(.. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ..)
بقلم: الشيخ د. تيسير رجب التميمي
وفي الجمعة الأخيرة من شهر الميلاد النبوي الشريف أختم ببعض المميزات الأخرى للسيرة النبوية المطهّرة ، ولكنني قبل ذلك سأوضح للضرورة الفرق بين الحديث النبوي والسنة النبوية والسيرة النبوية : فالحديث النبوي هو كل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقِيَّة أو خُلُقِيَّة ، بينما تعرَّف السنة النبوية بأنها كل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ، أما السيرة النبوية فهي كل ما ورد من أحداث حياة النبي صلى الله عليه وسلم من مولده إلى وفاته وما يتعلق بذلك من أشخاص ووقائع مع ترتيبها ترتيباً زمنياً .
وأما مميزات السيرة النبوية فمنها الوضوح ، فهي تتناول حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع مراحلها بدءاً بزواج أبيه عبد الله بأمه آمنة بنت وهب ، ومروراً بولادته وطفولته وشبابه وبعثته ودعوته وهجرته وكل ما مر به وانتهاء بيوم ولحظة وفاته موثقة باليوم والتاريخ ودون انقطاع أو غموض وبعيداً عن التأليه والتقديس ، فهي تشمل جميع تفاصيل حياته سواء قبل البعثة وبعدها ، وسواء في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة ، فكل من أراد أن يعرف تفاصيل حياته صلى الله عليه وسلم فيمكنه أن ينهلها من مصادر صحيحة أولها وفي مقدمتها القرآن الكريم ، ومن مصادر أخرى متعددة وثابتة ؛ حيث إن الرعيل الأول من المسلمين صحابة وتابعين وتابعيهم اهتموا بهذه السيرة النبوية فحفظوها كما يحفظون السورة من القرآن ، وتواصوْا بتعلّمها وتعليمها لأولادهم ، فقد ورد أن زين العابدين بن علي بن الحسين كان يقول: [كنا نُعلَّمُ مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن ] ، وقال محمد بن سعد بن أبي وقاص [ كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ويقول : يا بَنِّي هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها].
** ومن مميزات السيرة النبوية أيضاً أنها أكبر دليل على إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته ورسالته:
* فلو لم يكن مؤمناً ومصدقاً بها لما تحمَّل في سبيلها إيذاء قومه حتى من أقرب أقاربه ، فهذا مثلاً أبو لهب وزوجته يمعنان في إيذائه أشد الأذى حتى نزل فيهما قوله تعالى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } المسد 1-5 ، ولم يكن الإيذاء جسدياً فقط بل تجاوز ذلك إلى الإيذاء المعنوي ، فقد أمر أبو لهب ولديه عتبة وعتيبة بتطليق ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم وهما رقية وأم كلثوم ، بل وصل الأمر إلى معايرته بإنجاب البنات ووصفه بأنه أبتر لا بنين له ، فدافع الله عنه بقوله سبحانه وتعالى { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } الكوثر 1-3.
* ولو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً بدعوته لما ثبت عليها وتمسك بها وسط معاناته تضييق قومه وتثبيطهم وتهديدهم له ، فكم حاولوا ثنيه عن هذه الدعوة بالترغيب والترهيب وشتى الأساليب ، لكنهم ما نجحوا أبداً ، قال عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه { جاءت قريشٌ إلى أبي طالب فقالوا : أرأيتَ أحمدَ يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا فانهَهُ عن أذانا ، فقال يا عقيل ائتني بمحمد ، فذهبتُ فأتيتُه به فقال : يا ابن أخي إن بني عمِّك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم فانتَهِ عن ذلك ، قال فلحَظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السّماء فقال : أَترَون هذهِ الشَّمس ؟ قالوا نعم ، قال ما أنا بَأَقدرَ على أن أَدَعَ لكُم ذلك مِنْ أن تُشْعِلوا لي منها شُعْلة ، فقال أبو طالب : ما كَذَبَنَا ابنُ أخي قط فَارْجِعوا } رواه البخاري في التاريخ.
* ولو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً بدعوته لما طبقها عملياً في حياته ولما الْتزم بأحكامها الربانية ، فكانت هذه السيرة ترجمة واقعية لآيات الله وأحكام شرعه والتي تثبت للجميع أنها قابلة للتطبيق والممارسة وليست أحكاماً مثالية أو خيالية تفوق إمكانيات البشر ، فإذا قرأنا مثلاً آيات العبادات رأيناه العابد الأول لربه جل وعلا ، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه ، قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم يا عائشة أفلا أكون عبدا شكوراً} رواه مسلم، وقال أنس رضي الله عنه: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئاً ، وكان لا تشاء تراه من الليل مصلياً إلا رأيته ولا نائماً إلا رأيته } رواه البخاري.
وإذا قرأنا آيات الجهاد رأيناه المجاهد الأول الثابت في ميادين الحرب والمتقدم لصفوف المقاتلين في سبيل الله حتى أن علياً رضي الله عنه قال: {كنا إذا احمرَّ البأس ولقي القومُ القومَ اتَّقَيْنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه } رواه أحمد ، وقد جرح في غزوة أحد ، قال أنس رضي الله عنه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه ، فجعل يسلت الدم عنه ويقول : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله عز وجل : ليس لك من الأمر شيء } رواه مسلم ، والآية هي قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} آل عمران 128 ، والر!َباعية هي السن الذي بين الثنية والناب.
وإذا قرأنا آيات وجوب العدل في القضاء بين الناس رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدل الناس لا يحيف ولا يظلم ولا يحابي أحداً على أحد ولو مع غير المسلمين ، بل يقضي بينهم بالحق وبما أنزل الله تعالى ، قال الأشعث بن قيس رضي الله عنه { كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألك بينةٌ ؟ قال : قلتُ لا ، قال : فقال لليهودي احلف ، قال : قلتُ يا رسول الله إذاً يحلف ويذهب بمالي ، قَال فأنزل الله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ... } رواه البخاري ، والآية هي قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } آل عمران 77.
وإذا قرأنا آيات وجوب ممارسة الحاكم المسلم للشورى وجدناه مسارعاً في تنفيذ هذا المبدأ في معظم المواقف التي اقتضت ذلك ، فكان يُكثِر مِن مُشاورة أصحابه في قضايا الحروب والسِّلْم وقضايا الأمة وشؤونها على الرغم من كونه مؤيداً بالوحي ، لكنه يعلمهم الشورى في حياتهم ، وقد { استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فقال الحُباب بن المنذر : نرى أن نُغَوِّرَ المياه كلها غير ماء واحد فنلقى القوم عليه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الْقُلُبِ كلها فَغُوِّرَتْ إلا ماء بدر فلقوا القوم عليه ، واستشار الناس حين أتى خيبر: أين ننزل؟ فقال الحباب: انْزِلْ فنقطع خبر هؤلاء عن هؤلاء ، وخبر هؤلاء عن هؤلاء ، فنزل بين القصور } رواه أبو داود ، واستشار الرسول أصحابه يوم بدر في الأسرى فقال: إن الله قد أمكنكم منهم ، فأشار عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالعفو عنهم مع الفداء ، وأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بضرب أعناقهم ، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر فأخذ منهم الفداء، وأطلق سراحهم.
وإذا قرأنا في القرآن الكريم آيات حسن المعاشرة رأيناه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس عشرة لأزواجه وأصحابه وأهل بيته ، فكان يُكرم ولا يهين ، يُوجِّه وينصح ولا يعنِّف أو يَجْرَح ، قال أنس رضي الله عنه: {ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله} رواه مسلم ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه { كنا معشر قريش نغلب النساء ، فلمَّا قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم ، فطَفِق نساؤنا يأخذْنَ مِن أدب نساء الأنصار ، فصحتُ على امرأتي فراجعتني فأنكرتُ أن تراجِعَنِي فقالتْ : ولِمَ تُنكر أن أراجعكَ ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليُرَاجِعنه وإن إحداهنَّ لتهجره اليوم حتى الليل} رواه البخاري،
وإذا قرأنا في القرآن الكريم آيات الدعوة إلى دين الله رأيناه منفذاً لمنهجها وأسلوبها بحسن مجادلة المدعوين وباتباع الحكمة والموعظة الحسنة ، فكان بعيد النظر عميق التفكير وفي ذات الوقت سمحاً عَفُوّاً هيّناً ليّناً ، ومن أمثلة ذلك قول أنس رضي الله عنه: {جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوها فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً ، وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني} رواه البخاري ، ومعنى تقالُّوها أي وجدوها قليلة.
وتأتي أهمية دراسة ومعرفة السيرة النبوية أنها نبراساً ينير لنا الطريق التي أمرنا الله عز وجل باتّباعه ، فهي التي ستمكّننا من الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والسير على هديه وطاعته فيما أمرنا به ونهانا عنه ، قال سبحانه وتعالى في وجوب ذلك علينا { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... } النساء 64 ، فلا يحق لنا أن نكتفي من الاحتفال بالمولد النبوي أن نملأ الدنيا بتلاوة قصة المولد ولا أن تصدح أصوات المدّاحين الشَّجيّة بالأناشيد الجميلة ، بل المطلوب منا ترجمة ذلك إلى فعل وسلوك يصلح حال الأمة ويحيي مجدها ويحقق رفعتها ويعيد لها النصر والتمكين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الشيخ د. تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، قاضي قضاة فلسطين، رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس