سلوا الله العافية
بقلم: محمد بولوز – عضو الاتحاد
نعمة العافية من أعظم النعم، وأكرم المنن، ومن أفضل ما يهبه الله تعالى للإنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الناس لم يعطوا بعد اليقين خيرا من العافية». وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: «لم تؤتوا شيئا بعد كلمة الإخلاص مثل العافية». (رواه الترمذي وغيره) فنعمة العافية من خير ما يعطى المرء في الدنيا والآخرة.
فما معنى العافية؟
هي طلب السلامة، والوقاية من كل ما يضر المرء في دينه ودنياه، فمن محا الله تعالى عنه ذنوبه كان معافى في دينه، ومن صرف عنه السقم كان معافى في بدنه. وتلك من أعظم النعم،، قال ابن عباس رضي الله عنهما: النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله عز وجل العباد فيما استعملوها. قال تعالى:( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم).
فالعافية السلامة من كل مكروه في الدين والدنيا والآخرة، فعافية الدين: سلامة المؤمن من فتن الشبهات المضلة، وفتن الشهوات المحرمة، وعافية الدنيا: السلامة من كل ما يكدر العيش الدنيوي من الآلام والأسقام والأوجاع والأحزان، وعافية الآخرة: السلامة من غضب الله وناره، ونيلُ رضوانه وجنته.
العافية اذا وجدت جهلت واذا انعدمت عرفت
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ“(رواه البخاري), روي عن جعفر بن محمد أنه قال: “العافية موجودة مجهولة، والعافية معدومة معروفة”, وأراد بقوله: “العافية موجودة معدومة” أن الناس عرفوا العافية ولم يعرفوا قدرها حتى يبتلوا، و”العافية معدومة معروفة” يعني أن المبتلى ببلية يعدم معها العافية فحينئذ يعرف قدرها. فالعافية لذة عظيمة قد لا يعرف ملتذذها حلاوتها إلا حين ذهابها، خلافًا لحاله في اللذات الأخرى التي يلتذ بها عند حضورها، وينساها عند غيابها. فاللهم عرفنا نعمك بدوامها ولا تعرفنا اياها بزوالها..
العافية حسنة الدنيا والاخرة:
فالعافية حسنة من حسنات الدنيا التي من وُهِبها نال خيراً كثيراً، وقد مثّل بعض المفسرين كقتادة وغيره للحسنة في الدنيا بالعافية والصحة، في قوله -تعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة:201]، وقال النووي -رحمه الله- في شرحه على مسلم: “وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا: أنها العبادة والعافية، وفي الآخرة الجنة والمغفرة، وقيل: الحسنة تعم الدنيا والآخرة“، وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاد رجلاً من المسلمين قد خفتَ فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟” قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “سبحان الله لا تطيقه -أو لا تستطيعه- أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار” قال: فدعا الله له فشفاه (رواه مسلم).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى أن يعافيه فيقول:« اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري». ويبدأ صلى الله عليه وسلم يومه بسؤال العافية، فيقول:« اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي».(رواه ابو داود وغيره)
ومن العافية حفظ جميع ما وهبنا الله من القوى
فالمومن يسال الله ان يحفظ عليه جميع قواه: القوة النفسية والعقلية والجسدية والجنسية والعاطفية…ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن ندعو « اللهمَّ اقسِمْ لنا من خَشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصِيك , ومن طاعتك وما تُبَلِّغُنا به جنَّتَك , ومن اليقينِ ما يُهوِّنُ علينا مُصيباتِ الدُّنيا , ومَتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنا ما أحيَيتَنا , واجعلْه الوارثَ منا , واجعلْ ثأْرَنا على مَن ظلمَنا , وانصُرْنا على من عادانا , ولا تجعلْ مُصيبتَنا في دِينِنا , ولا تجعلِ الدُّنيا أكبرَ همِّنا , ولا مَبلغَ عِلمِنا , ولا تُسلِّطْ علينا من لا يَرحمُنا » (رواه الترمذي وحسنه) فقوله صلى الله عليه وسلم ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا أي: باقِية فينا مُستمِرة بأنْ تكونَ صحيحةً وسليمةً إلى الموتِ، بحيث تكون بمكانةِ الوارِثِ؛ لأنَّه هو مَن يَبْقى بعدَ وفاةِ مُورِّثِه،
ويعلمنا صلى الله عليه وسلم قيمة نعمة العافية فيوصي أصحابه رضي الله عنهم أن يختموا يومهم بسؤال العافية، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه أمر رجلا إذا أخذ مضجعه أن يقول: «اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية». (رواه مسلم في صحيحه).
فبالعافية تطيب حياة الإنسان، وبها يبلغ أسباب عيشه، ويتمكن من طاعة ربه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا». (رواه الترمذي وحسنه الالباني) أي: من جمع الله تعالى له بين عافية بدنه وطمأنينة قلبه وكفاف عيشه وسلامة أهله، فقد جمع له جميع النعم.
كيف نحافظ على نعمة العافية؟
إن محافظة الإنسان على العافية والسلامة في دينه تكون بفعل ما أمر الله تعالى به، واجتناب ما نهى عنه، والبعد عن المشتبهات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسيا». ثم تلا هذه الآية (وما كان ربك نسيا)». (رواه الحاكم في المستدرك وحسنه شعيب الارنؤوط) كما يكون المسلم في عافية من دينه مادام يسأل أهل العلم الموثوق بهم فيما أشكل عليه، عملا بقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). ويلتزم المرء الاعتدال في دينه بفهم مبادئه السمحة وتشريعاته الحنيفة، والتورع عن الخوض في الشبهات فيكون في مأمن من مفاهيم الفكر المتطرف.
ومن أسباب العافية في الدين أن يحافظ الإنسان على ستر الله تعالى عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه». (رواه البخاري في صحيحه).
ويحافظ الإنسان على نعمة العافية في بدنه باتباع الأنماط الصحية، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ ، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكْلاتٍ يُقِمْنَ صُلبَه ، فإن كان لا محالةَ ، فثُلُثٌ لطعامِه ، و ثُلُثٌ لشرابِه ، و ثُلُثٌ لنفَسِه
ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة رقمه 2265 .
ثم من أسباب العافية التداوي من الأمراض ، فقد جاء الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله نتداوى؟ قال صلى الله عليه وسلم :«نعم، تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم».(رواه الترمذي وغيره وصححه الالباني)
شكر النعم من الاسباب الجالبة للعافية:
فشكر الله تعالى على نعمه يديم على العبد عافيته، فإن الشكر يزيد النعم، ويحفظ العافية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا استيقظ -أي أحدكم - فليقل: الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد علي روحي وأذن لي بذكره».(رواه الترمذي وحسنه الالباني) ليبدأ يومه بشكر الله تعالى على العافية.
فمن ألبسه الله تعالى ثوب العافية، ومن عليه بصحة البدن، وسلامة الأولاد والأهل، ورغد العيش، وسعة الرزق، وطمأنينة النفس، والاستقرار في الوطن؛ عليه أن يغتنم أوقاته بالعبادة والطاعة، وفعل الخير، وبذل المعروف للناس، وكل ما يقربه من ربه، ويضاعف له حسناته، ويرفع له درجاته، فيكون من الشاكرين؛ وتدوم له العافية فلا تنقطع، وتزداد فلا تنقص.
اسالوا الله العافية:
سؤال العافية تقدير لنعم الله تعالى العظيمة، واعتراف بحاجتك إلى دوام لطفه وعافيته، وهذا مما يحبه الله عز وجل، فلنكثر من دعاء الله تعالى سائلين العافية، فإن ذلك من أفضل الدعاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم :« ما من دعوة يدعو بها العبد أفضل من: اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة».(رواه الترمذي وصححه الالباني) وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من زوال النعمة وتحول العافية فيقول:« اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك».(رواه مسلم في صحيحه) وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال:« قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، وارزقني». وقال صلى الله عليه وسلم: «فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك».(رواه مسلم في صحيحه) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء بين السجدتين، ويفتتح به قيام الليل. وكان صلى الله عليه وسلم يدعو في الوتر قائلا: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت». (رواه ابو داود وغيره وصححه الالباني)
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله علمني شيئا أسأل الله به. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عباس سل الله العافية». ثم مكثت قليلا، ثم جئت فقلت: علمني شيئا أسأل الله به يا رسول الله. فقال: «يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة». (رواه الترمذي وغيره وصححه الالباني) وهذه أم المومنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سالت عن أفضل ما تقول في افضل ليلة من ليالي السنة، ليلة القدر «قالَ تقولينَ اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي» رواه ابن ماجة وغيره وصححه الالباني. فأرشَدَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أفضَلِ أنواعِ الدُّعاءِ في تلك اللَّيلةِ، والعفْوُ هو التَّجاوُزُ عن السَّيِّئاتِ، وعفْوُ اللهِ تعالى يكونُ في الدُّنيا والآخرةِ، فهذا الدُّعاءُ مِن جوامعِ الكلِمِ، ومَن دَعا به حاز خَيريِ الدُّنيا والآخرةِ.
ونقول:
لك الحمدُ كلَّ الحمد يا بارئَ الورى *** ويا رازقَ المخلوق يا واسعَ الكَرمْ
لك الحمدُ بالإسلام دينًا شرعتَهُ *** فأحياْ من الأخلاق ما رَمَّ وانهدم
لك الحمدُ بالقرآن دستورَ أمةٍ *** به اصطُفِيتْ عمّا سواها من الأمم
لك الحمدُ بالمختارِ أحمدَ مرسلاً *** أتاناْ بنور الحق يمحو دجى الظُلَم
لك الحمدُ أنْ عافيتنا وكفيتَنا *** وأوليتنا – ياربُّ – مِن سائر النِّعم