وهدوا إلى الطيب من القول
بقلم: أ. د. أحمد الريسوني – رئيس الاتحاد
ذكر الله تعالى بعض ما أكرم به أهل جنته وبعض ما خصهم به من ألوان التكريم
والتعميم فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ) الحج : ٢٣-۲٤.
والامتنان من الله سبحانه بنعمة الهداية إلى الطيب من القول ، إنما هو تنبيه على فضل هذه المزية وشرف هذه الخصلة في ميزان الله تعالى.
وإذا كان المؤمنون المسلمون عموما يحتاجون إلى هذه الصفة وإلى هذا الخلق في الدنيا قبل الآخرة ، فإن أهل الدعوة إلى الله أشد احتياجا إليها وتوقفا عليها في نجاح دعوتهم وعلاقاتهم.
وكما أن الداعية لا يصبح داعية حقيقة إلا حين تصير الدعوة سجية وبداهة، فإنه لا يكون مقبولا وناجحا إلا حين يكون طيب الكلام وحسن الخطاب له سجية وخلق كذلك.
فالكلام المؤدب والخطاب المهذب مفتاح من مفاتيح النجاح في كافة المعاملات والعلاقات ، دعوية أو دنيوية ، أو سياسية ، أو اجتماعية ، بل لا أراني مبالغا إذا قلت: إن حسن الخطاب ركن من أركان النجاح وركن من أركان الشخصية الناجحة، ولنتأمل كيف أن الله عز وجل قد جعل حسن القول مما يأخذ فيه العهد والميثاق على عباده. قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) البقرة: 83. قال القرطبي في تفسيره (۱۹/۲): (فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجه منبسطا طلقا، مع البر والفاجر، والسني والمبتدع من غير مداهنة ، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضى عن مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: (فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا) طه:44. فالقائل ليس بأفضل من موسي وهارون ، والفاجر ليس أخبث من فرعون، وقد أمرهما الله باللين معه، وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة ، فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل، يقول الله تعالى: (..وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..) البقرة: ۸۳، فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى، فكيف بالحنيفي.
وقد أمر الله تعالى خاتم أنبيائه ﷺ أن يجدد ويؤكد الدعوة والوصية بالتزام حسن الخطاب: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) الإسراء: ۵۳.
وفي هذه الآية فائدتان إضافيتان على ما تقدم:
الفائدة الأولى: أن الله تعالى هنا أمر بقول ما هو أحسن «وليس فقط ما هو» حسن، فإذا كان أحـدنا بين قولين أحـدهما "حسن" والآخر "أحسن" فالواجب عليه أن يختار الأحسن "ويقول: الأحسن"، ومن باب أولى يجب عليه أن يترك ويتحاشى ما ليس حسنا ، مما هو سيئ أو بذيء أو رديء.
والفائدة الثانية: هي أن الشيطان يتربص ويترصد الفلتات والهفوات، ليحرك بها الظنون، ويوغر بها الصدور، ويغير بها النفوس، فإذا التزم المتكلم غاية الأدب واختار أحسن القول، سد الأبواب على نزغات الشيطان، وقطع الطريق على الحزازات والحساسيات.