الإسلام دين وحضارة
الأستاذ شعيب الحسيني الندوي
إن أخطر ما مني به الإسلام وأشد ما رزئ به كيان الدين في الآونة الأخيرة هو فصل الدين عن مجالات الحياة وقطع صلته من الاجتماع والتمدن، وحصره في بعض مظاهر العبادة، وشرحه بما لا تلائمه طبيعة الإسلام، وتفسيره بما يقدح في شموله وتكامله ومسايرته للأومان والعصور، وهذا طعن شديد في أصل الدين ومحاولة خطيرة لاستئصال شافته واجتثاثه من أساسه.
الإسلام نظام شامل كامل, يعطي للحياة معنى يشعر بتجاوب الكينونة البشرية معه، بتجاوب الأعماق الإنسانية بالتحامها معه في كل فقرة من فقراته، وبكل جزء من أجزائه, ويفسر الإسلام الغنسان تفسيرا ما وصل إلى كنهه أي ديانة أو فلسفة وهو نيابته في الأرض عن الله وخلافته فيها، فدوره في الحياة دور خليفة مستناب في تصريف الأمور والشؤون، وهذه نظرية أصيلة في التصور الإسلامي، وهذه غاية ما يمكن أن يرتفع إليه فكر الإنسان رفعة وقداسة فتتهاوى إزائها كل الغايات وتتضاءل، وبذلك تتوحد الأرض والسماء، والإنسان والأكوان, والحياة والممات بحركة واحدة لا تعارض فيها وبنغم واحد لا نشوز فيه.
أما الفلسفات الوضعية البشرية نحو الإنسان والكون والحياة كلها تحطّ من شأن الإنسان وتنتقص مكانته، وتتيه في غياهب الحرمان وتحرم نور العرفان، وتفلس في تقويم حياة الإنسان، وكيف يمكن أن تستقيم حياة الناس إلا عندما تكون أنظمتهم في الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي الأسرة والحي والدولة، نابعة من تصورهم المستقيم للكون والإنسان والحياة، وما تصور هذه الفلسفات الوضعية نحو الأمور الثلاثة – وإن كان أنشئ بعد محاولات فكرية طويلة – إلا أنه يرتطم بمحجبات معمية تشوه معالم التصور السليم فتفقده السبيل وتحرفه عن الصراط المستقيم.
إن الفلسفات البشرية – قديمة كانت أو حديثة – تهدف إلى هدف واحد على تباعد أزمنتها وتباين عصورها وتخالف صورها، وهو شد الإنسان نحو الأرض، وقطع كل صلة بينه وبين الحقيقة الأزلية الكبرى، وتصور واحد يعمل لبتر الارتباط الروحي بالكون والإنسان والحياة، و يسعى لطمس معالم الفطرة النظيفة في أعماق النفس الإنسانية السوية، ويحاول تشويه غاية الوجود الإنساني في هذه الدنيا، ومسخ دور الإنسان على هذه الأرض، فتأليه عقل الإنسان أو الطبيعة أو المادة أو الحرية اللاواعية أو الجنس الجامح أو الاقتصاد المجحف كل ذلك أساليب مختلفة تخدم غاية واحدة.
لا غرو! إن هذه الفلسفات والتصورات تضع هذا الكائن المسكين "الإنسان" – عن قصد أو عن غير قصد – في حلبة صاخبة من الصراع المؤدي إلى قلق وحيرة وارتباك.
أما التصور الإيماني فإنه تصور بسيط قريب من الفطرة الإنسانية، وملاصق للطبيعة البشرية، وملتحم مع الكون بأسره، وكذلك يربط هذا التصور الكينونة الإنسانية بمصدر واحد تتلقى منه تصوراتها وشرائعها وقوانينها, كما هو موجه وقائد للمجتمع الإنساني في كل الميادين والمجالات مادية كانت أو معنوية، وهذا هو سر عظمة هذا الدين وكمال منهجه القويم، وهذه هي روح الإيمان التي تنسجم مع طبيعة الإنسان، حتى يضطر إلى أن يتأثر به ويميل إليه، وها هي الجاذبية المغناطيسية التي تجذب البشرية إليها إذا تجردت عن ملابس الشرك الخرقاء، وتطهرت من أدران العصبية العمياء، وتحررت من براثن الجهالة الصماء، لقد روى سيرتوماس و. أرنولد (THOMAS W. ARNOLD) في كتابه ‘الدعوة إلى الإسلام’ وقائع كثيرة من حالات التحول إلى الإسلام بين الصليبيين تأثرا بجاذبية الإسلام والجيش المسلم، ثم يعقب على الوقائع قائلا: ‘لا شك أن هذه الأخبار المبعثرة تحمل الدليل على أن تحول المسيحيين إلى الإسلام كان على نطاق واسع، فمن ذلك ما يقال من أن خمسة وعشرين ألفا من المرتدين عن المسيحية كانوا في مدينة القاهرة حول نهاية القرن الخامس عشر’.
