البحث

التفاصيل

مجالات التربية في القرآن الكريم

الرابط المختصر :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، إمام المتقين، وخاتم النبيئين والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سلسلة إضاءات إيمانية: الحلقة الثانية

عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين     

 

مجالات التربية في القرآن الكريم:

إنّ أوّل مجال تربوي يصادفنا في القرآن الكريم هو المجال العقدي والتعبدي، وهو أُسُّ العقيدة الإسلامية الصحيحة. ومن أجله بعث الله الرسل والأنبياء لتصحيح العقيدة وتثبيتها في النفوس. وهذا ما تلخصه عقيدة التوحيد، توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. فالعقيدة أساس راسخ في التربية القرآنية المتمثلة في توحيد الله عز وجل. ثم تأتي العبادة باعتبارها طرفا ثانيا يتكامل مع الطرف الأول في معادلة الإيمان والعمل. فالعبادة هي الجانب العملي السلوكي التطبيقي للعقيدة. وعلى أساس العقيدة الصحيحة والعبادة الصرفة تتمحور كل المجالات التربوية الأخرى الواردة في كتاب الله عز وجل، وسنقتصر على أربعة منها وهي كالتالي:

1) المجال الأخلاقي.

2) المجال النفسي.

3) المجال العقلي.

4) المجال الاجتماعي.

1) المجال الأخلاقي:

جاء في (متخير الألفاظ) للعلامة اللغوي ابن فارس (ت. 395هـ)، أن في كلام العرب ألفاظا معينة تحمل دلالات قوية لمفهوم الخُلُق الحسن. ومن ذلك أنهم يقولون لمن ارتقت به أخلاقه «نجم من الأنجم. وهوأشهرمن كوكب، ولا يجهله إلا من لا يعرف القمر. ومن ذلك قول ذي الرّمة:

وقد بَـهَـرْتَ فلا تخفى على أحد

 

إلاّ على أحد لا يـعـرف القمـرَا ([1])

 

وفي هذا الخصوص سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشاعر الفصيح متمّما بن نويرة اليربوعي عن خصال أخيه القتيل مالك بن نويرة، فقال: كان والله يقري العيْن جمالا والأذن بيانا ... قال: وغير هذا؟ قال: كان لا يضِلّ حتى يضِلّ النجم، ولا يعطش حتى يعطش الجمل، ولا يجْبُنُ حتى يجْبُنَ السَّيْل).  

إن هذا المجال واسع في القرآن الكريم وعليه مدار حياة المؤمن كلها، ولذلك رسم الله تعالى نموذجا فذا يُحْتذى به في هذا المقام. إنه نموذج نبينا ، ذلك النموذج المثال الذي لو استمسك العالم بهديه لصلحت أحواله واستقرت أموره، حيث قال الحق جل وعلا في حقِّه: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ القلم: 4. إن الرسول الكريم جمع الله فيه الفضائل والكمالات كما يقول الصابوني ، ولذلك كان تكليف الرسول بدعوة الناس إلى مكارم الأخلاق يأتي في المرتبة الثانية بعد تكليفه بأمرهم بتوحيد الله تعالى، وتصحيح العقيدة. ففي الحديث الذي أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: إنَّ من خياركم أحْسَنَكُمْ أخْلاقًا.

وعن سعد بن هشام قال: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خُلُق رسول الله قالت: ألست تقرأ القرآن قلت: بلى: قالت: فإنّ خُلُق نبي الله كان القرآن. بل إن حسن الخلق يرفع صاحبه إلى درجة الصائم القائم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم. وعلى هذا النهج يربي الحق جل وعلا عباده المؤمنين، وينشِّئُهم بهذه التّنْشِئة الفطرية السليمة ليهتدوا بهُداه ويصْدعوا بأمره. وينبغي أن نشير إلى أمر مُهمّ ونحن نعالج هذا المجال التربوي كما ورد في القرآن الكريم، وهو كالتالي: إن الأخلاق في المفهوم القرآني لها صورتان متناغمتان متكاملتان لا يمكن الفصل بينهما: صورة الباطن وصورة الظاهر. إن الأخلاق الإسلامية التي سنّها القرآن الكريم تعد عبادة ربانية يعكس فيها ظاهر الإنسان باطنه. ومن ثم فجُلُّ التعريفات التي أعطيت لمفهوم الأخلاق في الإسلام ترتكز على هاته العلاقة الوطيدة بين سلوكي الظاهر والباطن، وعدم انفصالهما أو انفصامهما البتّة. يقول الإمام الغزالي رحمه الله: الخلق هو صورة الباطن كما أن الخلق هو صورة الظاهر . إنّ تهذيب الأخلاق في القرآن الكريم يأتي في المرتبة الأولى، فهو الأصل الأول، ثم يأتي بعد ذلك التعلّم والتثقيف وتوسيع مدارك العقل في المرتبة الثانية مباشرة. إذ لا خير في عالم متبحّر في العلم بدون أخلاق فاضلة توجِّه ذلك العلم، وتسدّده «بحيث إذا خُيّر الإنسان بين علم واسع مع خلق فاسد، وعلم محدود مع خلق فاضل، كانت الأولوية لمكارم الأخلاق ولو مع قليل من العلم، لا لكثرة العلم مع فساد الأخلاق، إذ فساد الأخلاق يضيّع ثمرة العلم ويجعل صاحبه أخطر من الجاهل بالمرة. وبهذا الاعتبار عُدّ حُسْن الخلق منزلة رفيعة لأنه «هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام» .

فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                                                يُتْبـــــــع

 

 

([1]) متخير الألفاظ : ابن فارس، باب الرجل المحمود الخلق، ص. 72 ـ 73.

([2]) متخير الألفاظ : المصدر السابق، باب ألفاظهم في الرجل الجامع للخصال المحمودة، ص. 76 ـ 77.

([3]) صفوة التفاسير : محمد علي الصابوني، الجزء الثالث، ص. 401.

([4]) صحيح البخاري : الإمام البخاري، الجزء الثاني، كتاب المناقب، باب : صفة النبي ، رقم الحديث : 3559، ص. 720.

([5]) صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، حديث (746).

([6]) سنن أبي داود : أبو داود، كتاب الأدب، باب في حُسْن الخلق (رقم 4798)، ص. 841.

([7]) إحياء علوم الدين : أبو حامد الغزالي، ص. 255.

([8]) التيسير في أحاديث التفسير، محمد المكي الناصري، ص. 231.

([9]) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية، الجزء الثاني، ص. 49.


: الأوسمة



التالي
إشكاليتنا الكبرى
السابق
ضعف المسلمين وتخلفهم في شتى الميادين والرد عليه

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع