كأس العالم وظلام من الغرب
بقلم: د. محمد الصغير
قبل عامين من الآن، انطلقت دعوات مقاطعة المنتجات الفرنسية، ردا على الرسوم المسيئة لمقام رسول الله محمد ﷺ، التي تبنتها الحكومة الفرنسية، واعتبرها الرئيس ماكرون من باب حرية التعبير، ولم يعرف تاريخ وسائل التواصل الاجتماعي استمرار دعوة عبر وسم يومي مدة عامين متتاليين قبل هذا الوسم الذي تصدر قائمة الأكثر تداولا في أحيان كثيرة، ألا وهو وسم مقاطعة منتجات فرنسا. بل إنه بعد عام من إعلان هذه المقاطعة تأسست الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام ﷺ، لتحويل جهود الدفاع عن رسول الله ﷺ ونصرته إلى عمل مؤسسي يعمل على مدار العام، ولا يكون ردا على الهجمات المتكررة أو المرتدة.
وفي الوقت الذي فترت فيه عزيمة البعض عن إكمال طريق المقاطعة، وكثر السؤال عن فائدتها وجدواها، خرج علينا عمدة باريس وقد تأبط شرا ثم دعا جهرا إلى مقاطعة مباريات كأس العالم لكرة القدم، التي تقام في قطر في نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، وإمعانًا في الكيد والخصومة، وتأكيدًا للمقاطعة، عاد فأعلن أنه لن يسمح بوضع شاشات العرض في الشوارع التي دأب جمهور اللعبة على المتابعة من خلالها، وغير بعيد من باريس أعلنت وزيرة الداخلية الألمانية موقفا قريبا من ذلك (قبل أن تتراجع).
ولست مهتما بكرة القدم ولا متابعا لأحداثها، ولكن بدا أن الحملة الأخيرة على قطر جاءت لموقفها الثابت من رفض ما يخالف القيم والثوابت، أثناء تنظيمها فعاليات كأس العالم، وتأكد أن الغطرسة الغربية مقدمة على المصالح الاقتصادية، نظرًا لأن أكبر العلاقات الاقتصادية لقطر في أوربا مع فرنسا، ومع ذلك فهي التي بدأت الحملة كعادتها في كل شر، حيث تخصصت في محاربة شعائر الإسلام كالحجاب، والتضييق على المسلمين بإغلاق المساجد وإبعاد الأئمة والدعاة.
وهذا يدل على أن الغرب يسعى لفرض قيمه وتصوراته دون النظر إلى ما أصاب مجتمعهم من التشرذم والتفسخ نتيجة الغوص في وحل الجاهلية الحديثة، وما زلنا نتابع ما تنشره وسائل الإعلام العالمية، عن تجربة أول امرأة إنجليزية تعمل مع فريق داخل غواصة، وكيف تعرضت لأبشع أنواع المضايقات، وكل أساليب التحرش حتى قالت إنها لا يمكن أن تكرر هذه التجربة المؤسفة.
ولذا كان فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، إذا تحدث الناس عن الغرب وتقدمه في الصناعات الحديثة، قال إلا أني أرى ظلاما قادما من هناك، وألف كتابه “ظلام من الغرب”، وكان الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله، يرى في الغرب حضارة بلا أخلاق، ونهضة بلا مبادئ، وسجل شهادته هذه بعد عودته من أمريكا، في كتاب: “أمريكا التي رأيت أو أمريكا من الداخل”، وكان قد سافر مبتعثا إليها في 3 نوفمبر 1948م، وعاد منها في 20 أغسطس 1950.
غطرسة الرجل الأبيض
وهناك بُعد آخر في المسألة يتلخص في غطرسة الرجل الأبيض، وعنصرية المحتل القريب، حيث لا يرى لغير عالمه وجنسه الحق في المنافسة على الصدارة، أو الترقي في مراقي الريادة، ولو كان في اللعب والرياضة، وهذا ما أكدته الأصوات المنصفة التي تشرق كل حين وسط ظلام الغرب الدامس.
حيث صرح الحقوقي الفرنسي فرانسوا دي روش -رئيس منظمة حقوق وعدالة بلا حدود- بأن قرار عمدة باريس بعدم إقامة مناطق للمشجعين أثناء مباريات كأس العالم قطر 2022 بذريعة انتهاك حقوق العمال نوع من النفاق، وإنها بمثابة “متاجرة سياسية”.
والعجيب في الأمر أن ما تقوم به فرنسا يمثل ازدواجية فجة وعنصرية مقيتة، لأنها في الوقت الذي تمنع فيه الفتيات من دخول المدارس والجامعات بالحجاب بحجة أنه رمز ديني، وتضيق على شعائر الإسلام بذريعة مخالفة قيم الجمهورية الفرنسية، تريد أن تفرض انحرافها عن الفطرة على المجتمعات المحافظة، التي تريد أن تحفظ تماسكها وترفض الانحلال الذي لا يناسب عقيدتها النقية، ولا عاداتها وموروثاتها الأصيلة، وهذا اختبار صعب وتحدّ كبير ينبغي أن تتكاتف الأمة جميعها على رفضه، وتساند قطر في ثباتها، وتخفف من تكالب الثعالب عليها.
وأعود فأُذكّر بما قاله صاحب الظلال الذي عاش بين القوم عامين، وسجل من يومها تحذيره من الانجراف تحت تأثير سطوة الثقافة الغالبة، والتنازل عن الهوية والثوابت، وكأنه يعلق على اللحظة الراهنة، إذ قال: “إن أولى الخطوات في طريقنا، هي أن نستعلي عن الجاهلية وقيمها وتصوراتها، وألا نُعدل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي معها في منتصف الطريق، وحين نسايرها خطوة واحدة، فإننا نفقد المنهج كله ونضل الطريق”.
كما تؤكد هذه العواصف أهمية سلاح المقاطعة ونجاعته، وإلا لما حارَبنَا القومُ به، ولما بدأت الحرب العالمية الحالية على روسيا بعد غزو أوكرانيا بسلاح المقاطعة، بداية من المأكولات والمشروبات، وعلى تلك المقاطعة ردت روسيا بمنع الغاز عصب الحياة في شتاء الغرب البارد.
فالقوم لا يوجعهم شيء كما يوجعهم الدرهم والدينار، واليورو والدولار، كما أنه سلاح حضاري تستخدمه كافة الأمم والشعوب، فليبق مشهرا في أيدينا ضد من يتعرض لمقام نبينا الأكرم ﷺ، أو لمبادئنا وهويتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. محمد الصغير؛ عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. ووكيل اللجنة الدينية بالبرلمان المصري ومستشار وزير الأوقاف السابق. حاصل على الدكتوراه في الأديان والمذاهب من كلية الدعوة جامعة الأزهر .
* (ملحوظة: جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)