من المعترفين بفضل النظام الاجتماعي في الإسلام المستشرق الشهير ولفرد كانتول سميث(WILFARD CONTWELL SMITH) حيث يقول في كتابه ‘الإسلام في التاريخ المعاصر’ (ISLAM IN MODERN HISTORY): ‘من البين أن المجتمع الإسلامي ذو تماسك ملحوظ، وأن ولاء أعضائه وترابطهم عظيم القدر. ثم يردف قائلا: إن المجتمع الإسلامي لا يترابط بعضه مع بعض – كالمجتمعات الأخرى – بمجموعة من الولاءات والتقاليد فحسب، وبنظام متقن السبك من القيم والعقائد، ولا هو نتاج مثل أعلى رفيع فحسب، بل إنه ينبض بالحيوية الناجمة عن اقتناع شخصي عميق، اقتناع ديني له حرارته ودلالته في نفس كل عصو من أعضائه، ونستطيع أن نقول: إن هذا المجتمع هو التعبير عن المثل الأعلى الديني’.
المجتمع الإسلامي هو وحده المجتمع الذي يهيمن عليه إله واحد، وتسيطر عليه فكرة واحدة عقيدة وعبادة، شريعة وحضارة، تمدنا وسياسة... وهذه الفكرة تتحقق في الإذعان بحاكمية الله الواحد، والإيمان بربوبية الرب الواحد، والإيقان بمالكية المالك الواحد.
ولقد صدق العلامة السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي حيثما يبين تأثير فكرة التوحيد الإسلامية على المذاهب والملل فيقول في كتابه الشهير ‘ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين’: ‘جاء الإسلام بالتوحيد ونعى على الوثنية والشرك، فهان الشرك منذ ذلك اليوم في عيون أهله وصغر، وصار أهله يخجلون منه ويتبرؤون منه، ولا يقرون به، بعدما كانوا يجتهدون في إظهاره ويستميتون في الدفاع عنه، وأصبح أهل كل دين يؤولون ما في نظامهم الديني من شرك أو مظاهر شرك ووثنية ورسومها وتقاليدها ويلوون بذلك ألسنتهم ويجتهدون في التعبير عنه وشرحه بما يقرب إلى التوحيد الإسلامي ويشبهه’.
وهذا التأثير للتوحيد ونظامه الموحد الشامل لا ينحصر في مجال العبادة أو مظاهر العبودية، بل للإسلام تأثير وفضل على الرقي الإنساني والتطور العلمي والازدهار الحضاري في شتى مجالات الحياة، وهذا ما اعترف به عديد من منصفي علماء أوربا ومفكريها، يقول روبرت بريفولت (ROBERT BRIFFAULT) في كتابه (THE MAKING OF HUMANITY) كما نقل عنه العلامة الندوي رحمه الله مترجما إلى العربية: ‘ما من ناحية من نواحي تقدم أوربا إلا وللحضارة الإسلامية فيها فضل كبير وآثار حاسمة لها تأثير كبير’.
مما لا يبقى مجال للريب فيه أن نظام التوحيد الإسلامي هو المنبع الحي المتدفق، والمنهل العذب الزلال، والمصدر الوحيد للطاقة الروحية والاجتماع البشري. والعدو لا يزال في محاولة تجفيف هذا المنبع للقوة لدى الأمة الإسلامية، أدرك خطورته الدكتور زويمر حيث يوجه الخطاب إلى المبشرين والإرساليين فيقول: إن مهمتكم أن تجردوا المسلمين من الإسلام ليصبحوا مخلوقات لا صلة لها بالله، وبالتالي لا صلة لها بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها’.
من الطبيعي أن هذه الجهود الجبارة من قبل الأعداء في مجالات مختلفة وبأساليب متنوعة ضد الإسلام والمسلمين قد آتت أكلها، وأثمرت ونجحت إلى حد كبير، فكثير من شباب المسلمين في العالم الإسلامي قد شكوا في إسلامهم، وتخلوا عنه، وتحولوا إلى ما سواه من عقائد البشر وفلسفات العصر، وفقد المسلم حسه الإسلامي وتصوره الإيماني وحياته الدينية، حتى شب أولاد المسلمين على انحراف كبير في القيم والسلوك، وارتكست الحياة العامة والخاصة للشرق المسلم في جاهلية قد تكون أشد من جاهلية ما قبل الإسلام. وضغثا على إبالة أن المثقفين من المسلمين اقترفوا جريمة نكراء لا تغتفر، إذ ضيقوا نطاق الإسلام الواسع الشامل الكامل في بعض مظاهر العبادة، هروبا من حكمه القاهر ونظامه المحكم، وإبطالا لمسايرته للزمن المعاصر، وتقليدا للمتجددين المتغربين، ومحاكاة للأحبار والقسيسين، وشرحوا الدين وفق ما تشرح الكنيسة، فأبادوا شأفة الإسلام وطمسوا معالم الدين في أذهان كثير من شباب المسلمين، وانتزعوا روح الإيمان من قلوبهم، وجزروا ذلك العرق الذي تنبض الحياة لأجله.
من الواجب المحتوم على مفكرى الإسلام ودعاة الدين تجنيد القوى والطاقات في الدفاع عن حوزة الإسلام، وتفريغ المواهب والكفاءات للذود عن حصن الإسلام المنيع، وإيجاد الوعي والشعور القويين نحو مفهوم الإسلام الجامع الكامل، وإزاء جدارته وحده لحل مشاكل البشرية وقضايا الإنسانية، وهذا من أعظم وأفضل ميادين الجهاد في العصر الراهن.