مقصد معرفة الله تعالى وإفراده بالعبادة
بقلم: الدكتور انجوغو امباكي صمب – عضو الاتحاد
(الحلقة السادسة في ظلال مقاصد التوحيد)
أول مقاصد التوحيد وأجلها هو معرفة العبد لربه سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، قال ابن القيم رحمه الله ((وأجل المقاصد معرفة الله ومحبته والأنس بقربه والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره، وهذا أجل سعادة الدنيا والآخرة، وهذا هو الغاية التي تطلب لذاتها)) [1]، وقال الإمام السفاريني[2]رحمه الله في معنى معرفة الله: ((عبارة عن معرفة وجود ذاته تعالى بصفات الكمال، فيما لم يزل ولا يزال، دون معرفة حقيقية ذاته وصفاته لاستحالة ذلك عقلا عند الأكثرين، يعني أن العقل يحيل معرفة كنه ذاته)) [3]، قال تعالى{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[4]، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله (( العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه، وهذا العلم الذي أمر الله به -وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنا من كان، بل كل مضطر إلى ذلك))[5].
وقد بعث الله الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ليدعو الناس إلى الإيمان بالله تعالى والإقرار به، و معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وتوحيده في عبادته، قال تعالى حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا }[6].
وقال تعالى حكاية عن نبيه وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [7].
وقال تعالى حكاية عن نبيه كليمه موسى عليه الصلاة والسلام وهو يدعو فرعون إلى التوحيد ويجادله { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[8].
وقال تعالى حكاية عن عبده ورسوله عيسى عليه الصلاة والسلام { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }[9].
وقال تعالى مخاطبا لنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[10]، وقال تعالى{ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }[11]، وقال تعالى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[12].
وقال أبو الحسن الأشعري[13] رحمه الله (( وأجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جميع الخلق إلى معرفة الله وإلى نبوته، ونهاهم عن الجهل بالله عز وجل وعن تكذيبه)) [14]، فالأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام إذن عّرفوا الناس بربهم ومعبودهم المتصف بصفات الكمال والجلال، واستدلوا على وجوده بآياته وأفعاله، وما أودعه في فطرهم وعقولهم من معرفة الله تعالى ووجوب عبادته وتوحيده، فلم يدعوهم إلى عدم لا حقيقة له، ولا إلى صنم لا ربوبية ولا ألوهية له، قال السعدي رحمه الله تعالى (( وهذا التوحيد هو التوحيد على الحقيقة الذي لا يستحق هذا الاسم غيره، وهو التوحيد الوحيد في ذاته وحقيقته وأدلته وبراهينه وآثاره الجميلة، وثمراته الجزيلة وهو التوحيد الذي بعث الله به جميع رسله ...)) [15] .
وكل من ادعى معرفة الله تعالى ولم يسلك منهج الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، بأن ينكر أسماء الله وصفاته أو يلحد فيها بتكييف أو تأويل أو تشبيه، أو يعتقد أن الله تعالى يحل في خلقه أو يتحد بهم، فليس بعارف بالله حقيقة، قال تعالى { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[16]، وقوله { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ }: ((قال مجاهد : اشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، وقال قتادة[17] {يُلْحِدُونَ}: يشركون في أسمائه، وقال علي بن أبي طلحة[18] عن ابن عباس: الإلحاد التكذيب، وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد، والميل والجور والانحراف، ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر))[19]، وفي الآية بطلان مذاهب التعطيل والتشبيه وجهل القائلين بها بالله تعالى.
قال السعدي رحمه الله ((وكل من المعطّل والمشبّه قد حرم الوصول إلى معرفة الله على وجهها المطلوب، وابتلي بالتكلف والتحريف لنصوص الوحي، وكما أنه مناقض للوحي فهو مناقض لما دلت عليه العقول والفطرة التي لن يطرأ عليها التغير، فلا معقول لديهم ولا منقول، وهدى الله أهل السنة والجماعة لاتباع الحق المنقول عن الله وعن رسله، والمعقول لذوي الألباب))[20].
الحلقة الخامسة: (تتمة مقاصد التوحيد عمر بن سليمان الأشقر رحمه الله)
يتبع .....
[1] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، تأليف محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، ص 114 ، الناشر: دار ابن كثير، دمشق، بيروت، 1409هـ
[2] هو محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، شمس الدين، أبو العون: عالم بالحديث والاصول والادب، محقق. ولد في سفارين (من قرى نابلس) ورحل إلى دمشق فأخذ عن علمائها. وعاد إلى نابلس فدرس وأفتى، وتوفي فيها سنة 1774 ميلادية . انظر: الأعلام للزركلي، 6/14
[3] لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، تأليف شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، 1 / 113 الناشر: مؤسسة الخافقين ومكتبتها - دمشق
الطبعة: الثانية - 1402 هـ
[5] تيسير الكريم الرحمن ، ص 787
[6] سورة نوح ، الآيات من 13 إلى 20
[7] سورة الشعراء، الآيات من 75 إلى 82
[8] سورة الشعراء، الآيات من 23 إلى 29
[9] سورة آل عمران ، الآيتان 50 ، 51
[10] سورة الملك ، الآيتين 23 ، 24
[11] سورة الملك ، الآيتان 29 ، 30
[13] هو الإمام علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة ابن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، كان معتزليا ثم ترك الاعتزال ودان بمذهب أهل السنة، وإليه ينسب المذهب الأشعري، مات سنة نيف وثلاثين وثلاث مئة هجرية . انظر: طبقات الفقهاء الشافعية، تأليف تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح، 2 / 604 ، تحقيق : محيي الدين علي نجيب الناشر : دار البشائر الإسلامية، 1992م
[14] رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ص 154 ، تحقيق عبد الله شاكر محمد الجنيدي، الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية 1413هـ
[15] الحق الواضح المبين ، ص 4
[16] سورة الأعراف، الآية 180
[17] هو قتادة بن دعامة السدوسي وكان يكنى أبا الخطاب ، وكان ثقة مأمونا حجة في الحديث ، وكان يقول بشيء من القدر، توفي رحمه الله سنة ثماني عشرة ومائة ، وقيل سبع عشرة ومائة ، رحمه الله تعالى . انظر : الطبقات الكبرى لابن سعد ، 7/171
[18] هو علي بن أبي طلحة الهاشمي ، كان من كبار التابعين عالما بالقرآن ومعانيه وأحكامه، قال أحمد بن حنبل كان في مصر صحيفة واحدة من التفسير قد رواها عن علي بن أبي طلحة من رحل من طالبي التفسير لتحصيلها لا يعد كثيرا، وقد اعتمد البخاري ما نقله عن ابن عباس على هذه النسخة الشريفة ، وأخذ التفسير عن مجاهد وعن سعيد بن جبير. انظر: طبقات المفسرين، تأليف أحمد بن محمد الأدنروي، ص 24 ، الناشر : مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة ، 1997م .
[19] تفسير القرآن العظيم، 3 / 456
[20] الحق الواضح المبين ، للسعدي ، ص 20