في ظلال مقاصد التوحيد (تعريف علم التوحيد)
بقلم: الدكتور انجوغو امباكي صمب – عضو الاتحاد
سلسلة مقالات رمضانية ملخصة من كتابي "مقاصد التوحيد ومنافعه" أنشرها تباعا في شهر رمضان المبارك، ونسأل الله عز وجل أن ينفع بها القراء والمتابعين من كل مكان.
الحلقة الأولى: تعريف علم التوحيد.
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد.
فإن عقيدة التوحيد هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }[1]، وقال صلى الله عليه وسلم ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء))[2]، و هي زبدة رسالات الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ومحور شرائعهم، قال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ }[3].
وبهذه العقيدة الصافية الناصعة تحيى القلوب وتزكو النفوس، وتسعد البشرية في الدنيا، وتفلح في الآخرة، قال تعالى{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[4]، ومن خصائص هذه العقيدة التي تتميز بها عن سائر العقائد أنها عقيدة حية فعالة، تبعث على الإيمان الراسخ والعمل الصالح والسلوك القويم، فهي: اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح، و تحرر الناس من عبودية الهوى والطواغيت وسائر الآلهة الباطلة، وتنقذهم من ظلمات الجاهلية، و تخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
- تعريف علم التوحيد.
وضع العلماء تعريفات كثيرة لعلم التوحيد تبين حده وتشرح حقيقته، فقال الشيخ محمد عبده (1905م) رحمه الله: ((علم يبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن يثبت له من صفات، وما يجوز أن يوصف به، وما يجب أن ينفى عنه وعن الرسل لإثبات رسالتهم، وما يجب أن يكونوا عليه وما يجوز أن ينسب إليهم وما يمتنع أن يلحق بهم))[5]، وقال الشيخ محمود السبكي (1933م ) : هو ((علم يبحث فيه عن معرفة العقائد الدينية، وهى التي يجب على كل مكلف: ذكر أو أنثى حر أو رقيق أن يعتقدها))[6].
ولهذا العلم الشريف ألقاب أخرى تدل على عظمته وكبير عناية أهل العلم به، ومن تلك الألقاب : العقيدة، والإيمان، والسنة، وأصول الدين، والشريعة، والفقه الأكبر، [7]، ومن العلماء من يطلق عليه علم الكلام.
- فضل علم التوحيد.
إن علم التوحيد هو أفضل العلوم على الإطلاق، ذلك لأن فضل العلم يعود إلى موضوعه، وموضوع علم التوحيد معرفة الله تعالى ذاتا وصفاتا وأفعالا وحقوقا، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، قال تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[8]، قال السعدي (1376ه) رحمه الله ((العلم لا بد فيه من إقرار القلب، ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه، ولا يتم ذلك إلا بالعمل بمقتضى ذلك العلم في كل مقام بحسبه؛ وهذا العلم الذي أمر الله به فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد كائنا من كان، والضرورة إلى هذا العلم والعمل بمقتضاه من تمام التأله لله فوق كل ضرورة))[9].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن، قال: ((إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم...)) [10]، وقوله ((فإذا عرفوا الله ...)) : قال ابن حجر رحمه الله (( وقوله فإذا عرفوا الله : أي عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة الإقرار والطواعية فبذلك يجمع بين هذه الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة وبالله التوفيق))[11] .
وقد اتفق علماء الشريعة على أن علم التوحيد هو أفضل العلوم على الإطلاق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ((الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية وهي أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها وأسماها والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق وإلى جهته تمتد الأعناق فالمهتدون فيه أئمة الهدى كإبراهيم الخليل وأهل بيته، وأهل الكذب فيه أئمة الضلال كفرعون وقومه ...))[12]
- تقسيمات التوحيد.
من العلماء من قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام وهي : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، (( وذلك أنَّ أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء: أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعاً، والثاني: أن يعتقد وحدانيته ليكون مبايناً بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره، والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه ...))[13]، ومنهم من جعله على قسمين وهما : توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب، قال ابن القيم رحمه الله (( وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله، ونزلت به كتبه فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في المطلب والقصد، فالأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله... ، وإثبات عموم قضائه، وقدره، وحكمه...، النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[14]، وقوله : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[15]، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة يونس، ووسطها، وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد )) [16].
واجتهد بعض العلماء والمصلحين في التعبير بما يسمى ب ( توحيد الحاكمية )، وبعض العلماء المعاصرين يعتبرون هذا القسم من التوحيد بدعة محدثة، وذهب آخرون إلى اعتباره داخلا في أقسام التوحيد الأخرى، وخاصة توحيد الألوهية، يقول الشيخ محمد بن خليفة بن علي التميمي : (( ومن المتأخرين من زاد قسمًا رابعًا على الأقسام الثلاثة السابقة وسماه توحيد الاتباع أو توحيد الحاكمية، أي: التحاكم إلى الكتاب والسنة، ولكن يلاحظ على من ذكر هذا القسم أن هذا القسم في الحقيقة داخل ضمن توحيد الألوهية، لأن العبادة لا تقبل شرعًا إلا بشرطين هما: الإخلاص والاتباع))[17].
والأصل في تقسيم التوحيد هو الاجتهاد في النظر والتدبر في نصوص القرآن والسنة النبوية الصحيحة، قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله (( هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن مندة وابن جرير الطبري وغيرهما، وقرره شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقرره الزبيدي في تاج العروس وشيخنا الشنقيطي في أضواء البيان...)) [18].
يتبع .....
[1] سورة الروم ، الآية 30
[4] سورة الأنعام ، الآية 122
[5] رسالة التوحيد ، تأليف محمد عبده ( ص 5 )
[6] الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق، تأليف محمود محمد خطاب السّبكي، 1 / 14
[7] انظر : علم التوحيد عند اهل السنة والجماعة المبادئ والمقدمات ، تأليف محمد يسري ، ص 80 ،
[9] تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، للسعدي 21
[11] فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر ( 13 / 354 )
[12] درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية( 5 / 377 )
[13] الإبانة ، لابن بطة ، ( 2 / 227 )
[14] سورة الكافرون ، الآية 1
[15] سورة آل عمران ، الآية 64
[16] انظر: مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية، 3 / 417
[17] معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، تأليف محمد بن خليفة بن علي التميمي، ص 37
[18] التحذير من مختصرات محمد بن علي الصابوني في التفسير، تأليف بكر بن عبد الله أبوزيد، ص 30