بكسر الهمزة، وسكون الخاء وفتح الواو، وبعدها تاء مكسورة على أنه جمع أخ. وقوله تعالى في سورة سبأ: {وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ} قرئ بإثبات الألف بعد الفاء مع ضم الراء على الجمع، وقرئ بحذف الألف وسكون الراء على الإفراد. واختلاف الأسماء أيضا في التذكير والتأنيث نحو قوله تعالى في البقرة: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} قرئ {يقبل} بياء التذكير وتاء التأنيث. وقوله تعالى في النحل: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} قرئ {يتوفاهم} بياء التذكير، وقرئ بتاء التأنيث. وقوله تعالى في الأنفال: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ} قرئ {يكن} بياء التذكير وتاء التأنيث.

 

الثاني: اختلاف تصريف الأفعال، من ماض ومضارع وأمر، نحو: قوله تعالى في البقرة: وَمَنْ {تَطَوَّعَ} خَيْراً قرئ بفتح التاء والطاء مخففة مع فتح العين على أنه فعل ماض، وقرئ {يطّوع} بياء مفتوحة وبعدها طاء مشددة مفتوحة مع جزم العين على أنه فعل مضارع. وقوله تعالى بيوسف: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ} قرئ بجيم مشددة بعد النون المضمومة وبعدها ياء مفتوحة على أنه فعل ماض؛ وقرئ بزيادة نون ساكنة بعد النون المضمومة مع تخفيف الجيم وسكون الياء على أنه فعل مضارع. وقوله تعالى في الأنبياء: {قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ} قرئ {قال} على أنه فعل ماض وقرئ {قل} على أنه فعل أمر. وقوله تعالى في البقرة: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قرئ {أعلم} بهمزة قطع مفتوحة مع رفع الميم على أنه فعل مضارع، وقرئ {اعلم} بهمزة وصل تثبت مكسورة في الابتداء وتسقط في الدرج مع سكون الميم على أنه فعل أمر.

 

الثالث: اختلاف وجوه الإعراب، نحو قوله تعالى في سورة البقرة: {وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ} قرئ بضم التاء ورفع اللام على أن {لا} نافية، وقرئ بفتح التاء وجزم اللام على أن {لا} ناهية. وقوله تعالى في إبراهيم: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ} قرئ بخفض الهاء من لفظ الجلالة وقرئ برفعها. وقوله تعالى في النور: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} قرئ {يسبح} بكسر الباء وفتحها على البناء للمعلوم والمجهول.

 

الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة، كقوله تعالى بآل عمران: {وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} قرئ بإثبات الواو قبل السين وقرئ بحذفها. وقوله تعالى في يوسف: {قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ} قرئ بزيادة الياء المفتوحة بعد الألف وقرئ بحذفها. وقوله تعالى في الشورى {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} قرئ {فبما} بفاء قبل الباء وقرئ {بما} بحذف الفاء.

 

الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير، كقوله تعالى في آل عمران {وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا} قرئ بتقديم {وقاتلوا} وتأخير {وقتلوا} وقرئ بتقديم {وقتلوا} وتأخير (وقاتلوا). وقوله تعالى في الإسراء وفصلت: {وَنَأى بِجانِبِهِ} قرئ بتقديم الهمزة على الألف وقرئ بتقديم الألف على الهمزة. وقوله تعالى في المطففين: {خِتامُهُ مِسْكٌ} قرئ بكسر الخاء وتقديم التاء المفتوحة على الألف وقرئ بفتح الخاء وتقديم الألف على التاء المفتوحة.

 

السادس: الاختلاف بالإبدال، أي جعل حرف مكان آخر، كقوله تعالى في سورة يونس: {هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ} قرئ {تبلوا} بتاء مفتوحة فباء ساكنة وقرئ بتائين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة. وقوله تعالى في الشعراء: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} قرئ (وتوكل) بالواو، وقرئ (فتوكل) بالفاء. وقوله تعالى في سورة التكوير: {وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} قرئ بالضاد والظاء.

السابع: الاختلاف في اللهجات: كالفتح والإمالة، والإظهار والإدغام، والتسهيل والتحقيق، والتفخيم والترقيق وهكذا، ويدخل في هذا النوع الكلمات التي اختلفت فيها لغة القبائل وتباينت ألسنتهم في النطق بها نحو: خطوات، بيوت، خفية، زبورا، شنآن، السحت، الأذن، بالعدوة، بزعمهم، يعزب، يقنط.

 

وأما الحكمة في إنزال القرآن على هذه الأوجه المختلفة، فهي: أن العرب الذي نزل القرآن بلغتهم، ألسنتهم مختلفة، ولهجاتهم متباينة، ويتعذر على الواحد منهم أن ينتقل من لهجته التي درج عليها، ومرن لسانه على التخاطب بها، فصارت هذه اللهجة طبيعة من طبائعه، وسجية من سجاياه، واختلطت بلحمه ودمه، بحيث لا يمكنه التغاضي عنها ولا العدول إلى غيرها ولو بطريق التعليم والعلاج، خصوصاً الشيخ الكبير والمرأة العجوز والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قطّ، كما في حديث الترمذي الآنف الذكر.

 

فلو كلَّفهم الله تعالى مخالفة لهجاتهم والعدول عنها لشقّ ذلك عليهم، ولكان ذلك من قبيل التكليف بما لا يدخل تحت الطاقة، فاقتضت رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن يخفف عليها وأن ييسر لها حفظ كتابها وتلاوة دستورها، كما يسّر لها أمر دينها وأن يحقق لها أمنية نبيها حين أتاه جبريل فقال له: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتي لا تطيق ذلك» ولم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يردد في المسألة ويلحف في الرجاء حتى أذن الله له أن يقرئ أمته القرآن على سبعة أحرف، فكان صلّى الله عليه وسلم يقرئ كل قبيلة بما يوافق لغتها ويلائم لسانها.

وسواء كان المقصود بالأحرف السبعة هذا المعنى أو ذاك، فإن مما يجب الإيمان به أن القرآن محفوظ ولم يضع منه شيء إلا ما أفاد الوحي نسخه.


: الأوسمة



التالي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين  يستنكر الهجمات الوحشية ضد درعا
السابق
وفاة الشيخ الخطيب علي الشدادي المدير والمشرف على مؤسسة الإمام مالك للتعليم العتيق بمكناس

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع