كلمة رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في افتتاح الجمعية العمومية الثالثة
الأربعاء 25 رجب 1431 - 7 يوليو 2010 1201
أيها الإخوة ممثِّلي الجهات الرسمية للجمهورية التركية.
أيها الإخوة ضيوف الشرف الذين شرَّفونا من أقطار شتَّى، السادة الوزراء، والسفراء، والمسؤولين.
أيها الإخوة أعضاء الجمعية الثالثة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
من مدينة الجلال والجمال، مدينة الجوامع والمآذن، مدينة المصانع والمداخن، مدينة المتاحف والحدائق، مدينة الجبال والبحار، مدينة الشرق والغرب، أو آسيا وأوروبا، مدينة التاريخ المشرق، والحاضر المتألِّق، مدينة محمد الفاتح ورجب الطيب أردوغان.
من هذه المدينة أحيِّيكم بتحيَّة الإسلام، وتحيَّة الإسلام السلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اسمحوا لي أيها الإخوة أن ندعو جميعًا بالمغفرة والرحمة لزملاء لنا كانوا أعضاء معنا في هذا الاتحاد، وجاء أجل الله الذي لا يؤخَّر ورحلوا عنا: أذكر منهم اثنين من خيرة العلماء والدعاة، هما الأخوان الحبيبان: الدكتور عز الدين إبراهيم، والدكتور عبد العظيم الديب، غفر الله لهما ورحمهما وتقبلهما في عباده الصالحين.
واسمحوا لي أن أدعو معكم أن يمن الله بإتمام العافية وعاجل الشفاء على أخينا الحبيب العالم المجاهد الشيخ فيصل مولوي، الذي حمل معنا الأمانة من أول يوم، وكان عضو المكتب التنفيذي وأمين المال.
واسمحوا لي أيها الأخوة أن نحيي باسم علماء الأمة موقف تركيا الشجاع في قضايا الأمة الإسلامية، فقد رفعت رؤوسنا، وأشعرتنا بالعزَّة والكرامة، وأذلَّت أعداءنا المتغطرسين المتكبِّرين في الأرض بغير الحقِّ، وخصوصًا في موقفها من أسطول الحرية، وموقفها من غزَّة وموقفها من القدس، ومن قضية فلسطين بصفة عامة.
تحية لتركيا، وتحية لرئيس الجمهورية عبد الله غول، وتحيه لرئيس الوزراء الرجل العزيز الشجاع رجب الطيب أردوغان.
أيها الأخوة: بعد ستة أعوام من تأسيس اتحادكم هذا الذي كان حلمًا فأصبح حقيقة، ذات صوت مسموع، وعلم مرفوع، فقد كان أكبر همِّي: أن يكون لعلماء المسلمين المنتشرين في كلِّ أنحاء الأرض اتحاد يضمُّ صفوفهم، لا يمثل طائفة، ولا مذهبا ولا دولة ولا جماعة، بل لا يمثِّل إلا الإسلام وحده، إسلام القرآن والسنة، الداعي إلى الإصلاح والتجديد والتجميع.
وقد كتبت الخطوط الأولى لهذا التجمع من الأهداف والوسائل والخصائص، ووضعت نموذج استمارة مبدئية للانضمام إلى هذا الاتحاد المنشود. وأذكر أن عددا من أخصِّ أصدقائي نصحوني ألا أعرض نفسي للخطر، وقالوا: سيحاربك الغرب، وسيحاربك الشرق، وسيقف في وجهك اليمينيون واليساريون، حتى بعض الإسلاميين سيقفون في وجهك. ولكني استمددت العون من الله وحده، وقلت ما قال نبي الله شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. وعرضت الفكرة على عدد كبير من إخواني من العلماء خلال سنوات، فرحَّبوا وشدُّوا على يديَّ، وقليل منهم مَن اعتذر، لأن دولته إذا عرفت أن الداعي إلى هذا الاتحاد فلان، ستتخذ منه موقف المعادي والمحذر.
حتى اجتمع لديَّ العدد المناسب من المؤيدين، فتوكلتُ على الله، وبدأتُ البحث عن مكان نسجِّل فيه هذا الاتحاد، وما كان أشد أسفي أن لا أجد بلدا في عالمنا الإسلامي تفتح لنا أبوابها! وهو ما اضطرَّنا أن نسجِّله في بلد أوربي.
واليوم يتجاوز الاتحاد هذه المواقف، ويستكمل كثيرًا من نواقصه، فكثير من أقطار الإسلام في أول الأمر لم تكن مُمثَّلة، واليوم قد مُثِّلت. لم يبق إلا القليل جدًّا.
ومن أول يوم لم نغفل المرأة، فهي نصف المجتمع: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، ولكنَّا في هذه الجمعية سنخطو خطوة إلى الأمام لننتخب عددا من الأخوات في مجلس الأمناء.
مبادئ ندعو إليها ونتواصى بها:
أيها الإخوة العلماء: هناك مبادئ نؤمن بها، ونصر عليها، ونعمل لها، ونتواصى بها، تتمثل فيما يلي:
1- نحن للأمة كلها:
نحن للأمة الإسلامية جمعاء، من أجلها قام اتحادنا، وباسمها نرفع صوتنا، ولتحقيق أهدافها كان سعينا، ولتوحيد كلمتها صدر ميثاقنا، ولرفع رايتها كان جهادنا، لسنا لعرق من العروق، ولا لإقليم من الأقاليم، ولا لمذهب من المذاهب، ولا لجماعة من الجماعات، ولا لتيار من التيارات.
ومن هنا نحرص أبدا على أن نبني ولا نهدم، وأن نجمع ولا نفرق، وأن نقرِّب ولا نباعد، مستمسكين بقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقوله سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
ولا غرو أن نؤمن بالقاعدة الذهبية التي تنادى بها المصلحون، ودعا إليها المجددون: نتعاون فيما نتفق عليه، ونتسامح فيما نختلف فيه، ونتحاور أيضا فيما نختلف فيه. شعارنا التسامح والأخوة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
2- نحن أقوياء برسالتنا:
نحن العلماء أقوياء بالحق الذي ندعو إليه، وبالقرآن الذي نؤمن به مصدرا أول للتشريع والتوجيه والتربية والثقافة، وبالسنة النبوية الثابتة المبينة للقرآن، والمؤكِّدة له، وبالأمة المسلمة التي تشدُّ أزرنا، وتحمي ظهرنا، في مشارق الأرض ومغاربها، وبالعلم الإسلامي الذي ورثناه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لم يورثنا دينارا ولا درهما، وإنما ورثنا العلم .
قوة العلماء حقيقة لا ريب فيها؛ لأن كلمتهم مستمدة من كلمة الله، التي جاءت بها الشريعة المحكمة، المتمثلة في أوامر الله تعالى ونواهيه، وكلمة الله أبدا هي العليا. ومن هنا وجب على الأمراء أن يسألوا العلماء، ولم يجب على العلماء أن يسألوا الأمراء، ولهذا جاء في الأثر: صنفان من الأمة إذا صلحا وتعاونا صلح الناس كل الناس، وإذا فسدا فسد الناس.
3- شروط ضرورية للاستفادة من قوة العلماء:
وأحب أن أقول لكم أيها العلماء بصراحة، إنكم بما تمثلونه ومَن تمثلونه: قوة هائلة، جديرة أن تثبت وجودها، وأن تحقق أهدافها، وأن تنصر صديقها، وأن تخيف أعداءها، وأن تنفخ الروح في أمتها.
ولكن هذه القوة الكبيرة، لن تستطيع إثبات وجودها وتحقيق أهدافها إلا بعدة أمور لا بد منها:
أ- أن تؤدي واجبها علما وعملا وتعليما، بحيث تكون أسوة للناس.
ب- أن تقول الحق لا تخاف في الله لومة لائم، كما هو الشعار الذي اتخذناه للاتحاد، وهو الآية الكريمة: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}، متمثلين بما قاله الشافعي:
أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا
ج- أن يجعلوا دينهم فوق دنياهم، وأمتهم فوق حكامهم، وألا يبالوا مما أصابهم في سبيل الله
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي!
د- أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يفترقوا، وألا يكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وحسبهم أنهم رضوا بكتاب الله إماما ومنهاجا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا للناس ما نزل إليهم.
ه- ألا تختلف قلوبهم، وإن اختلفت آراؤهم، فقد قالوا: اختلاف العلماء رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة.
4- لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها:
نؤمن بقول إمام دار الهجرة: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ولم يصلح أولها إلا بهذا الدين الذي أكرمها الله به، وأتم به النعمة عليها {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]. فهداها به من ضلالة، وعلمها من جهالة، وجمعها من فرقة، وأخرجها من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
5- منهج الإسلام في الإصلاح تغيير ما بالأنفس:
منهج هذا الدين في الإصلاح والتغيير يقوم على تنوير العقول بالعلم حتى تفقه، وتجديد الأنفس بالإيمان حتى تزكو، وتربية الأجيال على الإسلام حتى تستقيم. فهو منهج يغير الإنسان من داخله لا من خارجه، ويقوده من ضميره لا من أذنه، فإذا كان الماركسيون يقولون: غير الاقتصاد يتغير التاريخ. فالقرآن يقول: غير نفسك، أو غير ما بنفسك يتغير التاريخ. وفي هذا يقول القرآن: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]
6- روح هذا المنهج هو الوسطية المتوازنة:
روح هذا المنهج هو (الوسطية) التي بها جعلها الله عنوان هذه الأمة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، لا تنحرف إلى اليمين ولا إلى الشمال، بل هي أمة الصراط المستقيم، لا تطغى في الميزان، ولا تخسر في الميزان. ولهذا تبنى (الميثاق الإسلامي) الذي وضعه العلماء، ورضيه كل من انضم إليهم. وهو يقوم على التوازن بين النقل والعقل. والمزج بين الروح والمادة والتوفيق بين الدنيا والآخرة، والموازنة بين حظ النفس، وحق الرب، وحقوق الخلق. كما يقوم على أن الاجتهاد فريضة وضرورة. وهو مطلوب ومقبول ما دام من أهله في محله. وهو يراعي ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، مشدد في الأصول، ميسر في الفروع. ميسر في الفتوى ومبشر في الدعوة، يوفق بين مقاصد الشرع ومصالح الخلق. يلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت، يحاور من يخالفه بالتي هي أحسن. يأخذ من التراث ما صفا ويدع ما كدر، يستلهم الماضي، ويعايش الحاضر، ويستشرف من المستقبل.
7- الانفتاح على الآخر والتحاور مع المخالف:
ومن عناصر هذا المنهج الوسطي: أن يفتح صدره للآخر، ويبسط يده للمخالف. والحوار فيه جزء من منهج الدعوة المفروض عليه من الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فنحن ندعو المسلمين بالحكمة التي تقنع العقول، وبالموعظة الحسنة التي تحرك القلوب. ونجادل المخالف بأحسن طريقة ممكنه.
ونحن مأمورون أن ندعو إلى التعارف لا إلى التناكر، وإلى الحب لا إلى الكراهية، وإلى الرفق لا إلى العنف، وإلى السلام لا إلى الحرب. فمن سالمنا سالمناه، ولا نحارب إلا من حاربنا، وكتاب ربنا يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، ويقول عن المشركين: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء:90]، ويقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، ويقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]،
8- البشرية أسرة واحدة:
نحن العلماء نؤمن بأن البشرية أسرة واحدة، تنتمي من جهة الخلق إلى ربِّ واحد، ومن جهة النسب إلى أب واحد. وأنها يجب أن تتعاون على ما فيه خيرها وصلاحها، فتعلم الجاهل، وتطعم الجائع، وتداوي المريض، وتقف في وجه الظالم، وتدافع عن حقوق الإنسان، وعن حرمات الأديان، وعن حق الضعيف أمام القوي، والفقير أمام الغني، نتواصى بالحق والصبر، وتتعاون على البر والتقوى، وبهذا يسعد الفرد، وتتماسك الأسرة، ويرقى المجتمع، وتصلح البيئة، ويتوازن الكون، ويتآخى الناس.
العلماء وكلاء الله في أرضه:
أنتم أيها الأخوة العلماء للأمة كالملح للطعام، والنحو للكلام، والشمس للأنام. وقديما قالوا:
يأيها العلماء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد؟!
وقال الشاعر:
بالملح يصلح ما يخشى تغيره فكيف بالملح إن حلَّت به الغير؟
أنتم وكلاء الله في أرضه، كما قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]. أنتم الموكَّلون من الله للدفاع عن رسالات السماء.
أنتم الأمة التي نوَّه الله بها في القرآن حين قال: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181].
وأنتم (الطائفة المنصورة) التي استفاضت بها الأحاديث الصحيحة عن عدد من الصحابة، عنه صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك" .
وأنتم (الخلف العدول) الذين يحملون عِلْم النبوة، ويتوارثونه "ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" .
وأنتم ورثة الأنبياء، كل رسالات السماء، ومواريث الرسل والأنبياء، من العقائد والعبادات، والمفاهيم والقيم والأخلاق، قد انتهت إليكم، وسُلمت لكم، وأمست أمانة في أعناقكم، فأنتم خير ورثة لخير موروث.
ولا أذكركم بالحديث الذي تعلمونه للناس: "العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكنهم ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" .
نريد أن يعود دور العلماء في الأمة كما أراده الله أن يكون، وكما كان في الزمن الأول: أئمة للهدى، مصابيح للدجى، ربانيين بما يعلمون الكتاب وبما كانوا يدرسون، يَعْلَمُون ويَعْمَلون ويُعلِّمون، ومن علِم وعمل وعلَّم فذلك هو الرباني حقا.
"إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير" .
نريد أن يعود العلماء هم أولي الأمر كما فسر الكثير من السلف قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. قال ابن كثير: عن ابن عباس: {وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} يعني: أهل الفقه والدين. وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: {وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} يعني: العلماء .
وفي هذا قال أبو الأسود الدؤلي: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
ونظم هذا الشاعر فقال:
إن الأكابر يحكمون على الورى وعلى الأكابر يحكم العلماء
أيها الإخوة لا تستهينوا بأنفسكم:
أنتم أيها الإخوة قوة كبيرة، لا تستهينوا بأنفسكم، إني أعرف الكثير منكم، وزرتُ بعضكم في بلده، ورأيتكم قادة في أوطانكم، سادة في أقوامكم، فهذا رئيس جمعية، وهذا عميد كلية، وهذا مدير جامعة، وهذا رئيس رابطة، وهذا رئيس مجلس أعلى، وهذا مؤلف كبير، وهذا داعية عظيم، وهذا قاض جليل، وكلكم بحمد الله أئمة هدى، ومنارات إصلاح، ومعلمو خير، ومثل هذه المجموعة المنتقاة من خير أمة أخرجت للناس، قادرة على أن تحيي القلوب، وتقود الشعوب، وتنجز الكثير إذا استبانت الرؤية، واتضح الهدف، ووضعت الخطة، وصحت العزيمة، وكما قال الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإنَّ فساد الرأي أن تترددا
وإن كنت ذا عزم فانفذه عاجلا فإن فساد العزم أن يتقيدا
إن الفرد القوى قد ينجز ما تعجز عنه الجماعات الكبيرة، وقد قال الشاعر:
والناس ألف منهمو كواحد وواحد كألف إن أمرٌ عَنَا
بل قال الحكيم: فرد ذو همة يحيي أمة! فكيف بمجموعة متميزة، كل واحد منها يحمل رسالة ربانية، وهو جندي في جيش قائده محمد رسول الله، وأصحابه الغر الميامين، الذين قال الله فيهم: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62، 63].
نحن نمثل أمة كبرى:
من مصادر قوتنا: أننا نمثل الطليعة الهادية، التي تحمل مشاعل النور، لأمة كبرى، قادت القافلة البشرية، حوالي ثمانية قرون، أقامت فيها دولة العدل والإحسان، وأنشأت في ربوعها حضارة العلم والإيمان، وشاهد الناس فيها فتوح العدل والرحمة، لا فتوح الظلم والجبروت، وكان جنودها في المعارك رهبان الليل وفرسان النهار.
إن من خصائص هذه الأمة: أنها قد تنام أو تُنوَّم أو تُخدَّر، ولكنها لا تموت، لأنها أمة الخلود، إنها آخر الأمم، كما أن نبيها آخر الأنبياء، وقرآنها آخر الكتب، وهي باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
من أسباب قوة هذه الأمة، ومبشرات انتصارها:
1- القوة البشرية:
والقوة البشرية والعددية، لها أهميتها ووزنها، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف:86]، وقال الشاعر العربي: وإنما العزة للكاثر.
وقال الشاعر عمرو بن كلثوم في معلَّقته:
ملأنا البر حتى ضاق عنا ونحن البحر نملؤه سفينا
وآخر إحصاء لأمتنا، يبلغ بها ألف مليون وخمسمائة وثمانين مليونا.
على أن هذا لا يمثل الإحصاء الحقيقي للمسلمين، فهم يعدُّون المسلمين في الصين بعشرين مليونا، وأهل الصين يقولون: إنهم لا يقلون عن مائة وعشرين مليونا.
ومن أكثر من مائة وعشرة سنة، كتب هانوتو مستشار وزارة الخارجية الفرنسية مقالة طويلة، هاجم فيها الإسلام ردَّ عليها الشيخ الإمام محمد عبده ردا شهيرا، وقد نَقَل في هذه الرسالة عن أحد النصارى: أنه يحذر من قوة كامنة لها خطرها، وهي قوة المسلمين الكامنين في داخل الصين.
كما علَّق الأمير شكيب أرسلان على كتاب (حاضر العالم الإسلامي) على المسلمين في الصين، فقال: إنهم نحو خمسين مليونا. وهذا من أكثر من سبعين، فماذا يكونون الآن بمقياس ازدياد السكان في العالم؟
2- القوة المادية والاقتصادية:
وثانية هذه القوى: القوى المادية والاقتصادية، فأمتنا تملك من المعادن والثروات المذخورة في باطن الأرض، والثروات المنشورة على ظاهرها، الثروات الزراعية والحيوانية، والمائية والبحرية، والمعدنية وغيرها، ما لا تملكه أمة أخرى. ويكفي أن لدينا معظم مخزون العالم من النفط.
وموقعنا الجغرافي كذلك له قيمة كبيرة: استراتيجية وحضارية، فهو ملتقى القارات ومنبع الحضارات، كل الحضارات الكبرى في العالم نبتت في أرضنا، وكل الرسالات السماوية خرجت من ديارنا: اليهودية والمسيحية والإسلام.
3- القوة الروحية:
وثالثة هذه القوى التي تملكها أمتنا: القوة الروحية، قوة الرسالة التي تؤمن بها، وتدعو بها، وتدعو إليها، وتحيا لها وتموت عليها: رسالة الإسلام العامة الخالدة، التي ختم الله بها النبوات والرسالات.
فهي الرسالة التي تميزت بالربانية، فمصدرها كتاب الله، الوثيقة الإلهية الوحيدة التي تتضمن كلمات الله الأخيرة للبشرية، سالمة من كل تحريف وتبديل: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، نحن المسلمين وحدنا، الذين نملك هذه الوثيقة، وهي دستور هذه الرسالة، التي تتميز بالشمول والتكامل.
كما تميزت بنزعتها الإنسانية والعالمية، وبنظرتها الواقعية، وبخصيصتها الوسطية.
والعالم أحوج ما يكون إلى هذه الرسالة، لتنقذه من المادية المسرفة، ومن النفعية المجحفة، ومن الإباحية القاتلة، ومن عصر الخوف والقلق والاكتئاب واليأس إلى عصر الأمن والسكينة والبهجة والأمل.
إنجازات الاتحاد في عمره القصير:
إن الاتحاد لم يمض عليه إلا ست سنوات وهي زمن قليل بالنسبة للجماعات، وقد نشأ في ظروف غير مواتية، حتى إننا عجزنا أن نسجله في بلد مسلم، فسجلناه في بلد أوربي، وأقمنا جمعيته العامة التأسيسية، في لندن، والحمد لله، لقد أثبت الاتحاد وجوده، رغم بعض العوائق، التي وقفت في طريقه، وكان له حضوره في كل المواقف، التي نزلت بالأمة الإسلامية، والتفَّت حوله جماهير الأمة، واستجابت لنداءاته في المُلمَّات، كما في حادث الرسوم الكاريكاتورية، التي أساءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث خرجت الأمة عن بكرة أبيها، غضبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرة له، وتجاوبا مع نداء الاتحاد، وكذلك في حرب غزة، وفي العدوان على أسطول الحرية وغيرها.
وقد كوَّن الاتحاد إبان الحرب على غزة، وفدا من العلماء للمرور على عدد من الملوك والرؤساء، وقد قام بواجبه ونصح لهم، وعرَّفهم بمطالب الأمة منهم، فأكثرهم تجاوب معه، وأقلهم قامت عليه الحجة.
ولقد أرسل الاتحاد وفدين إلى السودان الشقيق من أجل قضية دارفور، أولها: وكان على رأسه الرئيس والأمين العام، مكث ما يقرب من أسبوع، ولقي أكثر القيادات، وسمع من كل الأطراف، وزار مدينة (الفاشر) عاصمة دارفور، وكتب تقريرا ضافيا عن المشكلة، قدمه إلى المعنيين، واقترح على المتنازعين أن يلتقوا بجوار الكعبة المشرفة ليتفاوضوا.
والثاني: كان على رأسه نائب الرئيس الشيخ عبد الله بن بية، وعدد من المكتب التنفيذي.
ولقد انفرد الاتحاد بدعوة ممثلين للأديان الشرقية الكبرى، وقامت لجنة القضايا الإسلامية برئاسة أخي الدكتور القره داغي، بعقد اجتماع كبير في (نيودلهي) حضره رجال كبار يمثِّلون هذه الديانات، وقد أرسلت إليهم كلمة تلاها نيابة عني الدكتور القره داغي، وكان هذا الاجتماع ناجحا بكل المقاييس، وهذا إنجاز تاريخي لم يقم به غير الاتحاد.
وعُني الاتحاد بشباب العلماء الذين يمثِّلون مستقبل الأمة، فعُقد لهم في مصر خاصَّة دورات عدَّة، حاضرهم فيها كبار العلماء والدعاة والمفكرين، وأقرَّ كلُّ من شارك فيها أنه استفاد منها استفادة بالغة، وقد اشترك فيها مصريون وعرب ومسلمون، ورجال ونساء. ونرجو أن تحذو البلاد المختلفة حذو مصر.
وأصدر الاتحاد عشرات البيانات في النوازل التي تنزل بالمسلمين، وما أكثرها لتفريطهم بالواجبات التي لهم، والحقوق التي عليهم. فمن واجب العلماء أن يبينوا للناس ولا يكتموا، وأن يقولوا كلمة الحق للأمة، رضي مَن رضي، وسخط مَن سخط.
وإذا كان هذا إنجاز الاتحاد في سنواته الأولى، فحري به أن نرى منه الكثير بعد نموه ونضجه.
إن الهلال إذا رأيت نموه أيقنت أنه سيصير بدرا كاملا
أدعوكم إلى مرحلة جديدة:
وإني أدعوكم أيها الأخوة أن نعد لمرحلة جديدة من العمل، بعد أن مضى على تأسيس الاتحاد ست سنوات، ولا يمكن أن ننهض بأعباء هذه المرحلة إلا بالتكاتف والتعاضد، وأن يعتبر كل واحد منا أنه المسؤول الأول عن الاتحاد، فقد تعلمنا من تراثنا: إن المرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده قوي بجماعته، ويد الله مع الجماعة، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
أهم ما ينبغي أن ننهض به في المرحلة القادمة:
1. تكوين اتحادات للعلماء في كل بلد إسلامي:
ينبغي أن ننشئ فرعا أو جمعية أو رابطة لاتحاد العلماء، في كلِّ بلد إسلامي، أو للمسلمين فيه وجود مشهود مثل المسلمين في الهند، والمسلمين في روسيا، والمسلمين في جنوب أفريقيا، وكل بلد يكون للمسلمين فيها صوت مسموع، وعلم مرفوع، وإن كانوا أقلية.
وكل هذه الروابط العُلَمائية قوة للاتحاد تمده وتستمد منه.
2. قوافل الاتحاد لزيارة العلماء في أقطارهم:
ويجب أن يضع الاتحاد خطة لتيسير زيارة هذه (الجمعيات العلمائية) في أقطارهم، من إخوانهم في مجلس الأمناء، وفي الأقطار الأخرى، وقد رأيت بنفسي أن هذه الزيارات لها أثرها في العلماء، وفي النخبة وفي الجماهير، وقد زرت في السنة الماضية: الصين وماليزيا، وجنوب أفريقيا، وموريتانيا، والسنغال، والمغرب، وكان لهذه الزيارات ثمرتها الطيبة، وأرجو أن يوفقني الله لتكرار ذلك في العام المقبل.
وأدعو أن يقوم بذلك عدد من الإخوة الدعاة المتميزين، الذين لهم قدرتهم وتأثيرهم، ويطلبهم الناس عادة للانتفاع بهم.
3. النشاط في جانب النشر:
لا بد للاتحاد أن ينشط في جانب النشر، وخصوصا مجلة الاتحاد، ورسائل الاتحاد، ونشرات الاتحاد، وكتب الاتحاد، ولا بد من تفعيل لجنة الثقافة والترجمة والنشر، كما لا بد من تفعيل لجان الاتحاد، وتسليم قيادتها لمن ينشِّطها ويفعِّلها، ومن لم تساعده ظروفه على حمل الأمانة، فليعتذر وليسلمها لغيره.
4. لا بد من وقف خيري للاتحاد:
على أن هذا النشاط لا يمكن أن يتم إلا بمال، وقد أمر الله المؤمنين أن يجاهدوا بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، فقدَّم سبحانه المال على النفس. وقد قال شوقي:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهمو لم يبن ملك على جهل وإقلال
وقد عرف الناس في حضارتنا الإسلامية المجيدة، كيف يمولون الأعمال النافعة والخيِّرة الكبيرة، فقد كانت وسيلتهم الفذة: أن يقفوا من أموالهم على هذه الأعمال العلمية والتربوية، والصحية، والاجتماعية والإنسانية، وكان لها آثارها في سائر نواحي الحياة.
وعلينا أن نبدأ بتأسيس وقف خيري للاتحاد، يساهم فيه أهل الخير من المسلمين، وهم بحمد الله موفورون، ولن يتأخروا إذا دعوناهم، وفي الحديث: "أمتي كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره" ، وقد كنت قلتُ للإخوة في (مجلس الأمناء): أنا أبدأ بنفسي بمبلغ (مليون ريال قطري) واليوم أفتح الباب لكل من يريد الخير.
على أننا نستطيع أن ننظم ذلك بالدعوة إلى اكتتاب عام نشرك فيه الجمهور المسلم.
وفي الختام:
أيها الإخوة: إن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ليس ليوسف القرضاوي، ولا للمكتب التنفيذي، ولا لمجلس الأمناء، ولكن الاتحاد لكم يا أعضاء الجمعية العمومية جميعا، بل هو لعلماء المسلمين في العالم أينما كانوا، في كل مكان ارتفعت فيه المآذن، ونادى المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله.
بل هو في الحقيقة لكل إنسان يؤمن بأن البشرية كلها ربها واحد، وأبوها واحد؛ لأن رسالة محمد هي لخير البشرية جمعاء، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180، 182].