ينذر تجدد الاشتباكات الطائفية في مدينة طرابلس اللبنانية بين سكان منطقتي باب التبانة السنية وجبل محسن ذات الأغلبية العلوية، بتصاعد المخاوف من اتساع دائرة المواجهات الطائفية على الأراضي اللبنانية وانزلاق البلاد نحو الحرب الأهلية مجددا بطابع طائفي، يزكي نيران الفتنة فيه حزب الله الشيعي ومن ورائه إيران، في إطار مخطط لجر لبنان نحو دائرة الصراع في سوريا، بعد أن شاركت مليشيات حزب الله في القتال ضد الثورة السورية، في ظل ضعف وتخاذل من مؤسسات الدولة اللبنانية التي لم تملك القدرة على ردع الحزب الشيعي الذي يوقد نيران الفتنة في لبنان ويعتبر نفسه دولة داخل الدولة.
وبينما تغض قوات الأمن والجيش الطرف عن ممارسات المليشيات الشيعية والعلوية، فإنها تستأسد على أهالي السنة وتقمعهم وتعتقلهم، ولعل الأحداث الأخيرة في طرابلس التي تشهد توترا غير مسبوق تؤكد ذلك، فمازال النائب العلوي وزعيم منطقة جبل محسن المتهم بالتورط في تفجيري مسجدي طرابلس أغسطس الماضي حرا طليقا، في حين تعتقل السلطات قيادات منطقة باب التبانة، وبينما تشير كثير من وسائل الإعلام إلى قيام حزب الله بالتواجد في جبل محسن، تنتشر الآن قوات الجيش اللبناني في مدينة طرابلس بتكليف من حكومة تصريف الأعمال، محاولة السيطرة على الأوضاع الأمنية المتدهورة، لكن يبقى السؤال هل باستطاعة الجيش حقا فرض سيطرة وهيبة الدولة وسيادة القانون على طرابلس وكافة الأراضي اللبنانية؟ أم إنه لا يستطيع مواجهة مليشيات حزب الله التي تعثو بسلاحها في الأرض فسادا وتتحرك بطول البلاد وعرضها دون أن يستطيع أحد مساءلتها أو توقيفها؟ ومن ثم فإن التشكيك في قدرة الجيش اللبناني وعدم حياده قد يفقده القدرة في السيطرة على الأوضاع ويعرض لبنان لمخاطر الحرب الطائفية.
الجولة الثامنة عشر
وقد جاءت الاشتباكات الأخيرة في طرابلس لتمثل الجولة الثامنة عشرة من المواجهات بين منطقتي باب التبانة ذات الغالبية السنية، وجبل محسن ذات الغالبية العلوية، في ظل تصاعد حدة التهديدات بين المنطقتين الواقعتين في الضاحية الشمالية لطرابلس، مع غياب أي أفق لتهدئة ولو مؤقتة تنقذ السكان من جحيم الاقتتال الدائر الذي نشب على خلفية الأزمة السورية.
وتشهد طرابلس بصورة متكررة أعمال عنف، وتصاعد التوتر فيها منذ اندلاع الأزمة السورية قبل نحو عامين ونصف العام، ولا سيما أن منطقة جبل محسن تؤيد النظام السوري، في حين أن باب التبانة تتعاطف مع المعارضة السورية.
وتسبب العنف الطائفي في المدينة منذ العام 2008 في مقتل نحو 160 شخصا وإصابة 1165 بجروح.
الاشتباكات الأخيرة
وأوقعت الاشتباكات خلال الثلاثة أيام الأخيرة 15 قتيلا ومائة جريح بينهم عسكريون، ومع استمرار أعمال القنص طيلة أمس وكثافة القصف الذي استخدمت فيه قذائف الهاون والـ«ب 7» و«ب 10» في الليل، تخوف الأهالي من سقوط المزيد من الضحايا في الساعات المقبلة، خصوصا مع رفع الفريقين المتحاربين سقف شروطهما للقبول بوقف المعارك.
وتجدد التوتر في طرابلس منذ الخميس الماضي بعد أن رفعت أعلام مؤيدة للنظام السوري في منطقة جبل محسن، فارتفعت إثر ذلك أعلام الثورة السورية في منطقة باب التبانة.
وتأتي الاشتباكات التي استخدمت فيها أسلحة رشاشة وقذائف صاروخية عقب موجة من أعمال عنف كانت قد شهدتها المدينة قبل نحو شهر بين مؤيدين لنظام الأسد ومناصرين للمعارضة السورية.
التصعيد مجددا
كان الشيخ نبيل رحيم، عضو هيئة العلماء المسلمين قد أكد أن «المساعي كانت متواصلة، بين الحكومة والجيش والقوى على الأرض، وكذلك المشايخ والسياسيين، لكنها جميعها لم تكلل بالنجاح». وأوضح أن «ما هو مطروح من قبل باب التبانة لإيجاد حل مؤقت، أن تسرع التحقيقات في تفجيرات مسجدي طرابلس (في أغسطس/ آب الماضي)، وجلب كل متورط مهما كان كبيرا أو صغيرا إلى العدالة، مقابل ضبط الوضع الأمني. فلا يجوز أن يوجه اتهام بالتفجيرات إلى علي عيد (نائب علوي سابق زعيم جبل محسن) من دون التحقيق معه، بينما يلاحق الإسلاميون على تهم أقل من ذلك بكثير».
ويحاصر مقاتلو باب التبانة منطقة جبل محسن المحاذية، منذ أكثر من 20 يوما، بعد رفض عيد المثول أمام القضاء للتحقيق معه حول دوره بنقل متهمين بتفجيري طرابلس إلى خارج لبنان. ومنع الحصار أهالي جبل محسن من مغادرته، وتعرض نحو 35 شخصا من سكان الجبل لإطلاق نار على أرجلهم، خلال الأيام العشرين الماضية، أثناء تنقلهم في مدينة طرابلس، من قبل مجموعة أطلقت على نفسها تسمية «أولياء الدم» في باب التبانة، مما مهد لاندلاع الجولة الحالية من الاشتباكات. وظهرت مجموعة ملثمة أعلنت أنها «ستستكمل المهمة، وهذه المرة لن تطلق النار على أرجل أهالي الجبل حين يخرجون من منطقتهم وإنما على رؤوسهم».
ولمواجهة «أولياء الدم» في التبانة وحرب التصويب على الأرجل، أعلن مؤخرا عن تشكيل مجموعة تحمل التسمية ذاتها «أولياء الدم» في جبل محسن تطالب بدورها بالاقتصاص لذويهم ممن جرى استهدافهم.
وأنذر هذا التصعيد غير المسبوق بأن جولة القتال الحالية لن تكون كسابقاتها، وأعلن المسؤول الإعلامي في «الحزب العربي الديمقراطي» في جبل محسن، عبد اللطيف صالح، أن «الحزب أجرى اجتماعا مع عدد من (أولياء الدم)، ولديهم ثلاثة شروط لوقف المعركة وهي (عدم التعرض لأهالي جبل محسن بأي اعتداء، وعدم التعرض لباصات المدارس وسائقي الأجرة وبائعي الخضار، وفك الحصار عن جبل محسن)». وأكد صالح، في تصريحات لموقع «النشرة» الإلكتروني، أن «المطلوب من أي جهة سياسية أو أمنية أخذ هذه الضمانات على محمل الجد لإيقاف المعركة». وكان «الحزب العربي» في جبل محسن هدد قبلها بحصار طرابلس مقابل حصار جبل محسن، وذلك بمنع سكانها من التحرك وشلها بالقصف المستمر.
وفي ظل الشروط والشروط المضادة، تبقى ساحة الموت في طرابلس مفتوحة، حيث يبتكر المسلحون أساليب جديدة، من بينها تفخيخ المباني لهدمها بالكامل، وهو ما لم يسبق لطرابلس أن عاشت مثيلا له.
انتشار الجيش
في هذه الأثناء أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي بعد اجتماع أمني مع الرئيس اللبناني ميشال سليمان وقائد الجيش العماد جان قهوجي، تكليف الجيش اللبناني باتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ تعليمات حفظ الأمن في مدينة طرابلس، لمدة ستة أشهر، ووضع القوى العسكرية والقوى السيارة بإمرته.
وقد واصل الجيش اللبناني أمس تعزيز إجراءاته الأمنية في طرابلس، ولا سيما في مناطق جبل محسن، وباب التبانة، والقبة، وحي الأميركان، والبقار، وشارع سوريا، لإعادة الاستقرار إلى المدينة. وأفادت قيادة الجيش بأن «هذه الإجراءات شملت تسيير دوريات وإقامة حواجز تفتيش، والرد على مصادر القنص، وإزالة الدشم المستحدثة، كذلك تنفيذ عمليات دهم لأماكن تجمع المسلحين، أسفرت عن ضبط أسلحة حربية خفيفة ومتوسطة وذخائر وأعتدة عسكرية متنوعة، إضافة إلى عدد من أجهزة الاتصال اللاسلكية». وبقيت أصوات مضادات الجيش الثقيلة تسمع تردداتها الهادرة في المدينة ردا على مطلقي النار، بينما اشتعلت منازل ومحلات، وشلت الحركة في المدينة، وأقفلت المؤسسات التعليمية أبوابها بالكامل.
في المقابل فان حزب الله نفى ما أوردته بعض وسائل الإعلام عن وجود عناصر وخبراء عسكريين منه في منطقة جبل محسن بمدينة طرابلس، واصفا ذلك بأنه "باطل" و"لا يستند إلى أي أساس أو دليل".