العصمة صفة من صفات الأنبياء والمرسلين
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
إن الرسل معصومون فيما يبلغون عن الله ، فهم لا يخطئون في التبليغ عن الله ، ولا يخطئون في تنفيذ ما أوحى الله به إليهم عصمهم الله من الخطأ في هذه وتلك ، وذلك من خصوصياتهم:
أ ـ لأنّ الأمر لا يستقيم إذا أخطأ الرسول في التبليغ عن الله ، إذ ليس لذلك إلا إحدى نتيجتين ـ كلتاهما خارجة عن التصور ـ:
* إما أن يسكتَ الوحيُ عن تصحيح الخطأ ، ومعنى ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يبلغ الناس أمراً معيناً ، ثم رضي جل جلاله أن يبلّغَ عنه غير ذلك الأمرَ ، وهذا لا يجوز في حق الله تبارك وتعالى.
* وإمّا أن يتنزلَ الوحي بالتصحيح، فيعودُ الرسولُ فيقول للناس: إنّ الله أمرني أن أبلّغكم كذا وكذا ، ولكني أخطأتُ في التبليغ ، وإليكم الان تصحيح البلاغ ، وينتجُ عن ذلك لا محالة أن يفقدَ الناسُ الثقةَ فيما يبلغهم إياه الرسول عن ربه ، لأنّ احتمالَ الخطأ في التبليغ قائمٌ في أذهانهم.
وكلا هذين الأمرين خارجٌ عن التصور، لأنّه يتنافى مع الحق الذي يتنزل به الوحي مع التوقير والتعظيم اللازمين لكلام الله سبحانه وتعالى ، مع وجوب الطاعة للرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
ب ـ ولا يستقيمُ الأمرُ كذلك إذا أخطأ الرسولُ في تنفيذ ما أوحى الله به إليه ، لأنّ القدوةَ تنتفي يومئذٍ ، ويضطرِبُ الأمرُ في نفوس الأتباع ، الذين اتبعوا الرسلَ ، فلا يعرفون أيَّ طريق يسلكون ، وفضلاً عن ذلك تذهب جدية الأمر من مشاعرهم ، فالمفروض في الشخص المؤمن أن يجتهد في اتباع ما أنزل الله قدر جهده ، ليكون أقرب إلى الصواب ، فإذا كان القدوة أمامه ـ وهو الرسول ـ يخطأى في التنفيذ ، فسوف يحسُّ هو أنه في حِلّ من أن يخطأى ، وليس عليه أن يتحرّى الصوابَ ، فهو ليس أفضل من الرسول المؤيد بالوحي ، وعندئذٍ ينفرط عقد الأمر ، ولا يعود للدين ما أراده الله من تعظيم في نفوس المؤمنين.(الغزالي، ركائز الإيمان ص (279).
إن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم قد اصطفاهم الله واختارهم ، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *} [ال عمران: 33].
* العصمة من المعاصي:
ونزههم عن السيئات وعصمهم من المعاصي صغيرها وكبيرها {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [ال عمران: 161].
وحلاّهم بالأخلاق العظيمة من الصدق والتفاني في الحق ، فاجتباهم ، وعلمهم: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [يوسف : 6].
فالأنبياء يتّسمون بالطهر والنزاهة والقداسة ، وهم النموذج الحي ، والصورة المثلى للكمال الإنساني ، ومن ثَمّ فهم معصومون عن الاثام ، ومنزّهون عن الوقوع في المعاصي ، فلا يرتكبون محرّماً ، ولا يقصّرون في أداء واجب ، ولا يتّصفون إلاّ بالأخلاق العظيمة ، التي يكونون بموجبها القدوةَ الحسنةَ والمثلَ الأعلى ، وقد زكّاهم الله سبحانه وتعالى ، وأدبهم وهذّبهم وعلّمهم ، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الانعام : 90]. وقال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ *} [الانبياء : 90].
فيتَّضحُ من هذه الايات مدى الكمال الإنساني الذي أفاضه الله على أنبيائه ورسله ، ولو لم يكونوا كذلك ، لسقطت هيبتُهم في القلوب ، ولصغرَ شأنُهم في أعين الناس ، وبذلك تضيعُ الثقة فيهم ، فلا ينقادُ لهم أحدٌ ، ولذهبت الحكمةُ من إرسالهم ليكونوا قادةَ الخلقِ إلى الحقِّ.(الجلي، العقيدة الإسلامية ص (279).
* حقيقـة العصمـة:
العصمة في اللغة: المنعُ ، وورد في (لسان العرب): العصمةُ المنعُ ، وقال الزجّاج في قوله تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} [هود : 43]. أي يمنعني من الماء ، والمعنى: من تغريق الماء. واعتصم فلانٌ بالله إذا امتنع به ، واعتصمتُ بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية ، ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: {وَلَقَدْ رَاوَدْتَّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف : 32].
أمّا في الاصطلاح: فهي لطفٌ من الله تعالى يحمِلُ النبيَّ على فعل الخير ، ويزجره عن الشر ، مع بقاءِ الاختيار ، تحقيقاً للابتلاء.
وقيل: هي حفظُ اللهِ أنبياءَه ورسلَه من النقائص ، وتحقيقهم بالكمالات النفسية ، والنصرة والثبات في الأمور ، وإنزال السكينة.
وقيل: هي ملكةٌ إلهية تمنعُ الإنسانَ من فعل المعصيةِ والميلِ إليها مع القدرةِ عليها.
وقد ذهبَ بعضُهم إلى أنها خاصيةٌ في نفس الشخص أو في بدنه ، يمتنعُ بسببها صدورُ الذنب عنه ، وممّا يضعّف هذا الرأي ويَدْحَضُه ، كما يقول الإيجي: إنه لو كان ذلك كذلك ، لما استحقَّ المدحَ بذلك ، وأيضاً فالإجماعُ على أنّهم مكلفون بترك الذنوب ، مثابون به ، ولو كان الذنبُ ممتنعاً عنهم ، لما كان كذلك ، وأيضاً قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت : 6]. يدل على مماثلتهم لسائر الناس فيما يرجِعُ إلى البشريةِ والامتيازِ بالوحي لا غير.(الإيجي، المواقف، ص (366).
* العصمة ثابتة قبل البعثة وبعدها:
وقد اختلف العلماءُ في عصمة الأنبياء ، هل هي قبل البعثة أم بعدها؟ وهل تكونُ العصمةُ عن الكبائر فقط ، أم عن الكبائر والصغائر من الذنوب؟ فذهب بعضُهم إلى أنّ العصمة ثابتةٌ لهم قبل النبوة وبعدها من الصغائر والكبائر ، وذلك لأنّ السلوك الشخصيَّ ـ ولو قبل النبوة ـ يؤثّر على مستقبل الدعوة للنبي ، فلابدَّ إذاً أن يكونَ من ذوي السيرة العطرة ، والصفاء النفسي ، حتى لا يكونَ ثمة مطعنٌ في رسالته ودعوته ، واستدلّوا على ذلك بأنّ الله تبارك وتعالى قد اختار أنبياءه من صفوة البشر ، ورعاهم منذ الصغر كما قال تعالى لموسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *} [طه : 39]. وجعلهم من المصطفين ، كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ *} [ص : 47]. فلابدّ إذاً أن يكونوا معصومين قبل النبوة وبعدها ، لكن وقع الخلاف في وجوب العصمة لهم من الصغائر. (مبير، عقيدة التوحيد من الكتاب والسنة، ص (244).
والبحث في هذه المسألة داخلٌ في الأمور الاجتهادية التي لم تنهضْ لها أدلةٌ قاطعة تقطعُ دابرَ الخلاف فيها ، وإن كان جمهورُ أهل السنة والجماعة يميلون إلى القول بامتناع الصغائر في حقّ الأنبياء خصوصاً بعد البعثة.
وأما الفريق الاخر فقد ذهب إلى أنَّ عصمة الأنبياء والرسل إنما تكون بعد النبوة ، وتكون في الصغائر والكبائر معاً ، لأنَّ المعاصي تكونُ بعد ورود الشرع والتكليف به ، ولأنَّ البشرَ ليسوا مأمورين باتباعهم قبل البعثة ، فالاتباع والاقتداء إنّما يكون بعد نزول الوحي عليهم ، وبعد تشريفهم بحمل الرسالة والأمانة ، وأمّا قبلها فإنّما هم كسائر البشر ، ومع ذلك فإنَّ سيرتهم تأبى عليهم الوقوعَ في المعاصي والاثام ، أو الانحراف في طريق الفاحشة والرذيلة ، فإنّهم ولو كانوا قبل البعثة غيرَ معصومين ، لكنّهم محفوظون بالعناية والفطرة.
