البحث

التفاصيل

"لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر"

الرابط المختصر :

"لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر"

بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي – عضو الاتحاد

 

هل علينا هلال شهر صفر، وهو الشهر الثاني من الشهور القمرية يلي شهر الله المحرم ، وفي تسميته بهذا الاسم قال ابن منظور في لسان العرب: سمِّي بذلك لإِصْفار مكَّة من أهلها (أي خلّوها من أهلها) إذا سافروا فيه، وقيل سَمَّوه صفراً لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل الأخرى فيتركون من لقوا صِفْراً من المتاع أي يسلبونه متاعه فيصبح لا متاع له،

وأما في تاريخنا المجيد فهو شهر الذكريات الخالدة والجهاد والسرايا، فقد روت لنا كثير من كتب السيرة النبوية أحداثاً مشرقة من تاريخ هذه الأمة وقعت في شهر صفر، ومن أبرزها ما يلي:-

* تزوج رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة بنت خويلد في الخامس والعشرين من شهر صفر في العام السادس والعشرين من عام الفيل ، كان ذلك قبل البعثة وقد تجاوز عمره صلى الله عليه وسلم يومها الخامسة والعشرين.

* خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة المنورة في شهر صفر من السنة الثالثة عشرة للبعثة فوصلها في الثاني عشر من شهر ربيع الأول.

* تزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ولدت له السبطين الحسن والحسين في صفر من السنة الثانية للهجرة.

* فتحت خيبر في شهر صفر من السنة السادسة للهجرة النبوية.

* أسلم الصحابة عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم وقدموا المدينة المنورة في شهر صفر من السنة الثامنة للهجرة.

* وكان قدوم بني عذرة على الرسول صلى الله عليه وسلم وإسلامهم في صفر من السنة التاسعة للهجرة وهو عام الوفود.

وفي شهر صفر خرجت من المدينة المنورة أو عادت إليها كثير من السرايا المجاهدة في سبيل الله ومنها:-

* عودة سرية بني سليم في شهر صفر من السنة الثامنة للهجرة،

* وخروج سرية خثعم وسرية بني الملوح وسرية بني حارثة بن عمرو في صفر من السنة السابعة للهجرة،

* وفي شهر صفر كانت مصالحة الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران في عام الوفود بعد مناقشاتهم الطويلة في أمر سيدنا عيسى عليه السلام وتراجعهم عن المباهلة أي الملاعنة التي أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بها بعد أن وصلت النقاشات الحوارية بينه وبين الوفد إلى طريق مسدود ، فقال عز وجل: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} آل عمران 61.

* وكان الاستعداد لخروج بعث أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى الروم في السابع والعشرين من شهر صفر للسنة الحادية عشرة للهجرة، وقد حال مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته دون خروجه، فلما تولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة كان أول أعماله أن أنفذ هذا البعث.

* وقد شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في غزوة الأبواء ويقال لها ودَّان، وكانت في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مهاجره، وحمل لواءه الأبيض حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة ، وخرج في المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش ، فلم يلق منهم كيداً ، وفيها وادع مخشيَّ بن عمرو الضمري زعيم بني ضمرة على ألا يغزوهم ولا يغزوه ، ولا أن يكثِّروا عليه جمعاً ولا يعينوا عليه عدواً ، وكتب بها بينه وبينهم كتاباً.

وحتى إن كانت في شهر صفر أحداث مؤلمة لبعض الصحابة والتابعين وتابعيهم من المسلمين في تاريخهم كحادثة الرجيع التي كانت في صفر سنة ثلاث من الهجرة وقتل فيها عدد من الصحابة غدراً ، وأسر منهم خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة اللذيْن استشهدا في مكة المكرمة بعد ذلك ، وكحادثة بئر معونة التي كانت في صفر من السنة الرابعة للهجرة وقتل فيها سبعون من قُرّاء الصحابة غدراً ، فقد حدثت مصائب أخرى وشهور أخرى غير صفر ، لذا فلا يجوز تداول معلومات خاطئة وأفكاراً خطيرة تؤثر في عقيدتهم وإيمانهم بالله تعالى إن كانوا مقتنعين ومصدقين بها ؛ فيتحدثون عن التشاؤم من شهر صفر واعتباره شهر حلول المكاره ونزول المصائب، وهذا مخالف لمبدأ التوكل على الله سبحانه وتعالى والإيمان بأنه وحده الضار النافع ، وهي من صور التطيّر التي كانت سائدة بين العرب أيام الجاهلية ؛ حيث كان المشركون يتشاءمون من شهر صفر لأنهم كانوا يعودون فيه إلى السلب والنهب والغزو والقتل بعد أن كانوا قد كفوا عنها في الأشهر الحرم الثلاثة التي تسبقه، لدرجة أن كثيراً منهم كان لا يتزوج فيه مخافة فشل زواجه ، ولا يمضي تجاراته وصفقاته فيه خشية الخسارة ، وأنا أتساءل: هل هناك مصيبة أعظم من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول؟ فهل هذا مبرر للتشاؤم من هذا الشهر؟

جاء الإسلام ديننا الحنيف فبدد ظلمة التشاؤم وقضى على سواد التطير أو الخوف منه، فنهى عن التطير عموماً سواء من الأشخاص والأزمان والأحداث واعتبر ذلك من الشرك بالله عز وجل، ونص على إبطال التشاؤم من هذا الشهر إذ هو كسائر الشهور الأخرى ليس فيه ما يدعو إلى الخوف منه، وبيّن أن كل شيء حادث بإذن الله سبحانه الفعال لما يريد ، ويجري بأمره وقضائه وقدره ، فالزمان كله لله خلقه ليكون الظرف الذي تقع فيه أعمال الناس وفق علمه وإرادته ومشيئته ، وهذا هو مقتضى الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص . فلا يضاف إلى الدهر شيئاً من المكروهات أو من المحبوبات ، إنما هذا كله بيد الله سبحانه وتعالى.

ففضل شهر صفر كغيره من الشهور التي لم يخصّها الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم بفضائل مخصوصة ، فلا فضل لشهرٍ على شهر ولا ليوم على آخر إلا بما جعله الله فيها ، أو ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم وخصها بفضل أو عبادة تقع فيها ، وكل ما سوى ذلك منكر وزور وتقوّل على الله وافتيات على شرعه، وهذا نبينا وحبيبنا وقدوتنا وشفيعنا صلى الله عليه وسلم لم يتشاءم من هذا الشهر، بل كان يتعامل فيه كما يتعامل في بقية الأشهر فتزوج فيه وزوج حبيبته الزهراء وغزا وجاهد فيه ، وقد وقعت في هذا الشهر بشائر للأمة ومنَّ الله عليها بفتوحات وانتصارات مؤزرة ، ولو كان التشاؤم صحيحاً لما استطاع القادة والفاتحون القيام بما قاموا به في شهر صفر.

والأحاديث النبوية الدالة على تحريم التطير والتشاؤم كثيرة منها : قوله صلى الله عليه وسلم: {لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ، وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد} رواه البخاري، فهذا الحديث النبوي نص صريح على إبطال هذه العادة السيئة وهي التشاؤم بشهر صفر أو غيره من الشهور فهي من الأمور التي كانت تعانيها الجاهلية ، فالشهور كلها محل طاعة الله عز وجل وعبادته وليس فيها شيء يُتَشاءم منه، لأن الزمان كله خلق الله تعالى وفيه تقع أفعال العباد ، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه ، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤم عليه؛ لأن الشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى واقتراف الذنوب فإنها تسخط الله عز وجل ، فإذا سخط على عبده شقي في الدنيا والآخرة ، أما إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا والآخرة.

ومنها الأحاديث الدالة على تحريم التطير والتشاؤم قوله صلى الله عليه وسلم: {لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل ، قالوا وما الفأل؟ قال كلمة طيبة ، وفي رواية قال: "ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة} رواه البخاري، فالتشاؤم هو نتيجة لجهلهم بدينهم وضعف إيمانهم وعقيدة التوحيد فيهم.

وذُكِرَتْ الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فقال أحسنها الفأل، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك } أخرجه أبوداود.

وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: {الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، الطيرة شرك} رواه أبوداود، وقد اعتبر الطيرة شركاً لأنها اعتقاد أن الضرر أو النفع من عند غير الله سبحانه؛ بل الله سبحانه وتعالى هو وحده الضار النافع، قال صلى الله عليه وسلم يوماً لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} رواه الترمذي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس


: الأوسمة



التالي
الاتحاد ينعي الداعية مجيب الرحمن أنصاري وضحايا حادث انفجار مسجد في ولاية هرات الأفغانية - رحمهم الله
السابق
تغيير قوانين الأسرة يبدأ بترويج الشبهات المتعلّقة بالأسرة | د. سناء الحداد (فيديو)

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع