العالم بعد شهر من الحرب الروسية الأوكرانية.. تدحرج إلى اللايقين
بقلم: محمد بن سالم الراشد – عضو الاتحاد
بعد مضي أكثر من شهر من غزو روسيا لأوكرانيا، فإن الحرب مستمرة، فلم تنتصر روسيا، ولم تنهزم أوكرانيا، وما زالت الحرب سجالاً على الأرض الأوكرانية، بما ينذر باستمرار هذه الحرب واستمرار آثارها على العالم بشكل عام، وعلى الدولتين المتحاربتين وأوروبا بشكل خاص، وإذ تستمر الحرب بين الطرفين؛ فإن العالم يضج بآثارها وتصطدم مخرجاتها بالمتغيرات الجيوستراتيجية والسياسية والاقتصادية على المستوى العالمي، فبعد مضي شهر فإن التأثيرات قد نالت مستويات مختلفة ومتعددة من المتغيرات، من أهمها:
تنامي الخسائر المادية والبشرية بين الطرفين:
ومع تناول الروايات الروسية والأوكرانية والأوروبية وحلفائها، فإن تلك الروايات تعزز الخسائر، وأنها تزداد يوماً بعد يوم.
خسائر أعلنتها روسيا:
وظلت حصيلة الخسائر التي أعلنتها روسيا رسمياً في صفوفها ثابتة، ولم تزد على تلك التي أفصحت عنها وزارة الدفاع الروسية، في 2 مارس/آذار، التي أكدت فيها مقتل 498 وإصابة 1597 من العسكريين الروس أثناء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
وكذلك لم تزد الخسائر التي أعلنتها روسيا في صفوف العسكريين الأوكران، وهي منذ آخر إحصائية نحو 2870 قتيلاً وحوالي 3700 جريح، إضافة إلى أسر 572 عسكرياً أوكرانياً.
لكن وزارة الدفاع الروسية تعلن باستمرار عن حصيلة تدمير المواقع والآليات، تدمير 5881 موقعاً بينها أكثر من 4000 منشأة للبنية التحتية العسكرية الأوكرانية، و39 منظومة مضادة للجو من طرازات "إس-300"، و"بوك إم-1"، و"أوسا"، إلى جانب 52 محطة رادار.
بالإضافة إلى تدمير 182 طائرة أوكرانية، 1379 دبابة وآلية مدرعة، و132 راجمة صواريخ، و170 منظومة دفاع صاروخية، و514 مدفعاً ميدانياً، و1268 قطعة من العربات العسكرية الخاصة، و172 طائرة مسيرة، و90% من المطارات العسكرية الأوكرانية.
خسائر أعلنتها أوكرانيا:
وفي صفوفها، أعلنت أوكرانيا عن حصيلتها من القتلى المدنيين التي اقتربت من 3500 مدني على الأقل، منذ العملية العسكرية الروسية.
وقدرت أوكرانيا خسائرها في البنية التحتية بأكثر من 565 مليار دولار منذ بدء العملية العسكرية الروسية، بحسب وزير البنية التحتية في أوكرانيا أوليكسندر كوبراكوف.
وفي الجانب الروسي، أظهرت آخر حصيلة أعلنتها وزارة الدفاع الأوكرانية تدمير 194 طائرة ومروحية بينها 86 طائرة مقاتلة، و108 مروحيات روسية، و444 دبابة، و1435 مدرعة، و201 قطعة مدفعية، و43 نظام دفاع جوي، و56 منصة إطلاق صواريخ من طراز "جراد"، و60 شاحنة، و7 طائرات مسيرة عملياتية، و3 سفن.
فيما أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قتل أكثر من 14 ألف جندي روسي.
حصيلة أممية للقتلى المدنيين:
وكشفت أحدث حصيلة للأمم المتحدة بلوغ عدد الضحايا من المدنيين إلى 1544 منذ بدء الصراع في أوكرانيا قبل أسبوعين، وذلك بتسجيل 636 قتيلاً، و908 مصابين، لكنه يعتقد أن الأرقام الحقيقية "أعلى بكثير"، بحسب وكالات.
حصيلة أمريكية لخسائر روسيا:
وكشفت أحدث تقييمات استخباراتية أمريكية، الخميس الماضي، عن خسائر الجيش الروسي في العمليات العسكرية بأوكرانيا، مؤكدة أن "أكثر من 7 آلاف جندي قتلوا منذ بدء الهجوم في 24 فبراير/شباط الماضي".
وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، فإن "هذا العدد من الجنود الروس يزيد على عدد الجنود الأمريكيين الذين قتلوا في العراق وأفغانستان على مدار أكثر من 20 عاماً".
وبحسب "نيويورك تايمز"، فإنه "مع مشاركة أكثر من 150 ألف جندي روسي الآن في الحرب بأوكرانيا، فإن الخسائر الروسية، بما في ذلك ما يقدر بنحو 14 ألفاً إلى 21 ألف جريح، تقترب من هذا المستوى".
كما خسر الجيش الروسي 3 جنرالات على الأقل في المعركة، وفقاً لمسؤولين أوكرانيين وروس ومن حلف شمال الأطلسي.
أعداد النازحين واللاجئين:
وتسبب النزاع في واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية في القارة الأوروبية، مع بلوغ عدد اللاجئين إلى الخارج أكثر من 3 ملايين شخص، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين.
وتتوقع أوروبا أن تستقبل 5 ملايين لاجئ. وميدانياً، من المرجح أن يؤدي تكثيف القصف على العديد من المدن الأوكرانية إلى زيادة عدد القتلى المدنيين المحاصرين.
خسائر العالم اقتصادياً بعد شهر من الحرب:
يكبد الصراع الدائر في أوكرانيا الاقتصاد العالمي نحو تريليون دولار، وذلك وفقاً للمعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في المملكة المتحدة، ويتخذ من لندن مقراً له، الذي أكد أن هذه الخسارة ستسهم في زيادة التضخم العالمي بنسبة 3% خلال السنة الحالية من خلال إطلاق أزمة أخرى من سلاسل التوريد، وكشف المعهد أن مشكلات العرض ستؤدي إلى تباطؤ النمو وصعود الأسعار، وهو سيقلل من مستوى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو نقطة واحدة مع حلول سنة 2023م.
وفقاً للباحثين والتقارير الدولية، فإن تكاليف الحرب على الاقتصاد الروسي تتجاوز 20 مليار دولار يومياً، ويزداد مع تزايد الأعمال العسكرية وإطالة أمدها.
وخسارة الموارد المالية لروسيا التي كانت تحول من أوروبا مقابل النفط والغاز الروسي التي تقدر بمبلغ 722 مليون دولار يومياً، وكشفت وزارة الاقتصاد الأوكرانية عن حجم خسائر الحرب الروسية، وقالت: إنها تجاوزت 119 مليار دولار حتى الآن.
وأضافت أن 75% من الشركات في مناطق القتال توقفت عن العمل.
وتعتبر هذه الخسائر أعلى من تقديرات مستشار الرئيس الأوكراني، الذي أعلن مؤخراً أن قيمة الأضرار الناجمة عن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا تبلغ حتى الآن نحو 100 مليار دولار.
وأصدر مركز الأبحاث الأمريكي "معهد بيترسون للاقتصاد الدولي" أن التقييمات الأولية للغاية التي أجريناها تظهر أن قيمة الأصول التي فقدناها، التي دمرت، تبلغ حوالي 100 مليار دولار أمريكي، وفقاً لـ"فرانس برس".
وأوضح أن "حوالي 50% من شركاتنا لم تعد تعمل وتلك التي لا تتوقف لا تعمل بكامل قدرتها"، كما ذكرت "فرانس برس".
ملفات الصراع في العالم:
بعد مرور شهر من هذه الحرب، كانت التوقعات أن تحدث متغيرات على مستويات الصراع في مناطق ساخنة من العالم.
فالصراع في سورية واليمن وليبيا ما زال في نقطة المراوحة بين الحل السياسي وفرض الأمر الواقع بالقوة لم يحسم.
لكن هناك ملفات شهدت انفراجة نسبية كملف فنزويلا والعلاقات مع الولايات المتحدة والملف الإيراني النووي، وتراجع الحديث عن الأزمة في هونج كونج، وأقلية الإيغور، كما أن الصين بدأت حراكاً تجاه أفغانستان والهند بزيادة وزير الخارجية الصيني للهند.
ومن المتوقع في ظل الشد والجذب من الأطراف الفاعلة في الحرب الأوكرانية الروسية، فإن ملفات الصراع إما تتجه نحو الحل الإقليمي أو التفلت نحو الاستعار والتشدد، كما أنها عرضة للمساومات الدولية بين الأطراف الفاعلة في المشهد.
الخسائر البيئية والتسريبات النووية والإشعاعية:
نظراً لأزمة الطاقة الناشئة من هذه الحرب، فإن ارتفاع حجم الاستهلاك للفحم الحجري في الصين قد ارتفع إنتاجه نحو 12 مليون طن في اليوم، مما يؤثر على المعدلات البيئية.
أضف إلى ارتفاع الاتجاه نحو زيادة الحفر الصخري لاستخراج النفط الخام في الولايات المتحدة لسد العجز في أسواق الطاقة.
إن هذا أدى بالفعل إلى إفراغ قرارات مؤتمر المناخ الدولي السادس والعشرين (COP26) في جلاسكو، في نوفمبر الماضي، التي وجهت لاعتماد وخطة عمل لتقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تبعاً للمناطق وقطاعات الأنشطة.
كما أن شبح وخطر التسريبات من المنشآت النووية الأوكرانية متوفر وإن لم يحدث بالرغم من استهداف روسيا لمنشآت نفايات نووية بالقرب من العاصمة كييف.
متغيرات التحالفات والاستقطاب الدولي والإقليمي:
شهد الشهر الماضي منذ بدء الحرب جولات مكوكية واتصالات على مستوى عال، وتفعيل لأدوات ضغط هائلة على كثير من الدول الإقليمية وخصوصاً المنتجة للنفط والطاقة، فقد تعرضت الهند لعملية استقطاب شديد بين المعسكرين خصوصاً وأن عندها اتفاقيات إستراتيجية مع الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه هي عضو في مجموعة البريكس، وكذلك دول مثل البرازيل، وجنوب أفريقيا، وهناك محاولات لاستقطاب إندونيسيا والأرجنتين لأحد الأطراف في هذه الحرب.
ومن أهم الضغوطات كان على دول الخليج من الطرفين، وذلك لزيادة الإنتاج النفطي وتغطية عجز السوق، وتوفير مصادر بديلة عن النفط والغاز الروسي.
إلا أن دول الخليج لم تخضع إلى هذه الضغوطات بشكل دون مساومة على التفضيلات والخيارات التي تضمن لها أمنها وتضعها في موقع الحياد من الحرب الدائرة هناك، وأعرب المسؤولون في دول الخليج عن دعمهم لحل دبلوماسي ينهي الحرب، بالطبع سيصبح الوضع صعباً مع استمرار الحرب بالرغم من تنوع حذر بين هذه الدول بما يخفف عنها الضغط من الأطراف المتحاربة.
ومع نمو وتطور ملف العلاقات التركية – الإسرائيلية خلال شهر، وخصوصاً فيما يتعلق باحتمالات تطوير التعاون في غاز البحر المتوسط، فإن هناك جنيناً جديداً يتطور لإيجاد تحالف إقليمي بدأ يتشكل بلقاء خماسي بحضور ملك الأردن، ورئيس مصر، ورئيس العراق، وولي العهد الإماراتي، ووزير الدولة السعودي تركي بن محمد بن فهد بن عبدالعزيز، ويأتي اجتماع العقبة لتفاهمات هذه الأطراف مع إسرائيل.
ويشكّل هذ التحالف بعداً جيوستراتيجياً من حيث توازن علاقاتها المتوقعة مستقبلاً بين الأطراف الكبرى (روسيا والولايات المتحدة والصين وأوروبا)، وبين الجغرافيا لهذه الدول التي تشكّل منطقة حيوية ذات منافذ حيوية للتجارة العالمية، كما أن ملف الطاقة والغاز هو نقطة الارتكاز المعتمد عليها لتطوير علاقات دولية متزنة ويصطدم ذلك بمصالح إيران في المنطقة، كما أن ذلك يصطدم بإستراتيجية إسرائيل في المنطقة العربية وخصوصاً نتائج الاحتلال لفلسطين.
الصراع الإستراتيجي بين روسيا وأمريكا وحلفائها:
بعد شهر من الحرب تعمّق الصراع الإستراتيجي بين الأطراف المتحاربة؛ روسيا وحلفائها، أو أوكرانيا والأوروبيين والولايات المتحدة.
إن كلا الطرفين يساهم في تأكيد الخوف من التمدد الجيوستراتيجي والمحيط الحيوي للكتلتين باتجاه الآخر.
كما أن الدول المحيطة بأوكرانيا وعلى تماس حالة الحرب كبولندا ورومانيا أو الدول الأخرى كلاتفيا وليتوانيا تشهد هذه الدول تقديراً متناقضاً للموقف من حيث مصالحها الخاصة في عدم تطور الحرب ومصالحها الإستراتيجية في وجود قوة رادعة ضد روسيا تجمعها كقوة الناتو.
وقد أعلنت كرواتيا أنها ستسحب جنودها من "الناتو" حال نشوب صراع مع روسيا، وأعلنت الحكومة البلغارية أنها لن تشارك دون موافقة البرلمان.
ورفضت الحكومة المجرية هي الأخرى استضافة وحدة من وحدات "الناتو"، لذلك فإنه على المستوى الجيوستراتيجي ما زالت الحرب في بدايتها لم تحسم في اتجاه إستراتيجي معين لصالح طرف دون طرف، والكل يستخدم أدواته الإستراتيجية لسد الفجوة الإستراتيجية التي خلفتها آثار شهر من الحرب.
الداخل الروسي والحرب:
وقد نشرت مجلة "ناشيونال إنترست" الأمريكية تحليلاً في 2/3/2022 قال فيه: تشير بيانات استطلاعات الرأي إلى أن معظم السكان الروس لا يؤيدون سياسة خارجية عدوانية وتوسعية تذكرهم بالعصر السوفييتي، وتؤكد استطلاعات الرأي في عام 2021م أن معظم الروس والأوكرانيين لديهم مواقف إيجابية تجاه بعضهم بعضاً، كأفراد وأن غالبية الروس على عكس بوتين، يقبلون أوكرانيا كدولة مستقلة.
وتؤكد استطلاعات أخرى معارضة معظم الروس للعمل ضد أوكرانيا، وتعكس هذه المواقف قلقاً واسع النطاق من أن كلاً من الروس العرقيين والأوكرانيين العرقيين الذين يشتركون في قرون من العلاقات بين الزيجات، فضلاً عن الروابط السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، يمكن أن يعانوا ويهلكوا بأعداد كبيرة في الحرب.
أزمة بايدن الخارجية والداخلية بعد الحرب:
وفق ما نشرته مجلة "وول شريت جورنال" في افتتاحيتها الإثنين 28/3/2022 ونقلته "الجزيرة" على موقعها، فإن بايدن ووجه بنقد شديد على خطابه الذي ألقاه في بولندا يوم السبت 26/3/2022م ودعا فيه بعدم بقاء بوتين في السلطة، مما استدعى تدخل البيت الأبيض لتوضيح التصريح، وذلك "بأن واشنطن لا تسعى لتغيير النظام داخل روسيا"، وقد انتقدت بايدن وزادت المطالبة بتوقيفه عن التحدث أمام الجماهير خصوصاً ما يتعلق ببعض تصريحات سابقة حول الأزمة الأوكرانية التي خرجت عن الإستراتيجية الأمريكية تجاه الأزمة، واضطر مسؤولون في البيت الأبيض مراراً للتدخل وتصحيح التصريحات الخاطئة. وتأتي الاستطلاعات الجديدة في أن 7 من كل 10 أمريكيين شملهم الاستطلاع أعربوا عن ثقة منخفضة على التعامل مع الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا ودول حلف الناتو.
ملحق تلك النتائج بعض مضي شهر من الحرب:
إنَّ العالم يتجه نحو اللايقين في تماسك النظام الدولي واشتداد الاستقطاب والضغوطات الكبرى على الدول الإقليمية والدول الصغيرة خصوصاً ذات المصادر النفطية والغاز، وإن ذلك بدأ في توليد الخوف من تمدد الحرب إلى دول مجاورة، وإلى زيادة أزمة اللاجئين في أوروبا والحرب الاقتصادية المتبادلة بين روسيا وأوروبا، بما ينذر بأزمة إنتاج وغذاء عالمي عدا الاتجاه نحو بناء تكتلات إقليمية جديدة خصوصاً أن تكتلاً جديداً في الشرق الأوسط بدأ في الظهور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بالتزامن مع مجلة الأفق الاستراتيجي العدد 25.