والصحيحُ الذي عليه المعوَّلُ من أقوال العلماء: هو أنّ الأنبياءَ صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن المعاصي (الصغائر والكبائر) بعد النبوة باتفاق ، وأما قبل النبوة فيحتمل أن تقع منهم بعضُ المخالفات اليسيرة التي لا تخلُّ بالمروءة ، ولا تقدحُ بالكرامة والشرف.
استعظام بعض الباحثين نسبة صغائر الذنوب إلى الأنبياء: مدّعين بأنّ وقوع مثل هذه الذنوب فيه طعنٌ بالرسل والرسالات ، واحتجّوا لذلك بأمرين:
الأمر الأول: أنّ الله أمرَ باتباع الرسل ، والتأسي بهم ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا *} [الاحزاب : 21]. وهذا يستلزِمُ أنّ اعتقادات الرسول وأفعاله وأقواله جميعاً طاعاتٌ لا محالة ،لأنّه لو جاز أن يقعَ من الرسول معصيةٌ لحصل تناقض ، ولاجتمعَ في هذه المعصية التي وقعت منه الأمر باتباعها وفعلها من حيثُ الأمر بالتأسي به ، والنهي عن اقترافها من حيث كونها معصية منهي عنها ، وهذا تناقض ، فلا يمكن أن يأمرَ الله عبداً بشيءٍ في حالٍ ينهاه عنه.
وقد تصدقُ هذه الدعوى لو بقيت معصيةُ الرسول خافيةً غير ظاهرةٍ ، بحيث تختلط علينا الطاعةُ بالمعصيةِ ، ولكن ممّا يقرره أهل السنة القائلون بوقوع الصغائر منهم: أنّ الرسل لا يُقرُّوْنَ على معصيةٍ أيّاً كانت ، ومن ثَمَّ فإنَّ الوحي ينبّههم إلى ما وقعَ منهم من صغائر الذنوب ، ويدفعهم إلى التوبة منها.
الأمر الثاني: من قال بعصمة الأنبياء من مثل هذه الذنوب ، توهم أنَّ الذنوبَ تنافي الكمال ، وأنَّها تكون نقصاً ، وإن تاب المذنبُ منها ، وهو غير صحيح ، فإنَّ التوبة تجبُّ ما قبلها ، والتائِبُ من الذنبِ كَمَنْ لا ذنبَ له ، ومِنْ ثَمَّ فإن صغائر الذنوب لا تنافي الكمال ، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم ، بل إنّ العبد في كثيرٍ من الأحيان يكون بعد توبته من معصيةٍ خيراً منه قبل وقوع المعصية ، وذلك لما يشعرُ به من الندم والخوف والخشية ، ولما يقبل عليه من الاستغفار والدعاء ، والعمل الصالح رجاء أن تمحو الحسناتُ السيئاتِ ، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ *} [البقرة : 222]. وقال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *} [الفرقان : 70].
وأخيراً: فإنّ مثل هذه الصغائر لا تَنْتَقصُ من مكانة الرسل ، ولا تَقْدَحُ في عصمة الأنبياء ، بل هي أقربُ لتوكيد بشريتهم ، فهم بشرٌ عرضةٌ للخطأ في التصرّفات ، والاجتهاداتِ الشخصية ، ولكنّهم معصومون فيما يتعلّق بالوحي تلقيناً وتبليغاً ، وهذا يجعلهم أهلاً للقدوة والأسوة ، فلو أصبحوا نوعاً اخر من البشر لا تجري عليهم الهنات والهفوات البشرية ، لصعبتِ القدوةُ بهم ، وقال الناس: هؤلاءِ الرسلُ ليسوا مثلنا في أي شيءٍ فكيف نقتدي بهم؟.( الجلي، العقيدة الإسلامية ص (238).
ومعلوم أنّه لم يقعْ ذنبٌ من نبي ، إلا وسارع إلى التوبة والاستغفار ، يدلُّنا على هذا أنّ القران لم يذكر ذنوبَ الأنبياء إلا مقرونةً بالتوبة والاستغفار.