البحث

التفاصيل

في ظلال مقاصد التوحيد (مقصد حفظ الفطرة من التغيير والتبديل)

الرابط المختصر :

في ظلال مقاصد التوحيد (مقصد حفظ الفطرة من التغيير والتبديل)

بقلم: انجوغو امباكي صمب – عضو الاتحاد

الحلقة (10)

 

* معنى الفطر

هناك تعريفات كثيرة ومتنوعة للفطرة عن السلف الصالح ومن علماء التفسير وشراح الحديث النبوي، فقيل هي:

  •  ((الإسلام والدين الحق))[1]، وهو قول أبي هريرة، وابن شهاب [2]، وغيرهما، قال القرطبي ((قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل التأويل)) [3]، واستدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[4]، وبحديث ((كل مولود يولد على الفطرة)).
  • وقيل ((معرفة الله)) [5] وهو قول مكحول[6] رحمه الله، قال القرطبي رحمه الله: ((وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه ؛ فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ؛ يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته))[7].
  • وقيل ((مطلق البداءة التي ابتدأهم الله عليها)): أي على ما فطر الله عليه خلقه، من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ )).[8]

والذي ترجح لدي بعض استعراض هذه الأقوال في بيان معنى الفطرة هو القول الأول.

وللفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها مظاهر وتجليات في العقيدة والشريعة، وهي ما طبع عليه الإنسان من الإيمان والطاعة والانقياد والطهر والاستقامة، قال ابن عاشور رحمه الله ((فأقم وجهك للدين الحنيف الفطرة، والمراد من الدين: مجموع ما يسمى بالدين من عقائد وأحكام، وليس تخصيصه بالعقائد في كلام بعض المفسرين مثل فخر الدين الرازي والبيضاوي إلا انقياداً لظاهر سياق الكلام السابق، لأن الآيات قبلها وردت في ذم الشرك وإبطال عقائد المشركين والدهريين))[9] .

  • وجوب حفظ الفطرة من التغيير والتبديل

إن حفظ الفطرة من التغيير والتبديل مقصد جليل من مقاصد التوحيد، وهو من الناحية العقدية له صلة قوية بتوحيد الربوبية لأن الفطرة من خلق الله فهو الذي فطر الناس عليها وجعلها في قلوبهم، كما له علاقة مباشرة بتوحيد الألوهية لأن الله تعالى أمر بمقتضى الفطرة وهو الإيمان والطاعة والانقياد التام إلى الله والإنابة إليه وترك ما سواه، كما أنه أيضا لا ينفك عن التشريع والتحليل والتحريم وسائر أمور الديانة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ((والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها))[10]، وقال ابن عاشور رحمه الله (( الشريعة الإسلامية داعية أهلها إلى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها، وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها... ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها))[11] .

  • حفظ العقيدة من النواقص والنواقض

قال تعالى{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[12]، وفي الآية أمر بإقامة الوجه لدين الله تعالى الذي هو التوحيد، والإنابة إليه وترك ما سواه من الآلهة الباطلة والأرباب الزائفة،  وقال القرطبي رحمه الله تعالى ((فيه ثلاث مسائل: الأولى: قال الزجاج [13]: {فِطْرَتَ}: منصوب بمعنى اتبع فطرة الله، قال: لان معنى{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}: اتبع الدين الحنيف واتبع فطرة الله، وقال الطبري: {فِطْرَتَ اللَّهِ}: مصدر من معنى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ}، لأن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فطرة، وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناس له، وعلى هذا القول يكون الوقف على {حَنِيفاً} تاما، وعلى القولين الأولين يكون متصلا، فلا يوقف على {حَنِيفاً}، وسميت الفطرة دينا لان الناس يخلقون له، قال عز وجل: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[14]))[15].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء))[16]، وقوله ((فأبواه يهودانه)): ((أي يصيرانه يهوديا بأن يدخلاه في دين اليهودية المحرف المبدل بتفويتهما له ((أو ينصرانه)) أي يصيرانه نصرانيا ((أو يمجسانه)) أي يدخلانه المجوسية كذلك بأن يصداه عما ولد عليه ويزينا له الملة المبدلة والنحل الزائفة ))[17] ، وفي الحديث خطورة التربية السيئة وأثرها في تغيير الفطرة، وذلك هو الحكمة في استحباب تزويج ذي الدين والخلق الحسن، ونكاح ذات الدين، وكراهة استرضاع الفاسقة وفوات حقها في الحضانة إلى أبعد منها حفاظا على دين المولود وخلقه لدى من يقول بذلك من الفقهاء.[18]

و عن البراء بن عازب[19] رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن، ثم قال: (( اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت))، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من قالهن ثم مات تحت ليلته مات على الفطرة )) [20]، و (( هذا الحديث يشتمل على الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إجمالا من الكتب والرسل من الإلهيات والنبويات وعلى إسناد الكل إلى الله من الذوات والصفات والأفعال لذكر الوجه والنفس والأمر وإسناد الظهر مع ما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه وهذا كله بحسب المعاش وعلى الاعتراف بالثواب والعقاب خيرا وشرا))[21].

وبعد الإيمان بالله تعالى وإقامة الوجه له والإنابة إليه، يجب على المؤمن الموحد أن يحفظ إيمانه مما ينقصه أو ينقضه من العقائد والأقوال والأعمال، فيزداد إيمانا وطاعة وإنابة، ونواقض الإيمان كثيرة وأكبرها الكفر و الشرك بالله تعالى، قال تعالى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[22]، وقوله { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ...}: قال البيضاوي رحمه الله ((يريد بالإِيمان شرائع الإِسلام وبالكفر إنكاره والامتناع عنه))[23]، وقال تعالى {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[24]، قال الطبري رحمه الله ((يقول: لئن أشركت بالله شيئا يا محمد، ليبطلن عملك، ولا تنال به ثوابا، ولا تدرك جزاء إلا جزاء من أشرك بالله))[25]، وأما النواقص فهي جملة المعاصي التي لا تصل إلى الاستحلال والبدع العملية التي لا تخرج عن الملة.

(اقرأ الحلقة (9): في ظلال مقاصد التوحيد (مقصد الكفر بالطاغوت)

يتبع ....

 

[1] الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، تأليف عبد الرحمن بن أبي بكر، 6 / 492 ، الناشر: دار الفكر - بيروت .

[2] هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله ، الامام العلم، حافظ زمانه، المدني نزيل الشام، قال الذهبي رحمه الله : قال يحيى القطان: توفي الزهري سنة أربع أو ثلاث وعشرين ومئة، تابعه أبو عبيد، ويحيى بن معين. انظر : سير أعلام النبلاء ، 5 /349

[3] الجامع لأحكام القرآن،  14 / 25

[4] سورة الروم، الآية 30

[5] الدر المنثور ، 6 / 493

[6] هو مكحول الشامي ذكر أنه من أهل مصر، ويقال: كان لرجل من هذيل، من أهل مصر، فأعتقه ، فخرج من مصر ، فسكن الشام ن ويقال: إنه من الفرس، من السبي الذين سبوا من فارس ، وكان فقيها عالما، رأى أبا أمامة الباهلي، وأنس بن مالك ، وسمع واثلة ابن الأسقع ، يقال: توفى سنة ثماني عشرة ومائة . انظر : تاريخ ابن يونس المصري ،  تأليف عبد الرحمن بن أحمد بن يونس الصدفي، أبو سعيد 2/137 ، الناشر دار الكتب العلمية –بيروت 1421 هـ

[7] الجامع لأحكام القرآن ، 14 / 27

[8] الجامع لأحكام القرآن ، 14 / 25

[9] مقاصد الشريعة ، لابن عاشور ، 3/ 177

[10] مجموع الفتاوى، 5 /260

[11] مقاصد الشريعة الإسلامية ، لابن عاشور ، 3 / 185

[12] سورة الروم ،الآيتان 30 ، 31

[13] إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج، أخذ عن ثعلب والمبرد له معاني القرآن وفعل أفعل وغير ذلك، توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمئة هجرية . انظر : البلغة فى تراجم أئمة النحو واللغة، ص 2

[14] سورة الذاريات، الآية 56

[15] الجامع لأحكام القرآن، 14/ 24

[16] سبق تخريجه.

[17] فيض القدير، 5/ 33 ، برقم ( 6356)

[18] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، تأليف علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي، 4 / 41 ، الناشر: دار الكتب العلمية ـ 1406هـ

[19] هو البراء بن عازب بن الحارث، الفقيه الكبير، أبو عمارة الانصاري الحارثي المدني، نزيل الكوفة، من أعيان الصحابة، توفي سنة اثنتين وسبعين، وقيل: توفي سنة إحدى وسبعين عن بضع وثمانين سنة. انظر : سير أعلام النبلاء، 3 / 195

[20] متفق عليه : صحيح البخاري، 8 / 69 ، برقم ( 6315 )، صحيح مسلم ، 4 / 2082 ، برقم ( 2710)

[21] فتح الباري ، لابن حجر ، 11 / 113

[22] سورة المائدة، الآية 5 ،

[23] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 2 / 116

[24] سورة الزمر، الآية 65

[25] جامع البيان، 20 / 244


: الأوسمة



التالي
دراسة: الطلاب المسلمون يواجهون مستويات عالية من التنمر في أمريكا
السابق
اشتباكات بين مسلمين وهندوس في نيودلهي.. وراهب يدعو لإبادة المسلمين

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع