بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان المسن في التصور الإسلامي وأدواره التنموية
بقلم: الدكتورة نزيهة أمعاريج
عضو مجلس الأمناء ورئيس لجنة الثوابت والفكر الإسلامي
أولا، نظام الإنسان المسن في التصور الإسلامي
إن الحديث عن الإنسان المسن في التصور الإسلامي موجه بالنظام العام للتعامل مع مخلوق الإنسان في الإسلام، بغض النظر عن جنسه ذكرا كان أم أنثى وعن عمره جنينا في بطن أمه أو صبيا أو شابا أو شيخا.
وعليه فإن معالم هذا النظام يمكن أن نختزلها في ما يلي:
1- بيان أن مخلوق الإنسان بمراحله العمرية المختلفة إنما هو آية من آيات الله، قال سبحانه وتعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِے بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ خَلْقاٗ مِّنۢ بَعْدِ خَلْقٖ فِے ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖۖ ذَٰلِكُمُ اُ۬للَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اُ۬لْمُلْكُۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنّ۪يٰ تُصْرَفُونَۖ) (المزمل/7) وقال أيضا: (هُوَ اَ۬لذِے خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاٗ ثُمَّ لِتَبْلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاٗۖ وَمِنكُم مَّنْ يُّتَوَفّ۪يٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوٓاْ أَجَلاٗ مُّسَمّيٗ وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَۖ)، (غافر/67) والمسألة فيها إحالة على عناية الخالق وقدرته وقيوميته من جهة، وعلى شرف المخلوق وأفضليته على باقي المخلوقات من جهة أخرى، قال الله تعالى: (وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَيٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاٗۖ) (الإسراء/70).
2- التأكيد على صفة التكريم الثابتة للإنسان في كل مرحلة من تلكم المراحل، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِےٓ ءَادَمَ)، (الإسراء/70) وهو تكريم عام جامع لجنس الإنسان ذكره وأنثاه صغيره وكبيره، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه"([1]).
3- سن ترسانة من التشريعات والقوانين الحافظة لكلياته من دين ونفس وعقل ومال وعرض، الضامنة لحقوقه، المبينة لواجباته، حيث حرم الإسلام الاعتداء عليه بالقتل أو الإهانة أو التضييق، قال الله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُواْ اُ۬لنَّفْسَ اَ۬لتِے حَرَّمَ اَ۬للَّهُ)، (الاسراء/33) قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يَسْتَخفُّ بِحقهم إلا منافقٌ، ذو الشيْبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط".([2])
4- أن خلق الإنسان في الإسلام إنما كان لغايات جليلة ومقاصد سامية: من عبودية المولى عز وجل، وعمارة الأرض، وحفظ الجنس البشري، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ اُ۬لْجِنَّ وَالِانسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِۖ) (الذاريات/ 56) وقال أيضا: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ اَ۬لَارْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، (هود/61) وقال أيضا: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنَ اَنفُسِكُمُۥٓ أَزْوَٰجاٗ وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ اَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ اَ۬لطَّيِّبَٰتِۖ) (النحل/72)
5- أن طبيعة العلاقة بين هذه المراحل العمرية، إنما هي علاقة تراحم واحترام وتوقير، قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يرحم صغيرنا ويَعْرِفْ حقَّ كبيرِنا، فليس منا".([3])
6- أن نعلم جميعا أن إطالة عمر الإنسان هي إرادة إلهية وفضل إلهي يختص به من يشاء من عباده، ومن حِكم هذه الإطالة الاستزادة من الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم: "وإنه لا يزيد المؤمن عمرُه إلا خيرا"،([4]) وقال أيضا: "خياركم أطولكم أعمارا إذا سددوا".([5])
7- أن العناية بالمسن عبادة يتقرب بها إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: "إن مِنْ إِجْلال اللهِ: إكرامَ ذي الشَّيْبةِ المسلمِ "، ([6]) فإكرام المسن وتوقيره هو تعظيم للباري تعالى.
8- أن إكرام المسن سبب لتفريج الكرب كما أرشد إليه ديننا الحنيف بالنسبة للثلاثة الذين في الغار لما قال أحدهما: "اللهم كان لي أبوان شيخا كبيران، وكنت لا أغْبِقُ قَبْلَهما أَهْلا أو مالا، فنأَى بي في طلب شيء يوما، فلم أُرِحْ عليهما حتى ناما، فَحَلبت لهما غبُوقَهما، فوجدتهما نائمين، وكرِهت أن أَغْبِق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدَحُ على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصِّبْيَةُ يتَضاغَوْن عند قدمي فاستيقظا فشربا غَبوقَهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا".([7])
9- أن الإحسان إلى المسن سبب لدخول الجنة والفوز برفقة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام قال صلى الله عليه وسلم: "يا أنس: وقر الكبير وارحم الصغير ترافقني في الجنة ".([8])
فالترابط الحاصل بين المراحل العمرية، يؤكد على أهمية كل مرحلة بالنسبة للدورة العمرية من حياة الإنسان، فالصبا هي المنطلق إلى الشباب، والشباب هو المعبر إلى الشيخوخة، فلا غنى للشباب عن الصبا ولا للشيخوخة عن الشباب.
الأدوار التنموية للإنسان المسن في الإسلام
تأسيسا على ما سبق فإن المجتمع لا يمكن له بحال أن يفرط في أي فئة من فئاته، على اعتبار أن الاسهام في الفعل التنموي في الإسلام غير محدد بسن ولا مقيد بجنس، فالكل مطالب بالانخراط في العملية التنموية بتعمير البلاد واسعاد العباد.
فالإسلام لا يؤمن بالعطالة التنموية، ويجعل السعي إلى تحسين ظروف الناس وتطوير أوضاعهم مسؤولية مشتركة يتقاسمها الجميع، وهي وظيفة دائمة إلى أن تقوم الساعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن يحطب أحدُكم حُزمةً على ظهره، خيرٌ له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه،"([9]) و عن كعب بنِ عُجْرَةَ قال: "مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم من جَلَدِه ونَشاطه ما أعجبهم، فقالوا: يا رسول اللهِ، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ كان خرج يسعى على وَلَدِه صِغَاراً فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يَعِفَّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياءً وتفاخُرا فهو في سبيل الشيطان"،([10]) وقال: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها،"([11]) فهي إذا تنمية مستمرة ودائمة إلى قيامة الساعة.
وعليه فإن من أهم الأدوار التنموية التي بإمكان المسن المسلم أن يقدمها لمجتمعه مايلي:
1- البركة والتيسير والتزكية التي ترافق وجود المسنين حين وجودهم معنا، وهذا تتجلى فيما نستشعره من معاني الطمأنينة والوقار التي تحف البيوت وتتنزل على الأسرة مراعاة لوجود المسن وتقديرا لمقامه، قال صلى الله عليه وسلم: "البركة مع أكابركم"،([12]) وقال أيضا: "هل تُنْصرون وترزقون إلا بضعفائكم"،([13]) وقال أيضا: "أَبْغُوني في الضعفاء، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم"،([14]) والحديث الأخير اقترن بالفي ء والغنائم التي تعود على المسلمين بعد الحرب، فلنلاحظ كيف أن النبي الكريم قد وضح أن أسباب النصر لا تتوقف على الرجل القوي وشجاعته فحسب، وإنما من أسباب ذلك أيضا التأييد الرباني ودعاء الضعفاء وصلاحهم و. و. و.
2- ثروة معنوية ومادية لا تقدر بثمن تلك التي يوفرها وجود المسن في البيت بالنسبة للأطفال الصغار مثلا، وبخاصة في حالات مغادرة الوالدين المنزل، وهكذا فإن الصبي بدلا من أن يجد نفسه بين يدي الخادمة أو يسلم إلى دار الحضانة في سن مبكر جدا، فإنه يبقى في بيته وبين أحضان جدته أو جده أو خالته أو عمته.
3- فائدة اشراك المسن في معالجة آفة من أكبر أفات العصر، وهي ظاهرة الإدمان الرقمي عند الأطفال، وذلك بإشغالهم بالقصص النافع المفيد، أو باللعب الممتع، أو مرافقتهم إلى حدائق عمومية و مكتبات و متاحف وغيرها من الأماكن المفيدة التي نقلل بها من خطر بقاء الصبي وجها لوجهة أمام وسائل الإدمان.
4- مساعدة المسن في تنشئة أبنائنا على العادات الحسنة، من نظافة واحترام الوقت والاعتماد على النفس في ترتيب أمور حياتهم.
5- اسهام المسن في ترسيخ الأخلاق الحسنة والقيم الإنسانية لدى الأطفال، وهو دور في متناول كل مسن سواء أكان متعلما أو غير متعلم.
6- توريث الأبناء ثقافة احترام الكبير وهم يراقبون آباءهم يحسنون إلى المسنين، وهذا فضل ما بعده فضل.
7- اسهام المسن في استقرار البيوت من حيث النصح والتوجيه والمساعدة على حل المشاكل انطلاقا من تجاربهم وخبراتهم في الحياة، هذا مما يعود بالخير الوافر على الأزواج وبخاصة بالنسبة لحديثي العهد بالزواج.
8- استثمار وضعياتهم الاعتبارية في المجتمع ومكانتهم في نفوس الناس، وتوظيف ذلك في خدمة استقرار المجتمع في إصلاح ذات البين وفي الشفاعة الحسنة لنخفف من المشاكل اليومية ونساهم في قطع الطريق أمام الولوج إلى المحاكم.
9- الاستفادة من خبرات المسن وتوظيف تجاربهم الناجحة، والمثال إذا ما كان المسن معلما أو طبيبا أو فقيها أو حرفيا أو...وراكم خبرة مهمة وعاش تجارب طويلة يسلمها للجيل الذي يليه ليستفيد منها ويبني عليها حتى لا يبدأ من الصفر، وهذا من الرأس مال اللامدي الذي يجب أن نحميه ونجتهد في تطويره، وهذا الصنف هم الذين امتدحهم النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه حيث قال: أن أعرابيا قال : يا رسول الله، من خيرُ الناس؟ قال: من طال عمرُه وحسنَ عملُه". ([15])
10- أن الأعمال التي يأتي بها المسن هي زيادة وإضافة في رصيد المجتمع التنموي، ووفاته إيذان بتوقف وانقطاع هذه الأعمال، وتأكيد ذلك التوجيه النبوي الذي ينهانا فيه صلى الله عليه وسلم عن عدم تمني الموت حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدعو به من قَبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمرُه إلا خيرا"،([16]) و عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال: "ليس أحد أفضل عند الله تعالى من مؤمن يُعَمَّر في الاسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله"([17])، فالإنسان المسلم في مثل هذا السن عادة ما يجتهد في الاستزادة من الطاعات والتكثير من العبادات والأعمال الصالحة، هي تزكية وتنمية متجددة يعود فضلها على المسن في ذاته وعلى مجتمعه وأمته من بعده.
11- أن إشراك المسن في الحركية المجتمعية بعدم عزله، نوفر به ثروة مهمة من مصاريف علاج حالات الإصابة بالاكتئاب وكذا مصاريف إدخاله مصحات الأمراض النفسية .
12- أن المسن وسيلة لتنمية الإحساس بالانتماء إلى الأسرة وإلى المجتمع وإلى الأمة، فكبار السن هم أصولنا الثابتة في الأرض ومن ضيع الأصول حرم الوصول، فالمجتمع الذي يتخلص من كبار السن بترحيلهم من المنازل والإلقاء بهم في دور الإيواء هو مجتمع يقتلع جذوره، ولذلك حذر الإسلام من الإساءة إلى كبير السن بأي وجه من الوجوه، قال الله تعالى: (اِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ اَ۬لْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاٗ كَرِيماٗۖ ٢٣ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَ۬لذُّلِّ مِنَ اَ۬لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ اِ۪رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَٰنِے صَغِيراٗۖ). (الإسراء/23)
واجباتنا تجاح المسن
وفي مقابل هذا التنمية الإنسانية المجتمعية الحسنة للإنسان المسن، فإن له علينا حقوقا نوفيها له جزاء ما قدم لأسرته ومجتمعه وأمته ومنها:
1- حق الإحسان إليهم جزاء ما أحسنوا إلينا حال ضعفنا، قال الله تعالى: (هَلْ جَزَآءُ اُ۬لِاحْسَٰنِ إِلَّا اَ۬لِاحْسَٰنُۖ)، (الرحمن/60) فالإحسان إلى المسن هو انصاف له واعتراف بجميله ورد لدين له علينا، قال الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا اَ۬لِانسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْناً عَلَيٰ وَهْنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِے عَامَيْنِۖ أَنُ اُ۟شْكُرْ لِے وَلِوَٰلِدَيْكَۖ إِلَيَّ اَ۬لْمَصِيرُۖ) (لقمان/ 14).
