الوصايا العشر للخطباء والوعاظ والدعاة
بقلم: محمد الشيخ طاهر البرزنجي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد كان الناس من قبل يفقدون الرموز والقدوات بموت العلماء الربانيين أما في عصرنا هذا فإنا ندفن العلماء معنويا وهم أحياء وذلك بتسقيطهم وتصغيرهم والتشهير بهم وتشويه سمعتهم أمام الجيل الجديد ونتحمل بذلك ضياع شبابنا صرعى في براثن الفتن وما أكثرها.
ومن باب القيام بواجب النصح والتجديد في الخطاب ومراجعة النفس نهيب بأصحاب المنابر ومواقع التواصل من السادة العلماء سواء منهم الدعاة والوعاظ والخطباء والكتاب أن يراعوا هذه الوصايا ويقبلوها برحابة صدر من باب النصح الواجب والتذكير وصدق الله سبحانه: (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) ونسال الله التوفيق.
- قصر الخطبة والوعظ
عن ابي وائل قال خَطَبَنَا عَمَّارٌ رضي الله عنه ، فأوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يا أَبَا اليَقْظَانِ، لقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فلوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ، فَقالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ؛ مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ، فأطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الخُطْبَةَ، وإنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا.) صحيح مسلم ح 869)
وهذا لا يعني طول الصلاة وإنما قصر الخطبة مقارنة بالصلاة وقد روى مسلم من حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدا (صحيح مسلم الحديث رقم 866)
وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ؛ فإنَّ منهمُ الضَّعِيفَ والسَّقِيمَ والكَبِيرَ، وإذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ ما شَاءَ (صحيح البخاري الحديث رقم 703)
واخرج مسلم في صحيحه من طريق ابي وائل قال كانَ عبدُ اللهِ يُذَكِّرُنَا كُلَّ يَومِ خَمِيسٍ، فَقالَ له رَجُلٌ: يا أَبَا عبدِ الرَّحْمَنِ إنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ وَنَشْتَهِيهِ، وَلَوَدِدْنَا أنَّكَ حَدَّثْتَنَا كُلَّ يَومٍ، فَقالَ: ما يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ إلَّا كَرَاهيةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَتَخَوَّلُنَا بالمَوْعِظَةِ في الأيَّامِ، كَرَاهيةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا (صحيح مسلم الحديث رقم 2821).
وقد انشغل الحفاظ المتقدمون بجمع خطب النبي صلى الله عليه وسلم وصنفوا الكتب في خطبه ومنها كتاب خُطب النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن محمد المدائني (توفي :224هـ) وخُطب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الشيخ عبدالله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني (توفي 369هـ) و خُطب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي نُعيم الأصبهاني (توفي 430) وغيرهم.
وكذلك وردت نماذج من خطب النبي صلى الله عليه وسلم متفرقة في الصحاح والسنن والمسانيد.
ولو راجعنا هذه الكتب لتبين لنا كم كانت خطبه ومواعظه قصيرة عليه الصلاة والسلام
على سبيل المثال لا الحصر فقد روى الترمذي أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ خطبَ النَّاسَ يومَ فتحِ مَكَّةَ، فقالَ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليَّةِ وتعاظمَها بآبائِها فالنَّاسُ رجلانِ: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّهِ، والنَّاسُ بنو آدمَ، وخلقَ اللَّهُ آدمَ من الترابِ، قالَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير (صحيح الترمذي حديث رقم 3270).
وحتى خطبته بحجة الوداع كانت قصيرة بالرغم من أهميتها حيث استشعر دنو أجله بنزول آيات قرآنية معروفة وكانت الأمة مجتمعة له في صعيد واحد وهو يخطب خطاب مودع لأمته بعد أن أدى رسالته عليه صلوات ربي وسلامه.
خلاصة القول أن المصلي اليوم قد يصلي عند خطيب بارع في الخطابة ولكن لطول خطبته ينسى المصلي في نهاية الخطبة ما قاله الخطيب في أول خطبته فيخرج من المسجد الجامع ولم يحمل معه رسالة الأسبوع لان الخطيب لم يتبع سنة نبيه القدوة صلى الله عليه وسلم في إلقاء خطبة قصيرة ولكن معبرة.
- الرفق في اسلوب الخطاب واللين في الحديث
قال الله عز وجل في كتابه الكريم (فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ)
ومعلوم أن أخلاق النبي الكريم وأسلوبه التربوي الرحيم ومنهجه الدعوي الحكيم كانت ترجمة لخلق القرآن العظيم كما روى الإمام مسلم من حديث سَعْدَ بنَ هِشَامِ بنِ عَامِرٍ وفيه (فقلت يا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عن خُلُقِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ القُرْآنَ؟ قُلتُ: بَلَى، قالَتْ: فإنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ القُرْآنَ) صحيح مسلم حديث رقم 746.
وثبت في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام (الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، (صحيح مسلم حديث رقم 2594)
وأي شيء من أمور الخطيب الداعية أهم من الخطبة فلا بد من لين الخطاب وحكمة الأسلوب والموعظة الحسنة وخصوصا في رمضان حيث النفوس مهياة للتوبة والإنابة وكما أمر سبحانه وتعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) سورة النحل آية 125.
وفي الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم بروايات عدة وبألفاظ متقاربة منها بلفظ: (يسروا ولا تعسروا وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّرُوا).
قال اهل العلم المراد من قوله: (سَكِّنُوا) إدخال الطمأنينة والهدوء على نفس المرء الذي يريد التوبة من المعصية وتذكيره بسعة رحمة الله وأنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا فيطمع في العفو والغفران ويثوب إلى بارئه الرحمن.
3- الابتعاد عن التكفير واللعن والسب والشتم
فقد صح من حديث ثابت بن الضحاك مرفوعا ومَن لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهو كَقَتْلِهِ، ومَن قَذَفَ مُؤْمِنًا بكُفْرٍ فَهو كَقَتْلِهِ. (صحيح البخاري حديث رقم 6047)
قال شراح الحديث من العلماء الاعلام إن لهذا النص النبوي الشريف معان عديدة:
فلعن العالم كقتله في الإثم وكذلك لعن العالم وتكفيره كقتله حيا لان لاعنه سيحرم كثيرا من الناس من الاستماع إليه والانتفاع بعلمه فهو كقتله حيا.
ولنا في رسول الله أسوة حسنة في الابتعاد عن السب والشتم حتى مع الخصوم كما روى البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنَّ اليَهُودَ أتَوُا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: وعلَيْكُم، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ علَيْكُم، ولَعَنَكُمُ اللَّهُ وغَضِبَ علَيْكُم، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَهْلًا يا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وإيَّاكِ والعُنْفَ، أوِ الفُحْشَ) صحيح البخاري ح 6401.
وهذا الخلق العظيم ترجمة عملية لقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) سورة آل عمران 159.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ علَى المُشْرِكِينَ قالَ: إنِّي لَمْ أبْعَثْ لَعَّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً) صحيح مسلم الحديث رقم 2599).
وإذا كان هذا خلقه مع المشركين واليهود فكيف يكون الأمر مع المسلمين.
ولقد استغربت حين سمعت أحد الخطباء الكرام وهو يستشهد بموضعين من مواضع السيرة الشريفة حيث غضب عليه الصلاة والسلام فاشتد بالقول على بعض الناس المخالفين فقال الخطيب المذكور حفظه الله وهذا دليل لنا نستقوي به حين نلعن ونشتم المخالفين العصاة فقلت سبحانه الله هذا استنباط غير علمي ولم يقل به جمهور أهل العلم.
فالأصل قوله تعالى ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران 159
وقوله عليه الصلاة والسلام (إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً) صحيح مسلم الحديث رقم 2599).
وقوله عليه الصلاة والسلام (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) متفق عليه
ثم ولو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قد سب مسلما يوما من الأيام وذلك نادر الحصول جدا ولا يعتبر أصلا وقاعدة غالبة، ثم إنه عليه الصلاة والسلام طلب من بارئه أن يعوض ذلك الصحابي قربا منه سبحانه يوم الدين كما أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة) صحيح البخاري حديث رقم 6000.
4- الاقتداء بالأئمة الأعلام فيما تراجعوا عنه في المسائل الخلافية الاجتهادية بعد نضوج أفكارهم الفقهية
من الطبيعي ان يصل الفقيه الى مرحلة نضوج الآراء الفقهية الاجتهادية كلما تقدم في العمر
وأعني اختيار الراجح في التعامل مع الحوادث المستجدة في عصرهم حيث اجتهدوا في اختيار مواقفهم من مسألة واحدة من حوادث عصرهم فاختلفوا في بداية الأمر ثم اتفقوا على منحى اجتهادي راجح لديهم.
بعد جيل الصحابة والتابعين الكرام ومن تبعهم بإحسان وانتشار الفرق واستفحال أمرها انبرى عدد من علماء الإسلام لبيان تفاصيل مسائل الاعتقاد وفي خضم الجدال والشرح والنقاش صدرت منهم فتاوى فيها شيء من التعجل والشدة والمبالغة !!!حتى بلغ حد التكفير لبعضهم البعض من حدة الصراع الفكري والسجال المرير !!!ولكن بعد مرور سني العمر بدأ أولئك العلماء بمراجعة آرائهم وحكمهم على الأشخاص المخالفين وتبين لهم الراجح من القول فتراجعوا عن آرائهم السابقة.
وسنضرب لذلك مثالين اثنين (الإمام أبي الحسن الأشعري وشيخ الإسلام ابن تيمية)
إذ يقول الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء عند ترجمته للإمام الأشعري: رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات.
قلت (الذهبي) وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)
فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم ) (كتاب سير أعلام النبلاء 15/89).
5 - الابتعاد عن الاختلاف المذموم قدر الإمكان وتقبل آراء العلماء الآخرين في المسائل العلمية الخلافية وامتثال قوله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا)
إذا اختلفت آراء العلماء في المسألة وكان لكل دليله فليأخذ العالم بما رآه راجحا دون التنقيص من رأي مخالفيه والتشهير بهم
وخير مثال على ذلك اختلاف العلماء في صدقة الفطر فليسعنا ما وسع أصحاب رسول الله في كيفية إخراج صدقة الفطر وغيرها من المسائل
وقبل أن نتحدث عن صدقة الفطر نود ان نذكر السادة العلماء بما تربى عليه الصحب الكرام من سعة الصدر وتقبل الرأي الاخر في فهم النصوص في دائرة المقبول تحت سمع وبصر قدوتهم صاحب الخلق العظيم عليه الصلاة والسلام
إذ تعلموا في عهد نزول الوحي أن يتقبلوا الفهم المقابل للنص مادام الخلاف العلمي في دائرة المسموح المقبول على سبيل المثال ما صح من حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ"،)
ففهم شطر من الصحابة الكرام هذا النص بطرقة مغايرة لفهم الشطر الآخر كما يبين ابن عمر وهو يكمل روايته فيقول: (فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ)
هنا جاء إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للطرفين فأقر كلا الطرفين ولم يخطئ أحدا منهم كما قال ابن عمر في ختام الرواية (فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ) صحيح البخاري، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، رقم الحديث: 899.
بعد هذا المدخل العلمي نقول: في رمضان من كل عام ينقسم الخطباء إلى قسمين منهم من لا يجوز إخراج صدقة الفطر إلا بالتمر او القمح ومنهم من يجوز إخراجه بالنقود فيكون الناس في حيرة.
وقد كان الأمر واسعا بين فقهاء الصحابة في هذه المسألة فليسعنا ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أعلم بالنصوص النبوية الشريفة وأفهم وأوعى لها.
فقد صح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال كُنَّا نُعْطِيهَا في زَمَانِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَاعًا مِن طَعَامٍ، أوْ صَاعًا مِن تَمْرٍ، أوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ، أوْ صَاعًا مِن زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وجَاءَتِ السَّمْرَاءُ، قالَ: أُرَى مُدًّا مِن هذا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ). صحيح البخاري حديث رقم 1508)
والحديث عند الترمذي بزيادة (فأخذَ النَّاسُ بذلِكَ قالَ أبو سعيدٍ فلا أزالُ أخرجُهُ كما كنتُ أخرجُه) (سنن الترمذي الحديث رقم 673) .
الفهم الأول: للنص النبوي كما من يتبين من أقوال الصحابة وتفسيرهم للسنة النبوية الشريفة: هو فهم أبي سعيد الخدري رضي الله عنه للنص النبوي (فلا زال أخرجه كما كنت أخرجه)
الفهم الثاني: للصحابة الكرام وتعاملهم مع النص النبوي هو أنْ يُخرَجَ مِن الحِنطةِ الشاميَّةِ نِصفُ صاع لأن قمح الشام (السمراء) أثقل وزنا من قمح الحجاز وقال العلامة المباركفوري قول الراوي (فأخذ الناس) أي الصحابة رضي الله عنهم و في مقدمتهم معاوية رضي الله عنه ومن شاطره الرأي من الصحابة وهذا هو فهم آخر للنص النبوي والتعامل معه.
أما الرأي الثالث فهو فهم بعض الصحابة للنص بإخراج زكاة الفطر ولو بالنقود مقابل الطعام وهذا فهم ثالث للنص والتعامل معه:
فقد بوب شيخ البخاري الحافظ ابن أبي شيبة في مصنفه فقال: (باب إخراج الدراهم في زكاة الفطر).
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الإمام التابعي أبي إسحاق السبيعي قال: أدركتهم -يعني الصحابة ـ وهم يعطون في صدقة رمضان الدّراهم بقيمة الطّعام. (مصنف ابن أبي شيبة: 3/174) وأبو إسحاق إمام ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين وقد ادرك عددا من الصحابة منهم سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان هذا النوع من الفهم والتعامل كذلك مذهب عمر بن عبد العزيز وهومن كبار فقهاء العالم الاسلامي في زمانه فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عمر بن عبد العزيز انه كتب إلى ولاته في الأمصار أن صدقة الفطر نصف صاع على كل إنسان او القيمة نصف درهم.
ثم جاء الأئمة الأربعة الأعلام من بعدهم فأجاز أبو حنيفة إخراج صدقة الفطر بالدراهم ولم يجوزه الإمام الشافعي أما الإمامان مالك واحمد فلهما قولان في ذلك.
خلاصة القول أن فقهاء الصحابة الكرام قد وسعهم اختلاف الفهم للنص النبوي والتعامل معه فيما يتعلق بصدقة الفطر والجميع في دائرة السنة مادام أمر رسول الله منفذا ولم يعنف بعضهم بعضا كما تعلموا من تعامل الرسول الكريم معهم صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين.
وكذلك فعل من بعدهم الأئمة الأعلام فليسعنا ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم من علماء التابعين والأئمة الأربعة المتبوعين في الدين فالجميع داخل في دائرة متابعة السنة إن شاء الله سواء من أخرج صدقة الفطر بشرائه للتمر الجيد وإعطاءه للفقير يسد به رمقه أو من أخرجه نقودا يستعمله الفقير يكسي به أولاده الصغار في العيد فيدخل السرور في قلوبهم الصغيرة أو يشتري به دواء يكفي ولده المريض ما شاء الله له ان يكفيه ،
فالكل متبع لسنته إن شاء الله تعالى وبحبوحة السنة في هذه المسألة وسعت الصحب الكرام فلتسعنا كما وسعتهم.
6- التأكد من صحة الحديث قبل الاستشهاد به على المنبر
لا بد للواعظ الكريم والخطيب اللبيب ان يتأكد من صحة الأحاديث التي يريد ذكرها في خطبته وذلك قبل صعوده للمنبر
وقد استمعت إلى شيخ جليل زاده الله علما يذكر الأثر (إنَّ عبداً أصححتُ له جسمه ووسعتُ عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليَّ لمحروم) رواه أبو يعلى (2 / 304) والبيهقي (5 / 262).
ولو راجع هذا الداعية الفاضل كتب الحفاظ المتقدمين والمتأخرين لتبين له أن هذا الخبر مختلف في صحته والراجح انه لا يصح بجميع طرقه سندا ولا متنا ولم يصححه من المتقدمين سوى ابن حبان وهو (على جلالة قدره) متساهل في توثيق الرواة كما قال العلماء الأقدمون، وصححه من المتأخرين الحافظ الهيثمي رحمه الله ومن المعاصرين العلامة الألباني رحمه الله ولكن الأكثرين من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين على تضعيفه.
أما من ضعفه من الحفاظ المتقدمين (البخاري والدارقطني والعقيلي) فقد قال الدار قطني: وقد روي من غير طريق، ولا يصح منها شيء. وقال البخاري هذا منكر. وكذلك ضعفه العقيلي ومعلوم أن البخاري والدارقطني والعقيلي من من كبار الحفاظ المتقدمين المتبحرين في علم علل الحديث.
وكذلك قد ضعفه من بعدهم ابن العربي المالكي فقال حديث موضوع ورواية هذا الحديث حرام فكيف إثبات حكم به.. وضعفه من المعاصرين العلامة بن باز رحمه الله.
ثم إن متنه مخالف لما صح من الحديث النبوي الشريف من حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال :خطَبَنا -يعني رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فقال: يا أيُّها الناسُ، كُتِب عليكم الحَجُّ، قال: فقام الأَقْرعُ بنُ حابِسٍ فقال: أفي كلِّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: لو قلتُها لوجَبتْ، ولو وجَبتْ لم تعمَلوا بها، -أو: لم تستطيعوا أنْ تَعمَلوا بها- الحَجُّ مرةً، فمَن زاد فهو تطوُّعٌ) مسند احمد (حديث 2304) والنسائي( حديث 2620) لذلك قال الإمام السبكي : قد اتفق العلماء على أن الحج فرض عين على كل مكلف حر مسلم مستطيع مرة في العمر)
لذا قال بعض أهل العلم هذا الحديث (الحج كل خمسة أعوام) لا يصح سندا ولا متنا.
7- الجمع بين الأحاديث المتعارضة ظاهرا قبل إصدار فتاوى أو أحكام تعتمد على شق واحد من دليلين متعارضين
سأل يوما أحد المصلين شيخا داعية فاضلا فقال إني أسمع النداء وأحب ان أصلي الظهر في الجامع لا في مصلى المؤسسة التي أعمل فيها ولكن صاحب تلك المؤسسة أو المسؤول عنها لا يسمح لي بالخروج في أوقات العمل فهل علي في ذلك ذنب يا شيخ؟ فأجابه الداعية الشيخ: صلاتك باطلة لأنك سمعت النداء ولم تذهب إلى المسجد!!! فقلت سبحان الله هذا رسول الله صلوات ربي عليه أعلمنا بالله وأشدنا خشية له لم يقل هذا الكلام لمن جلس خلف الصف واكتفى بصلاته في البيت فكيف تجرأ هذا الشيخ فأفتى وقال قولته الخطيرة هذه؟ ثم سألته فقلت: فضيلة الشيخ هل وافقت يوما وأنت في طابور الانتظار لأخذ راتبك من دائرة الأوقاف وقت رفع المؤذن أذان الظهر ففاتتك الصلاة؟ فقال الشيخ نعم ولكن لم تفتني الصلاة لأني صليت في مصلى الدائرة!! قلت سبحان الله فهل صلاتك باطلة كما أفتيت لغيرك؟ فسكت!! فقلت أخي الكريم فضيلة الشيخ لو تأنيت قبل إصدارك فتواك ورجعت إلى ما درست عند شيوخ العلم لما حكمت على السائل ببطلان صلاته ولو جمعت الأحاديث في الباب واطلعت على قواعد أهل العلم في التعامل مع النصوص المتعارضة ظاهرا لما قلت ما قلت
وليس الموضع هنا موضع التفصيل فيما يتعلق بالجمع بين الدليلين فهو معلوم عند السادة العلماء ولكن من باب التذكير فقط نستشهد بمثال واحد يتعلق بالمسألة
فمن طرق الجمع بين النصين المتعارضين ظاهرا: التبعيض: وهو أن يكون حكم كل من الدليلين المتعارضين قابلًا للتبعيض كأن يكون حكم كل واحد من الدليلين متعددًا، فيحتمل أحكامًا كثيرة، فيعمل بالدليلين، بأن يثبت بكل واحد منهما حكما .
وقد ورد في صلاة المسلم في المسجد أو البيت حديثان
الحديث الأول : ما صح من حديث يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ رضي الله عنه ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الخَيْفِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ انْحَرَفَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَى القَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ، فَقَالَ: «عَلَيَّ بِهِمَا»، فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ: «مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا»، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلَا، إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ) سنن الترمذي حديث رقم 219 وقال الترمذي حديث حسن صحيح).
قال العلماء هذا الحديث الأول يحتمل الصحة والفضيلة.
الحديث الثاني: ما صح من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: أَتَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه ليسَ لي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلى المَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ له، فيُصَلِّيَ في بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ له، فَلَمَّا وَلَّى، دَعَاهُ، فَقالَ: هلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بالصَّلَاةِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فأجِبْ) (صحيح مسلم حديث رقم 653).
فهذا الحديث الثاني يحتمل ثلاثة أحكام: نفي الصحة ونفي الكمال ونفي الفضيلة.
والجمع بين الحديثين يكون بالشكل التالي:
حديث يزيد بن الأسود (الأول) يفيد الصحة، فصلاة الرجلين صحيحة في رحلهما.
حديث أبي هريرة(الثاني) يفيد الفضيلة والكمال فالصلاة مع الجماعة أفضل وأكمل.
ويؤيد قول جمهور العلماء هذا ما ورد في النص النبوي الشريف (صَلَاةُ الرَّجُلِ في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ علَى صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ، وفي سُوقِهِ، خَمْسًا وعِشْرِينَ ضِعْفًا) صحيح البخاري حديث 647 وفي لفظ وفي لفظ آخر (صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً) صحيح البخاري حديث 645.
وهذان النصان يفيدان الفضل والزيادة في الأجر ولا تنفيان صحة صلاة الفرد لوحده.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابي هريرة مرفوعا ( لقَدْ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بحَطَبٍ، فيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بالصَّلاَةِ، فيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ لو يَعْلَمُ أحَدُهُمْ، أنَّه يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ العِشَاءَ ) صحيح البخاري حديث 644.فقد حمله بعض أهل العلم على صلاة الجمعة واستدلوا بحديث عبد الله ابن مسعود وفيه التصريح بصلاة الجمعة كما عند مسلم (أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الجُمُعَةِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ) صحيح مسلم حديث 652.
وقال غيرهم من الحفاظ لا داعي لتفسير الصلاة الواردة في حديث ابي هريرة بحديث ابن مسعود (أي صلاة الجمعة) لان بعض ألفاظ الحديث ذكر صلاة العشاء كما عند البخاري ولكن المقصود بالمتخلفين من كانوا من المنافقين كما بين الحافظ النووي في شرحه للحديث فقال (ِإن هَؤُلَاءِ الْمُتَخَلِّفِينَ(عن الصلاة) كَانُوا مُنَافِقِينَ وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ الْعَظْمَ السَّمِينَ عَلَى حُضُورِ الْجَمَاعَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي مَسْجِدِهِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّقْ بَلْ هَمَّ بِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ لَمَا تَرَكَهُ) ونسب النووي هذا التوفيق بين النصوص إلى جمهور العلماء.
ومما يؤيد توفيق الحافظ النووي بين النصوص ما ورد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (وَلقَدْ رَأَيْتُنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ) صحيح مسلم حديث رقم 654.وهذا نص صريح يبين أن القوم الذين هَمَّ أن يحرق عليهم بيوتهم كانوا من المنافقين المعلومي النفاق لدى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
خلاصة القول أن النصوص النبوية تحض المسلمين على الصلاة في المساجد وأن فيها الخير العميم والأجر العظيم وقد أثنى الله سبحانه على عمار المساجد خيرا في آيات قرآنه الكريم وكذلك رغب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه في حضور صلاة الجماعة في المسجد وكان الصحب الكرام حريصين جدا على أداء الصلوات كلها في المسجد جماعة كما في صحيح مسلم (وَلقَدْ كانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى به يُهَادَى بيْنَ الرَّجُلَيْنِ حتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ) صحيح مسلم حديث رقم 654. ولكن مع كل ذلك الفضل والكمال فصلاة من لم يستطع حضور المسجد ليست باطلة، بل صحيحة مقبولة بإذن الله.
8- تجنب الخطيب ذكر مخالفه في الرأي بصريح اسمه
كما بوب البخاري في صحيح بقوله (بَابُ مَنْ لَمْ يُوَاجِهِ النَّاسَ بِالعِتَابِ)
وأخرج حديثا وفيه قوله عليه الصلاة والسلام (ما بال أقوام) ولم يذكر أسماءهم.
فإذا سمع الخطيب او الداعية من عالم ما يظنه خلاف الصواب فليتصل به عن طريق الهاتف أو يقوم بزيارته في محل إقامته وإن اضطر للحديث عنه على المنبر فليقل قال أحد العلماء كذا وكذا والصواب كذا وكذا دون ذكر اسمه فذلك أبلغ في النصح.
ولو اتصل به عبر الهاتف أو لقيه وجها لوجه لكان ذلك أبلغ في النصح وأوقع في النفوس وأرجى للفائدة.
ولقد قال الإمام النووي في شرحه للنص النبوي (ما بال أقوام) الأوْلى ترك التشهير والإعلان بالإنكار على المعين أمام الناس إن كان الأمر لا يتطلب ذلك، وينبغي أن يسر بالنصيحة إليه ليتحقق القبول.
ولصاحب كتاب "منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه (عبد الله بن سعيد الحضرمي المكي) كلام رائع إذ يقول (ولا يتعرّض صلى الله عليه وسلم في وعظه لأحد معيّن، بل يتكلّم خطاباً عامّاً، لحصول الفائدة فيه لكل سامع، مع ما فيه من حصول المواراة والستر عن الفاعل وتأليف القلوب).
فيا إخوتي الدعاة والخطباء لو أننا اقتدينا بإمام الدعاة وسيد العلماء وأبلغ الخطباء سيدنا القدوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أسلوبه في النصيحة (بإبدائه الحلم والحكمة والرفق والستر) لكان لنصيحتنا الأثر الكبير في نفوس الناس ولتجنبنا كثيرا من العناء والشحناء والعداوة البغضاء وهدر الوقت الثمين.
9- تجنب الخوض في المسائل الغريبة عن أفهام أهل العصر (سوى المسائل المعلومة بالضرورة من الدين)
إن الحديث لعامة الناس يقتضي عدم ذكر تفاصيل المسائل التي لا تستوعبها عقولهم، بل تتقبلها أفهام العلماء فيما بينهم وقد أخرج البخاري عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أنه قال «حَدِّثُوا النَّاسَ، بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (صحيح البخاري كتب العلم بَابُ مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا -حديث رقم 127)..
ومن الأفضل للداعية العالم أن يدعو عامة الناس للأمور الواضحة المحكمة ويبتعد عن دقائق المسائل واختلاف العلماء وأن لا يحدث الناس بما يصعب أو يشكل عليهم فهمه ويضعونه في غير موضعه.. وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال (مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً) مقدمة صحيح مسلم صفحة11).
لذا كان لزاما علي العالم أن يراعي قدرات الناس العقلية لفهم الأمور فلا يكون سببا في التباس الأمر عليهم ووقوعهم في الفتنة وإثارة الشبهات في أذهانهم فيحيدون عن الطريق القويم فيكون العالم الخطيب بكلامه ذلك سببا لفتنة بعض السامعين .
10-عدم صرف الأوقات الثمينة في تتبع عورات العلماء ومجادلتهم إلى حد المراء
قال الله عز وجل: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ (الحجرات: 12).
وقال عليه الصلاة والسلام (لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم ، فإنه من اتَّبعَ عوراتِهم يتَّبعُ اللهُ عورتَه ، ومن يتَّبعِ اللهُ عورتَه يفضحُه في بيتِه) مسند احمد (19776) بسند حسن صحيح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وهو محق) رواه أبو داود في سننه وغيره بسند حسن.
ونقول للسادة العلماء من الخطباء والوعاظ والدعاة:
يا سادتنا يا ملح البلد:
الأولى بنا أن ننشغل بتعليم الناس آيات القرآن ونصوص السنة (الحكمة) وهي البيان للقرآن وتزكية النفوس لقوله تعالى (يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ) سورة الجمعة 2. وننشغل كذلك بنشر الأخلاق الحسنة لقوله عليه الصلاة والسلام (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) أخرجه أحمد (8939) بسند صحيح ونصرة المظلوم لقوله عليه الصلاة والسلام ( انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا. فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: تَحْجُزُهُ -أوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ) صحيح البخاري حديث 6952.... وإفشاء السلام لقوله عليه الصلاة والسلام (أفشوا السلام بينكم) صحيح مسلم 54. وطيب الكلام لقوله عليه الصلاة والسلام (الكلمة الطيبة صدقة) صحيح البخاري 2989.
وبيان أبواب الحلال والحرام كقوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) البقرة 275، وقوله تعالى: (كلوا مما رزقناكم حلالا طيبا) المائدة 88) وآيات اخرى كثيرة.
فالأولى أن نتعهد الناس بهذه الأعمال الصالحات من شعب الإيمان التي ذكرنا بدلا من البقاء منشغلين ببعضنا على المنابر ومنصات التواصل الاجتماعي (كاليوتيوب والفيسبوك والانستغرام وغيرهما) يرد بعضنا على البعض الآخر!!! ويتهم بعضنا البعض الآخر بالجهل معاذ الله.
والله سبحانه سائلنا جميعا يوم القيامة عن أوقاتنا وأوقات مستمعينا واتباعنا في أي شيء شغلناها وعن وحدة الكلمة والصف والاعتصام بحبل الله هل ضيعناها؟
خلاصة الداء والدواء:
لقد أصيبت الأمة بداء الشحناء والبغضاء والتحاسد بين الدعاة والعلماء والخطباء والوعاظ والتراشق الكلامي الغليظ فيما بينهم لذا انفض كثير من الشباب من حولهم فضاعوا وصاروا فريسة للأفكار الهدامة وما أكثرها (كالتكفير وإنكار السنة النبوية والطعن في عدالة الصحابة والإلحاد) ونحن طلبة العلم والدعاة والعلماء والخطباء والوعاظ نتحمل شطرا من وزر ذلك الضياع بتناحرنا وتباعدنا وتفرقنا وتدابرنا وصراعنا ضد بعضنا البعض.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف الداء كما روى عنه الزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ) اخرجه أصحاب السنن وجود إسناده الحافظ المنذري والحافظ الهيثمي.
ولقد تعددت المدارس والمجموعات والمؤسسات والهيئات ولكل منابره وانتشرت بينها الشحناء والعداوة والبغضاء وضاع الشباب بينهم جميعا.
فلنبدأ من جديد بزرع الثقة والمحبة والتناصر والتعاون على البر والتقوى بيننا.
وما دام الوصف النبوي قد وضع اليد على الجروح والقروح فلا بد ان تكون الوصفة العلاجية النبوية كذلك خيرا من كل وصفة في رسم طريق العودة إلى مقام الأمة الوسط فقد قال عليه الصلاة والسلام (والذي نفسي بيده لَا تَدْخُلُون الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم حديث رقم 54.
فلنبدأ بإفشاء السلام بيننا بدل الخصام ونسلك طريق الإيمان متكاملين يخفض بعضنا جناحه للآخر ويعينه ويدفع عنه الشر والظلم (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة 71. ثم نمضي على الطريق عسى أن يكتمل إيماننا فنتسامى فوق الفرقة والشقاق وتمزق الأمة وضعفها وهزيمتها.
نعم لا بأس أن ننبه على أخطاء الدعاة والعلماء ولكن دون التشهير بهم واتهام نواياهم وسبهم ولعنهم كي لا نحرم الشباب من علمهم وخبرتهم وخيرهم.
ولو تتبعنا زلة كل عالم فينا وجمعنا سقطاته ونشرناها على الملأ لما بقي لنا عالم نحرير نقتدي به وعندها يتخذ الشباب رؤوسا جهالا ممن يفتون بغير علم فيضلون ويضلون.
ونقول ما قلنا في المقدمة كان الناس من قبل يفقدون القدوات بموت العلماء الربانيين أما اليوم فإنا ندفن العلماء معنويا قبل موتهم وذلك بالتشهير بهم وتشويه سمعتهم أمام الجيل الجديد ونتحمل بذلك ضياع شباب الأمة صرعى في براثن الفتن.
أقول ما قلت فإن كان صوابا فمن الله التوفيق وإن كان خطأ فمني وأستغفر الله.