المدرسة المكِّيَّة زمن الخليفة الفاروق "من المراكز الحضارية الإسلامية"
بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي
احتلَّت هذه المدرسة مكانة روحية في قلوب المؤمنين، السَّاكنين، والثَّائبين إِلى بلد الله الحرام، الحجاج، والعمَّار، والزُّوَّار، بل أخذت مكَّة بألباب كلِّ مؤمنٍ راها، أو تمنَّى أن يراها، ولقد كان العلم بمكَّة يسيراً زمن الصَّحابة، ثمَّ كثر في أواخر عصرهم، وكذلك في أيَّام التَّابعين، وزمن أصحابهم، كابن أبي نجيحٍ، وابن جريجٍ،(شراب، 1994، 2/94) إِلا أنَّ مكَّة اختصت زمن التَّابعين بحبْر الأمَّة، وترجمان القران ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ الَّذي صرف جلَّ همِّه، وغاية وسعه إِلى علم التَّفسير، وربَّى أصحابه على ذلك، فنبغ منهم أئمَّةٌ كان لهم قصب السَّبق بين تلاميذ المدارس في التفسير، وقد ذكر العلماء مجموعةً من الأسباب أدَّت إلى تفوُّق هذه المدرسة، أهم هذه الأسباب، والأساس فيها إِمامةُ ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ وأستاذيَّته لها.(شراب، 1994، 2/94)
- حِبر الأمة عبد الله بن عباس إماماً وأستاذاً في المدرسة المكّية
تحدَّث العلماء عن مجموعةٍ من الأسباب أهَّلَت ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ وقدَّمته على غيره من الصَّحابة في فهم كتاب الله، والقدرة على تفسيره، وهي على الإجمال: دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالفقه في الدِّين، والعلم بالتَّأويل، الأخذُ عن كبار الصَّحابة، قوَّةُ اجتهاده، وقدرتُه على الاستنباط، اهتمامُه بالتَّفسير، منهجُه المُمَيَّز في تعليم أصحابه، حرصُه على نشر العلم، رحلاتُه، وأسفاره، تأخُّرُ وفاته، قربُ منزلته من عمر ـ رضي الله عنهـ فقد حظي بعنايةٍ خاصَّةٍ من الفاروق عندما لمس فيه مخايل النَّجابة، والذَّكاء، والفطنة، فكان يدنيه من مجلسه، ويقرِّبه إِليه، ويشاوره، ويأخذ برأيه فيما أشكل من الآيات، وابنُ عباسٍ ما زال شابّاً غلاماً، فكان لذلك الأثرُ البالغ في دفعه، وحثِّه على التَّحصيل، والتقدُّم بل والإِكثار في باب التَّفسير، وغيره من أبواب العلم، فعن عامرٍ الشَّعبيِّ، عن ابن عباسٍ، قال: قال لي أبي: يا بنيَّ! أرى أمير المؤمنين يقرِّبك، ويخلو بك، ويستشيرك مع أناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحفظ عنِّي ثلاثاً: اتَّق الله لا تفشينَّ له سرّاً، ولا يجرِّبنَّ عليك كذبةً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يداخله مع أكابر الصَّحابة، وما ذلك إِلا لأنَّه وجد فيه قوَّة الفهم، وجودة الفكر، ودقَّة الاستنباط، وقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان عمر يسألني مع أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم، فكان يقول لي: لا تتكلَّم حتى يتكلَّموا، فإِذا تكلَّمتُ، قال: غلبتموني أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الَّذي لم تجتمع شؤون رأسه.
وكان ابن عباسٍ لشدة أدبه إِذا جلس في مجلسٍ فيه من هو أسن منه لا يتحدَّث إِلا إِذا أُذن له، فكان عمر يلمس ذلك منه، فيحثُّه، ويحرِّضه على الحديث تنشيطاً لنفسه، وتشجيعاً له في العلم، كما مرَّ معنا في تفسير قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266]، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *} [النصر: 1].
- مجلس الفاروق عمر بن الخطاب وعلاقته بالمدرسة المكّية
كان لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مجلسٌ يسمع فيه من الشَّباب، ويعلِّمهم، وكان ابن عباسٍ من المقدَّمين عند عمر، فعن عبد الرَّحمن بن زيدٍ، قال: كان عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ إذا صلَّى السُّبْحَةَ، وفرغ، دخل مِرْبداً له،(النيسبوري، 1970،3/539) فأرسل إلى فتيانٍ قد قرؤوا القران، منهم ابن عباسٍ، قال: فيأتون، فيقرؤون القرآن ويتدارسون، فإِذا كانت القائلة؛ انصرف، قال: فمرُّوا بهذه الآية و {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ *} [البقرة: 206 ـ 207]، فقال ابن عباسٍ لبعض من كان إِلى جانبه: اقتتل الرَّجلان. فسمع عمر ما قال، فقال: وأيُّ شيءٍ قلت ؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين ! قال: ماذا قلت ؟ اقتتل الرَّجلان ؟ قال: فلمَّا رأى ذلك ابن عباسٍ؛ قال: أرى ها هنا مَنْ إِذا أُمر بتقوى الله أخذته العزَّة بالإِثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، يقوم هذا، فيأمر هذا بتقوى الله، فإِذا لم يقبل، وأخذته العزَّة بالإِثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي ! فقاتله، فاقتتل الرَّجلان، فقال عمر: لله تلادُك يا بن عباسٍ.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يسأل ابن عباسٍ عن الشَّيء من القرآن، ثمَّ يقول: غص غوَّاص، بل كان عمر إِذا جاءته الأقضية المعضلة؛ يقول لابن عباس: يا أبا عبَّاسٍ ! قد طرأت علينا أقضيةٌ عضلٌ، وأنت لها، ولأمثالها ! ثمَّ يأخذ برأيه، وما كان يدعو لذلك أحداً سواه إذا كانت العضل، وعن سعد بن أبي وقَّاص، قال: ما رأيت أحداً أحضر فهماً، ولا ألبَّ لبّاً، ولا أكثر علماً، ولا أوسع حلماً من ابن عباس !
ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات، ثمَّ يقول: عندك قد جاءتك معضلةٌ، ثمَّ لا يجاوز قوله، وإِنَّ حوله لأهلُ بدرٍ من المهاجرين، والأنصار، وكان عمر يصفه بقوله: ذاكم فتى الكهول، إِنَّ له لساناً سؤولاً، وقلباً عقولاً.
يقول طلحة بن عبيد الله: ما كنت أرى عمر بن الخطَّاب يقدِّم على ابن عباسٍ أحداً،(ابن سعد،1968، 2/369) وكان ابن عباسٍ ـ رضي الله عنهما ـ كثير الملازمة لعمر، حريصاً على سؤاله، والأخذ عنه، ولذا كان رضي الله عنه من أكثر الصَّحابة نقلاً، وروايةً لتفسير عمر، وعلمه ـ رضي الله عنهم ـ وقد أشار بعض أهل العلم إِلى أنَّ عامَّة علم ابن عباسٍ أخذه عن عمر رضي الله عن الجميع.
هذا بعض ما لقيه ابن عباسٍ إِمام المدرسة المكِّيَّة من عناية الفاروق، وتقريبه له ـ رضي الله عنهم ـ وأظنُّ هذا ممَّا أعان ابن عباسٍ، وشجَّعه للمُضيِّ قُدُماً في طريق العلم عامَّةً، والتَّفسير خاصَّةً (ابن سعد،1968، 2/370).
مراجع البحث:
- ابن سعد، الطَّبقات الكبرى، دار صادر بيروت. 1388هـ 1968م
- أبو عبد الله النَّيسابوري، المستدرك على الصَّحيحين، طبعة سنة 1390 هـ/1970 م، دار الفكر.
- علي محمد الصلابي، عمر بن الخطاب، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003صص223-225.
- محمَّد حسن شُرَّاب، المدينة النَّبويَّة فجر الإِسلام والعصر الرَّاشدي، دار القلم بيروت، الدَّار الشَّاميَّة، بيروت، الطَّبعة الأولى 1415 ه/ 1994م.