لا بديل عن الدين
أ.د. يوسف القرضاوي
من الناس من يتصور إمكان الاستغناء عن الدين بالعلم الحديث حينًا، أو المذاهب الفكرية (الأيديولوجيات) الحديثة حينًا آخر، وكلا التصورين خطأ؛ فقد بيَّن الواقع الناطق أنه لا شيء يُغني عن الدين، ويقوم بديلًا عنه في أداء رسالته الضخمة في حياة الإنسان.
العلم ليس بديلًا عن الدين:
أما العلم فليس بديلًا عن الدين والإيمان بحال. فإن مجال العلم غير مجال الدين. وأريد بـ "العلم" هنا العلم بمفهومه الغربي المحدود، لا بمفهومه الإسلامي الشامل ـ الذي يشمل العلم بالظواهر الجزئية للكون، والعلم بحقائق الوجود الكبرى ـ أي ما يشمل علم الدنيا، وعلم الدين. فليس هو علم المادة وخواصها فحسب، بل العلم المتعلق بالكون والحياة والإنسان، وخالقها سبحانه.
العلم بالمفهوم الغربي لا يصلح بديلًا عن الدين؛ لأن مهمة هذا العلم أن ييسر للإنسان أسباب الحياة، لا أن يفسر له ألغازها. العلم يعين الإنسان على حل مشكلة العيش، ولكنه لا يعينه على حل مشكلة الوجود وقضاياه الكبرى.
ولهذا نرى أعظم البلاد في عصرنا تقدمًا في العلم، وأخذًا بأسبابه؛ يشكو أهلها من الفراغ الروحي، والقلق النفسي، والاضطراب الفكري، والشعور الدائم بالتفاهة والاكتئاب والضياع. ونرى شبابها ينقلبون بين شتى البدع الفكرية والسلوكية، ثائرين على آلية الحياة ومادية الحضارة، وإن لم يهتدوا إلى المنهج السليم والصراط المستقيم.
وهذا هو سر العوج والشذوذ والانحرافات، التي لمسها العالم كله في سلوك أولئك الشباب الحائرين، الذين يسمونهم "الخنافس" أو "الهيبيين" وأشباههم ممن ضاق ذرعهم بتفاهة العيش، وتمردوا على حضارة الغرب وإن نشأوا بين أحضانها.
إن العلم الحديث محدود الوسع، محدود القدرة، محدود المجال. في وسع العلم أن يمنح الإنسان الوسائل والآلات، ولكن ليس في وسعه ولا من اختصاصه أن يمنحه الأهداف والغايات، وما أتعس الإنسان إذا تكدست لديه الوسائل دون أن يعرف لنفسه هدفًا ولا لحياته قيمة، إلا أهداف السباع في العدوان، أو أهداف البهائم في الأكل والسفاد. أما هدف رفيع يليق بمواهب الإنسان، وخصائص الإنسان، وكرامة الإنسان، فلا.
إن الدين وحده هو الذي يمنح الإنسان أهدافًا عليا للحياة وغايات كبرى للوجود، ويجعل له فيه مهمة ورسالة، ولحياته قيمة واعتبارًا، كما يمنحه القيم الخلقية والمثل العليا التي تحبسه عن الشر، وتحفزه على الخير، لغير منفعة مادية عاجلة.
لقد قوى العلم الجانب المادي في الإنسان إلى أبعد حد، ولكنه أضعف الجانب الروحي فيه إلى أدنى مستوى. فقد أعطى العلم الإنسان جناحي طائر فحلق في الفضاء، وأعطاه خياشيم حوت فغاص في أعماق الماء، ولكنه لم يعطه قلب إنسان!
وحين يعيش الإنسان في الحياة بغير "قلب الإنسان"؛ تستحيل أدوات العلم في يديه إلى مخالب وأنياب تقتل وترهب، وإلى معاول وألغام تنسف وتدمر. تستحيل أدوات العلم إلى أسلحة ذرية، وقنابل نابالم، وغازات سامة، وأسلحة كيماوية، وجرثومية تنشر الموت والخراب عند استعمالها، وتشيع الذعر والخوف قبل استعمالها.
أجل قد استطاع العلم أن يضع قدم الإنسان على سطح القمر، ولكنه لم يملك أن يضع يده على سر وجوده وغاية حياته!
لقد اكتشف الإنسان بالعلم "أشياء" كثيرة، ولكنه لم يكتشف حقيقة نفسه! أوصله علم القرن العشرين إلى القمر، ولكن لم يوصله إلى السعادة والطمأنينة على ظهر الأرض! جلب من هناك بعض الصخور والأتربة، ولكنه لم يجد هناك ما يخرجه من التعاسة والقلق والضياع في كوكبه!
أصلح العلم ظاهر الإنسان، وعجز عن إصلاح باطنه، لم يستطع أن ينفذ إلى تلك "اللطيفة الربانية" المدركة الواعية، الشاعرة الحساسة، التي إذا صلحت صلح الإنسان كله، وإذا فسدت فسد الإنسان كله، ألا وهي القلب، أو النفس، أو الروح، سمها ما شئت، فهي حقيقة الإنسان!
أعطى العلم إنسان القرن العشرين سلاحًا انتصر به على بعض قوى الطبيعة، ولم يعطه ما ينتصر به على نفسه: على شهواته، وشكه، وقلقه، وخوفه، وتخبطه، وصراعه الداخلي والاجتماعي.
لقد تقدم الطب الحديث والجراحة إلى أقصى حدودهما في هذا القرن، وبدأ الأطباء يقولون: إن العلم يستطيع القضاء على كل مرض غير الموت والشيخوخة!! ولكن الأمراض تكثر وتتشعب وتنتشر بسرعة مذهلة، ومنها "الأمراض العصبية" و"النفسية" التي هي نتائج وأعراض "التناقض" الشديد الذي يمر به الفرد والمجتمع. وسر ذلك أن العلم المادي ـ على سعته واكتشافاته ـ لم يعرف حقيقة الإنسان، الذي عرف المادة وقوانينها، ولكنه لم يعرف نفسه، ولا غرو أن كتب أحد أقطاب العلم "ألكسيس كاريل" كتابه الشهير: "الإنسان ذلك المجهول".
ومن هنا حاول العلم الحديث أن يغذي كل الجوانب المادية في الجسم الإنساني، ولكنه فشل في تغذية النفس الإنسانية مما فيها من شعور وأماني وإرادة.. وكانت حصيلة ذلك جسمًا طويل القامة، قوي العضلات، ولكن الجانب الآخر ـ وهو أصل الإنسان ـ أصبح يعانى من أزمات لا حل لها.
لقد أكدت إحصائية: أن ثمانين في المائة (80%) من مرضى المدن الأمريكية الكبرى يعانون أمراضًا ناتجة عن أزمات نفسية وعصبية من ناحية أو أخرى. ويقول علم النفس الحديث: إن من أهم جذور هذه الأمراض النفسية: الكراهية والحقد والخوف والإرهاق واليأس والترقب والشك والآثرة والانزعاج من البيئة؛ وكل هذه الأعراض تتعلق مباشرة بالحياة المحرومة من الإيمان بالله.
الفلسفة ليست بديلا عن الدين:
لقد تبين لنا أن إنسان العلم الحديث هو "ذلك المجهول" الذي لم يستطع العلم أن يسبر غوره، وأن يتعرف على حقيقته، وأن ينفذ إلى أعماقه، كما بين ذلك "ألكسيس كاريل" و "رينيه دوبو"، وغيرهما. لقد عرف العلم الجمادات أو المادة، وحللها واكتشف قوانينها، ولكنه عجز عن معرفة الإنسان؛ لأن الإنسان من التركيب والتعقيد بحيث لا يعرفه إلا من خلقه فسواه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14).
ومادام العلم يجهل الإنسان؛ فلا يؤمل منه أن يحسن توجيهه وتربيته والتشريع له، بل بدا اليوم أن العلم ـ بعبارة أدق: تطبيقاته التكنولوجية ـ أصبح خطرًا على فطرة الإنسان، وبيئة الإنسان.
و"إنسان الفلسفة" ليس أحسن حظًا من إنسان العلم، والفلسفة رغم اهتمامها بالإنسان ـ منذ أنزلها "سقراط" من السماء إلى الأرض ووجه العقل الإنساني إلى محاولة اكتشاف ذاته: اعرف نفسك ـ لم تتفق على رأي في نظرتها إلى الإنسان: أهو روح أم مادة؟ جسم يفنى أم روح يبقى؟ عقل أم شهوة؟ ملاك أم شيطان؟ الأصل فيه الخير أم الشر؟ أهو إنسان كما نراه، أم ذئب مقنع؟ أو أناني أم غيري؟ أهو فردي أم جماعي؟ أهو ثابت أم متطور؟ أتجدي فيه التربية أم لا تجدي؟ أهو مختار أم مجبور؟
اختلفت الفلسفات في الإجابة عن هذه التساؤلات وتناقضت، فلا تستطيع أن تخرج منها بطائل، حتى قال شيخنا الدكتور عبد الحليم محمود ـ وهو أستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين ـ قبل أن يكون شيخا للأزهر: "الفلسفة لا رأي لها؛ لأنها تقول الرأي وضده، والفكرة ونقيضها".
هنا نجد الفلسفة الإلهية مناقضة للفلسفة المادية، والفلسفة المثالية مناقضة للفلسفة الواقعية، وفلسفة الواجب معارضة لفلسفة المنفعة أو اللذة، إلى آخر ما نعرفه من تناقضات في الساحة الفلسفية، فهذا يثبت، وذاك ينفي، وهذا يبني، وذاك يهدم.
ومن هنا لا تستطيع الفلسفة وحدها أن تهدى الإنسان سبيلًا أو تشفي له غليلًا، أو تمنحه منهجًا يركن له ويطمئن إليه، ويقيم حياته على أساسه.
وأبعد الفلسفات عن هداية الإنسان وإسعاده هي الفلسفات المادية، التي تنكر أن للكون إلها، وأن للإنسان روحًا، وأن وراء الدنيا آخرة. وعلى رأس هذه الفلسفات: الفلسفة الماركسية القائمة على المادة الجدلية، والتي تتبنى مقولة بعض الفلاسفة الماديين: ليس صوابًا أن الله خلق الإنسان، بل الصواب أن الإنسان هو الذي خلق الله !! ومثل ذلك: الفلسفات العبثية والعدمية والشكية؛ فكلها فلسفات تهدم ولا تبني، وتميت ولا تحيى.
ويُبيِّن شيخنا الدكتور دراز الفرق بين: الفلسفة والدين، فيرى أن الفلسفة فكرة هادئة باردة، أما الدين فهو قوة دافعة، فعالة، خلّاقة، لا يقف في سبيلها شيء في الكون إلا استهانت به أو تبلغ هدفها.
ذلك هو فصل ما بين الفلسفة والدين، غاية الفلسفة المعرفة، وغاية الدين الإيمان، مطلب الفلسفة فكرة جافة، ترتسم في صورة جامدة، ومطلب الدين روح وثابة وقوة محركة.
لا نقول كما يقول كثير من الناس: إن الفلسفة تخاطب العقول، وإن الدين في كل أوضاعه لا يقنع بعمل العقل قليلًا أو كثيرًا حتى يضم إليه ركون القلب.
الفلسفة تعمل إذًا في جانب من جوانب النفس، والدين يستحوذ عليها في جملها؛ ومن هنا يُستنبَط فرق دقيق بين الفلسفة والدين: ذلك أن غاية الفلسفة نظرية، حتى في قسمها العملي، وغاية الدين عملية، حتى في جانبه العلمي، فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرفنا الحق والخير ما هما؟ وأين هما؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحق الذي تعرفه، والخير الذي تحدده. أما الدين فيعرفنا الحق لا لنعرفه فحسب، بل لنؤمن به ونحبه ونمجده، ويعرفنا الواجب لنؤديه ونوفيه، ونكمل نفوسنا بتحقيقه.
ثم يُبيِّن شيخنا أن الدين حركة شعبية (ديمقراطية) عامة، والفلسفة حركة (أرستقراطية) خاصة. فالدين يسعى بطبيعته إلى الانتشار، والفلسفة تجنح إلى العزلة، داعية الدين وسط الجماهير، ورجل الفلسفة في برجه العاجي، فإذا رأيت فيلسوف يدعو إلى مذهبه فقد تغير وضعه، وتحولت فكرته إلى إيمان، وإذا رأيت مؤمنًا لا يهتم إلا بنفسه فقد استحالت نار إيمانه إلى رماد.
.....
- المصدر: "مدخل لمعرفة الإسلام" لفضيلة الشيخ.