لقمة العيش
أ.د مجدي شلش
حقيقة الإنسان أنه مادة وروح، مادة تحافظ على البدن والهيكل، وروح مستمدة من الملأ الأعلى، مبناها الرفعة والعزة والكرامة.
المادة وحدها لا تشكل إنسانا، ولا تبني أسرة، ولا تصنع مجتمعا، ولا تؤسس لحضارة أو مدنية، إذا تحكمت لغة المصالح الدنيوية على حياة الإنسان فهو أقرب إلى الحيوان، بل أضل سبيلا، لما يمتلك من مقومات الشرف الذي ضيعه، والعزة التي أهدرها، والسمو الذي داسه.
دائما كنا ومازلنا نردد ونكرر قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله "
صحيح المال والجاه والشهرة والشهوة أمور مركبة في ماهية الإنسان، لا يستطيع الاستغناء عنها، ولها مقاصد ومنافع ضرورية لا تقوم حياة الناس إلا بها، لكنها الصورة الظاهرة للبناء الآدمي، وتكمن حقيقته الكبرى في أحاسيسه ومشاعره وروحه وقيمه ومبادئه.
العيش قد يصنع بطلا منتفخ العضلات، لكنه وحده لا ينبيء عن كيان سوي الفطرة، معتدل المزاج، راقي الطبع، حافظ الود، ودائما تطغى القوة الخشنة التي بلا عقل ولا منطق ولا حكمة، ولا أثر من خلق أو علم على الحكمة والأدب والرفعة، كأنها سنة دائمة مسيطرة على الإنسان، عبر عنها القرآن بقوله: " كلا إن الإنسان ليغطي أن رآه استغنى "
لقمة العيش إذا لم تعرف حقيقتها وغاب عنك مقصدها تكون القيد الذي قلما يكسر، والسجن الذي ربما لا يفتح، والمستنقع الذي يضر ولا ينفع، والحبل الذي يشنق ولا يرحم، إنها في كلمة واحدة العبودية الذليلة التي تجعل من الحي ميتا، ومن الروح جثة، ومن العقل تابعا، ومن الإنسان جمادا أو حيوانا.
لقمة العيش عند بعض الناس حولت العلم إلى رزق، والخبرة إلى بيع وشراء وأجرة، من يدفع أكثر تنحني له الجباه والرؤوس، ومن يداهن وينافق ترمي له لقمة حتى يعيش، ذهب المعز دائما قبل سيفه، من لم ينصع بالتي أعيش، ركع للتي هي أخشن، سياسة العبيد مع العبيد، والذليل مع الذليل، لا يرضى بها إلا كل حقير.
نعم تعس عبد الدينار والدرهم، تعس عبد الثياب والجاه والشهرة، تعس وانتكس، لا قيمة له عند ربه، ولا عند أهل الشرف من بني وطنه، منحط السلوك والفكر، قليل الأدب والذكر، إذا مرض بلقمة العيش فلا شفاء، وإذا انحنى للباطل والظلم فلا ارتفع، وإذا ركع وخنع بأي حجة - والحجج كثيرة - فلا شرف في الدنيا، ولا مكانة في الآخرة.
لقمة العيش هى رمز لكل الأهواء التي تصبغ حياة بعض العلماء والدعاة والمفكرين والساسة وغيرهم، دعنا نعيش، دعنا نتمتع، دعنا نأخذ حظنا من الدنيا، كلمات تسمعها من كبار صغرت أحلامهم، وأشخاص الأصل أن يكونوا من العظماء بما حباهم الله من علم ومعرفة لكن انتكست فطرتهم، وأظلمت عقولهم، وضلت أفكارهم.
تضع يدك في يد كاذب ومخادع وسارق من أجل لقمة، تمشي مع مزور وكاهن ومدلس وتساعده وتدنس تاريخك من أجل شهوة، تدافع عن لصوص الدعوات والأفكار الذين باعوها بالخسيس من أجل حياة، للقليل من الدراهم، تأخذ صورة مع قاتل مجرم يده ملوثة بدماء الأبرياء، من أجل ماذا؟ منصب، كرسي، أن تكون رئيسا لمصلحة، أو ترقية، هل هذه حياة؟ أم إنها لقمة العيش التي أذلت أنوف الكبار فصاروا صغارا، والحكماء فصاروا بمودتهم للقتلة سفهاء.
بئست الحياة والممات، بئس العيش أن يصير العالم مركوبا، والسياسي مطية، والإعلامي خادما، والاقتصادي مداهنا، والإداري مرائيا، وبعض أبناء الصف ساكتا، ألم يعلموا بأن الله يرى، ويعلم السر وأخفى، الموت جوعا أشرف من حياة ذليلة مهينة، الموت أكرم من ذلة وانكسار تحت أقدام الخونة وعبيد المناصب، بأي حجة، أو من أي جهة.
نعم للمال والجاه سطوة على النفس قلما يتحرر منها حتى بعض الأبرار، لكن عزة النفس أقوى وأقوم، وأنفة المؤمن عالية تدوس على الركام، وتسمو فوق القمامة والزبالة، وتسرح في معين الحرية بلا قيد ولا أسر، ما عاش من ذل نفسه وأرغم أنفه، وطأطأ رأسه.
تعلمنا من ديننا أن العزة سمو ورفعة، وأن الكرامة أصل مركوز في الفطرة، وأن البعد عن هيمنة المال والشهوة ركن كل فكرة، وأن الموت مع الصادقين خير من النجاة مع الكذابين المرائين، فلا نامت أعين المنافقين، ولا قامت لمن تسلطوا على إخوانهم رفعة.
هل نخيب على كبر؟ أم ترانا بعض أن تربينا على النصيحة والعزة والكرامة أن نحيا جبناء، أو نعيش لمجرد الحياة، أمامي تجارب مرة، لأناس الأصل فيهم بما حباهم الله من شرف العلم والمعرفة أن يكونوا قادة في الشرف والعزة والكرامة، إذ بهم من أجل لقمة العيش سفاسف وجرذان يلهثون بقايا آثار الكذب والطغيان.
لقمة العيش دمرت مؤسسات كانت للحق راية، وللفكرة عنوانا، وللتاريخ مجدا وشرفا، فبعض أبنائها استصعبوا الحياة الكريمة، وركنوا إلى الذين ظلموا من أجل عيش رخيص، حياة الترف والفنادق أنست البعض شرف المعركة، وحقيقة الصراع، وأصل الغاية، وروعة الفكرة، خطابهم مع العدو مهين وذليل، لا تحس فيه شجاعة، ولا ترمق منه فكرة، ولا تشم منه سوى الهوان والذلة.
يا سادة الحياة بلا فكرة مجبنة مبخلة، والسعي بلا كرامة وعزة موت وفناء، وإن كثرت الأموال، وكبرت المناصب والأحوال، واتسعت المعارف والألقاب، بدأنا دعوتنا بشرف الكرام، وآمنا بفكرتنا رغم الأهوال، وسمونا بديننا فوق ذهب من الجبال، ومات من أجلها أعز الشباب، وضحى في سبيلها الرجال والنساء، واستشهد تحت رايتها الكرام، فهل نخيب ونبيع بعد أن شاب منا الرأس، وانحني منا الظهر، أم نسلم الراية للأجيال القادمة بيضاء لا خرق فيها ولا وسخ