2- حق التوقير والاحترام امتثالا لتعاليم ديننا الحنيف واقتداء بفعل نبينا الكريم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا،"([18]) ويوم فتح مكة جاء أبو بكر الصديق يحمل والده أبا قحافة حتى وضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه"،([19]) فكم هو جميل فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يحضر أباه لينال من فضل وشرف لقاء النبي الكريم، غير أن الأجمل منه هو استعداد النبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من مسؤولياته الكثيرة أن يأتي الشيخ في بيته شفقة عليه ورحمة به، فأبو قحافة فضلا على كبر سنه فقد كان فاقدا بصره.
3- التأدب والتلطف مع المسن بتقديمه في الكلام، وخفض الجناح له، والسعي فيما يسعده، بمبادرته بالسلام، والسؤال عن أحواله، وقضاء حاجاته من نظافة ومأكل وعلاج...، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد، والقليل على الكثير"،([20]) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه: "إن من الشجر لشجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي، فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة"،([21]) فالذي منع الصحابي الجليل من الكلام إنما هو توقير الكبار وحياؤه أن يسبقهم بالقول.
4- الدعاء للمسن استجابة لقول الله تعالى: (وَقُل رَّبِّ اِ۪رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَٰنِے صَغِيراٗۖ) .(الاسراء/14)
5- عدم الضجر والتأفف منهم، والتفاؤل بوجودهم، واعتبار ذلك من أسباب الاستزادة من الطاعات وجلب البركات، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله عبادا يضن بهم عن القتل، يطيل أعمارهم في حسن العمل، ويحسن أرزاقهم، ويحييهم في عافية، ويقبض أرواحهم في عافية على الفرش، فيعطيهم منازل الشهداء".([22])
6- العطف والشفقة عليهم مراعاة لما صاروا إليه من حالة الضعف والعجز والوهن، قال الله تعالى: (اَ۬للَّهُ اُ۬لذِے خَلَقَكُم مِّن ضُعْفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعْدِ ضُعْفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعْدِ قُوَّةٖ ضُعْفاٗ وَشَيْبَةٗۖ) (الروم/54)
وخلاصة ما تقدم، فإن الإنسان المسن ثروة مجتمعية تنموية يجب استثمارها الاستثمار الجيد الحسن بالاستفادة من خبراته وحكمته وتجاربه، أما عن التعامل معه فضابطه ما يلي:
1- أن نعلم أن الاهتمام بالمسن هو من أجل الطاعات، وأكرم القربات إلى الله.
2- أن الإحسان إليه إنما هو إحسان إلى أنفسنا. باتقاء المصير السيء الذي يمكن أن ننتهي إليه متى صارنا إلى ما صار إليه المسن إن نحن ضيعنا حقوقه، قال صلى الله عليه وسلم: "البر لا يبلى، والخير لا ينسى، والديان لا يموت، فكن من شئت، كما تدين تدان"،([23]) فعنه صلى الله عليه وسلم: "ما أكرم شاب شيخا لسنه، إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه،"([24]) فالعناية بالمسن هي من الطاعات الاستباقية الوقائية التي تحفظ الإنسان عند ضعفه، قال الله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اَ۬للَّهِۖ). (البقرة/110) فالجزاء يكون جنس العمل قال تعالى: (وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثْلُهَاۖ). (الشورى/40)
3- أن وضعيات الإنسان المسن كلها تقتضي العناية به لأنها لا تخرج عن الحالات الآتية:
أ- أن يكون أخا لنا في الإنسانية وهي حالة تستوجب الرحمة لما أننا سفراء الرحمة إلى العامين، قال الله تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةٗ لِّلْعَٰلَمِينَۖ)، (الأنبياء/106) ومن آداب الحرب في الإسلام عدم الإساءة إلى المسن المخالف لنا في الدين، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين."([25])هذا حالة الحرب فما بالك عند السلم، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "الناس صنفان إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق"،([26])أي في الإنسانية.
ب- أن يكون المسن من أهل ديانة أخرى، المسلم يأبى عليه دينه الإساءة إلى الكبير كيف ما كان جنسه أو لونه أو دينه، وهو ذا عمر رضي الله عنه يكرم المسن اليهودي لشيبته عن حيث إنه: "مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب المساجد، فقال: ما أنصفناك، إذا كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه".([27])
ت- أن يكون المسن أخا في الدين وحقوق الأخوة في الدين كما أوجبها الإسلام لم تتقيد بسن وليست وقفا على مرحلة الشباب، قال صلى الله عليه وسلم: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس." ([28])
ث- أن يكون المسن من ذوي القربى، قال الله تعالى: (وَءَاتِ ذَا اَ۬لْقُرْب۪يٰ حَقَّهُۥ) (الإسراء/26) وهذه الحقوق تصبح آكد بالنسبة للمسن بالنظر إلى ما هو عليه من حالات الضعف والحاجة والوهن.
ج- أن يكون المسن من الوالدين، ويكفينا في المقام التذكير بأن حقوقهما قد اقترن بحقوق المولى عز وجل قال الله تعالى: (أَنُ اُ۟شْكُرْ لِے وَلِوَٰلِدَيْكَۖ). (لقمان/13)
ومن هنا تتجدد الدعوة إلى محاصرة الظاهرة البغيضة التي أصبحت تتمدد داخل المجتمعات المسلمة من انتشار لدور إيواء المسنين، ولنجتهد في إبداع سبل العناية بالمسن داخل محيطه إجلالا لله و تبرئة للذمة .
و بذلك فإذا كانت التنمية في أبسط معانيها هي إنجاز العمل بأدنى مجهود، وفي أقل مدة، وبأعلى منتوج، فإن الإنسان المسن قد صار يشكل عنصرا هاما في التنمية.
والحمد لله رب العالمين.
([1]) أخرجه، ابن ماجه، الصحيح، حديث رقم، 3712.
([2]) أخرجه، الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، كتاب العلم، باب في معرفة حق العالم، حديث رقم 533.
([3]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب فضل الكبير، حديث رقم 353.
([4])أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، حديث رقم 4748.
([5]) أخرجه الحاكم في المسند، كتاب الجنائز، حديث رقم، 1255 وقال عنه صحيح على شرط الشيخين.
([6]) أخرجه، ابن ماجة، السنن، باب إّذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، حديث رقم3712.
([7]) أخرجه، البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، حديث رقم3278.
([8]) أخرجه، البيهقي، الأربعون الصغرى، حديث رقم87.
([9]) أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب بيع الحطب و الكلإ، حديث رقم 2274.
([10]) أخرجه الطبراني، المعجم الأوسط، باب الميم من اسمه محمد، حديث رقم 7027.
([11]) أخرجه البخاري، الأدب المفرد، 1/168.قال شعيب الارنؤوط وآخرون صحيح على شرط مسلم.
([12]) أخرجه الحاكم، المستدرك، حديث رقم، 238، وقال عنه صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه..
([13]) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، حديث رقم 2896.
([14]) أخرجه أبو داد في السنن، باب في الانتصار برذل الخيل والضعفة والصالحين في الحرب، حديث رقم 2594..
([15]) أخرجه الترمذي حديث رقم 2329..
([16]) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، حديث رقم 4748.
([17]) أخرجه الإمام أحمد، في المسند، حديث رقم 20 ،وقد قال محقق الكتاب أحمد شاكر إن الحديث صحيح.
([18]) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب مما جاء في رحمة الصبيان، حديث 1919.
([19]) أخرجه الإمام أحمد، في المسند، حديث 12635.
([20]) أخرجه، البخاري، كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير، حديث رقم6231 .ومسلم، باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير، حديث رقم، 2160. 1919.
([21]) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، حديث رقم 62.
([22]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، حديث رقم، 10371.
([23]) أخرجه عبد الرزاق، في المصنف، 11/178. وابن حجر في الفتح13/466 وقال عنه مرسل ورجاله ثقات.
([24]) أخرجه الترمذي، في السنن، باب ما جاء في إجلال الكبير، حديث رقم، 2022.
([25]) نهج البلاغة3/84، ط الأولى.
([26]) أخرجه أبو داود، في السنن،3/86..
([27]) حياة الصحابة، محمد يوسف الكاندهلوي2/346.
([28]) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، حديث رقم 1240. ومسلم، باب السلام من حق المسلم للمسلم رد السلام، حديث رقم، 2162.