البحث

التفاصيل

بيع العينة؛ صوره وحكمه الشرعي(4) | سلسلة التفـقّه في البيوع؛

بيع العينة؛ صوره وحكمه الشرعي(4) | سلسلة التفـقّه في البيوع؛

بقـلم: الدكتور أحمد الإدريسي

 

العينة هي؛ أن يبيع التاجر على المشتري شيئا بثمن مؤجل، ثم يقوم التاجر بشراء هذه البضاعة منه في الحال بقيمة أقل ونقدا. وهي وسيلة تحايل على القرض الربوي بتوسط سلعة بين الطرفين، وهي غير مقصودة لا لمن باع ولا لمن اشترى، لكنها أشبه بالمحلل في عقد الزواج، فمن يكون في حاجة إلى قرض ولا يجد من يقرضه، يلجأ إلى بيع العينة.

أولا: صيغة بيع العينة.

1- مفهوم العينة:

العينة (بكسر العين) معناها في اللغة: السلف، يقال: اعتان الرجل: إذا اشترى الشيء بالشيء نسيئة أو اشترى بنسيئة. وقيل: لهذا البيع عينة، لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها (أي من البائع)، عينا أي نقدا حاضرا. ويرى الكمال بن الهمام من الحنفية أنه سمي بيع العينة لأنه من العين المسترجعة، واستحسن الدسوقي من المالكية أن يقال: “إنما سميت عينة، لإعانة أهلها للمضطر على تحصيل مطلوبه على وجه التحيل بدفع قليل في كثير".

2- صورة بيع العينة:

      العينة لها صور متعددة، ومعانٍ كثيرة، لكن أشهرها: أن يبيع رجل سلعة لآخر بثمن آجل ثم يشتريها منه بثمن عاجل أقل من الأول، قال ابن الأثير: (أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به)[1]. ومنهم من توسع في مفهومها وخاصة الحنفية والمالكية.

مثال؛ أن تقول لشخص: أبيعك هذه السلعة باثني عشر ألفا درهما ويكتب عليه لك اثنا عشر ألفا درهما تحل بعد سنة، ثم تقول: أشتريها منك بعشرة آلاف درهم نقدا فتدفع له عشرة آلاف، وترجع إليك سلعتك ويبقى لك في ذمته اثنا عشر ألف، وكأنك أعطيته العشرة باثني عشر، فصارت السلعة حيلة للربا.  ويلزم لاعتبار المعاملة من العينة ما يلي:

1- اختلاف ثمن السلعة في كل من العقدين في المقدار، سواء أكان الثمن في العقد الأول أكثر أم أقل.

2- وجود عقدي بيع يردان على سلعة واحدة.

3- أن يرد العقد بين طرفين تختلف مراكزهما في العقدين، فالبائع في العقد الأول يكون مشتريًا في العقد الثاني، والعكس.

4- اختلاف الثمن في العقدين من حيث الحلول والتأجيل، فقد يكون الثمن في الأول آجلًا وفي الثاني معجلًا، أو العكس.

ثانيا: صور معاصرة لبيع العينة:

       للعينة صور متعددة، وأكثر الصور اشتهارا حتى يومنا هذا هي الصورة المذكورة في كتب الفقه عند المتقدمين، مع استحداث صور أخرى جديدة، يعتقد من يتعاملون بها أنها تختلف في الحكم عن الصورة الشهيرة، ومن ذلك:-

1- أن يطلب شخص من آخر قرضا، سواء أكان من بنك أو غير بنك، فيتفقان على إجراء عقد صوري على الورق ببيع سيارة أو غيرها للمقترض بثمن آجل، ثم يشتريها المقرض بثمن عاجل أقل من الثمن الأول، وفي الواقع لا وجود لهذه السيارة أو غيرها. وهذه صورة أفحش من الأولى؛ لأن الأولى هناك سلعة حقيقية تم تبادلها بخلاف هذه.

ومسألة البيوع الصورية، وإجراء العقود على الورق آفة كثير من المصارف سواء في التعامل بالعينة أم بغيرها كما هو الحاصل في التعامل بالمرابحة، أو التورق.

2- أن يقوم بنك ببيع سيارة مثلًا إلى عميل بثمن آجل، ثم يقوم العميل ببيع السيارة إلى فرع آخر لنفس البنك معتقدًا أنه بذلك باع السيارة لغير البائع؛ لكن ما دام المالك لكافة الفروع واحدا إذن نحن أمام بائع واحد. وهذه الصورة فيها خداع؛ حيث يعتقد البعض أنه عندما يأتي بشخص يتفق معه على أن يقوم هو بشراء السلعة لصالحه ثم يقوم هو بعد ذلك بشرائها منه أنه، ويظن أنه بذلك خرج من الحظر، فالحكم لا يختلف، سواء أقام به المشتري أو وكيله أو أحد فروعه أو من يتفق معه على القيام بدور المحلل.

3- أن تقوم شركة مقاولات تملك معدات وآلات بتأجيرها إلى مؤسسة تمويل بقيمة إيجارية تدفع مقدما، ثم تقوم مؤسسة التمويل بإعادة تأجير نفس المعدات إلى شركة المقاولات بقيمة إيجارية أعلى، تدفعها الشركة على أقساط. وهذه الصورة وإن وقعت في عقد الإجارة لكنها لا تختلف عن أخواتها في كون المقصود منها التمويل بالقرض الربوي.

4- يقوم أحد التجار بفتح اعتماد بضاعة من أحد البنوك المحلية وعندما تصل البضاعة أرض الميناء، فلا يستطع العميل سداد المبلغ للبنك، فهنا يقوم بنك آخر بشراء البضاعة من البنك، ثم يبيعها للعميل نفسه بثمن أكثر، فهذه الصورة من صور العينة؛ لأن البنك فاتح الاعتماد هو وكيل عن التاجر، فكأن البنك الثاني اشترى البضاعة من الوكيل وباعها للموكل، وكأنه اشتراها من نفس الشخص، ثم باعها له مرة أخرى.

ثالثا: الحكم الشرعي لبيع العينة.

للفقهاء في التعامل بالعينة قولان:

القول الأول: الحرمة، وهو قول الجمهور؛ أبو حنيفة، ومذهب المالكية والحنابلة[2]. واستدلوا بأدلة، منها:

  1. النصوص الواردة في النهي عن العينة، حيث رد في النهي عن بيع العينة أحاديث وآثار كثيرة، منها:

- عن ابن إسحاق السبيعي عن امرأته: أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا أم المؤمنين؛ إِني بعت غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، وإِني ابتعته منه بستمائة نقدًا، فقالت لها عائشة: “بئس ما اشتريت وما شريت، إِن جهاده مع رسول الله قد بطل إِلا أن يتوب”. رواه الدارقطني.

وفي رواية عن أبي إِسحاق: “فسلمنا عليها، فقالت لنا: من أنتن؟ قلنا: من أهل الكوفة، قالت: فكأنها أعرضت عنا، فقالت لها أم محبة: كانت لي جارية، وإِني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه، وأنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدًا، قالت: فأقبلت علينا فقالت: “بئسما شريت وما اشتريت فأبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلا أن يتوب”، فقالت لها: أرأيت إِن لم آخذ منه إِلا رأس مالي، قالت: “فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف)[3]. وفيه دليل واضح على التحريم؛ لأن ما قالته السيدة عائشة، مما لا يدرك بالرأي ولا يثبت بالاجتهاد، والظاهر: أنها لا تقول مثل هذا التغليظ إِلا بتوقيف سمعته من رسول الله صلَّى اللهُ عَلَيْه وسلّم، فجرى مجرى روايتها ذلك عنه”[4].

- روي عن ابن عباس أنه قال: (اتقوا هذه العينة، لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة)، وفي رواية: أن رجلًا باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين، فسأل ابن عباس عن ذلك؟ فقال: (دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة)[5].

- عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: “إِذَا ضَنَّ النَّاس بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَم وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَاب الْبَقَر وَتَرَكُوا الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه أَنْزَلَ اللَّه بِهِمْ بَلَاء فَلَا يَرْفَعهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينهم”. وفي لفظ: “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُم)[6].

ففي هذا الحديث دليل على تحريم العينة؛ لأن الحديث ربط بين نزول العذاب والبلاء والتعامل بها، فكأن الحديث يحذر من هذه العاقبة.

2- النصوص الدالة على تحريم التحايل على أكل الربا وإجرائه في صورة بيع، فالعينة وسيلة إلى الربا، بل هي أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام فيجب سد ذريعة الربا، وسد ذرائع الحرام واجب، وكونها وسيلة إلى الربا يشهد له النقل والعرف والنية والقصد وحال المتعاقدين، أما النقل فقد ثبت مما تقدم من النصوص.

وأما شهادة العرف بذلك فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وعباده من المتبايعين ذلك قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدًا يقصدان به تملكها ولا غرض لهما فيه بحال، وإِنما الغرض والمقصود مائة بمائة وعشرين، وإِدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث.

وأما النية والقصد: فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة، وإِنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين، فضلًا عن علم المتعاقدين ونيتهما، ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد ثم يحضران تلك السلعة محللًا لما حرم الله ورسوله.

أما كون الوسيلة إلى الحرام حرام فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول. فإِن هذا العقد يتضمن إِظهار صورة مباحة وإِضمار ما هو محرم، كما أن المتبايعين لم يقصدا نقل الملك فيه أصلا وإنما قصدا حقيقة الربا.

القول الثاني: الجواز، وهو قول الشافعية، وأبي يوسف من الحنفية، و”إن كرهوا التعامل بها؛ خروجا من الخلاف”[7]، واستدلوا بما يلي:-

1- عموم النصوص الواردة في إباحة البيع في قوله تعالى: “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ” (البقرة:275)، واللفظ عام يشمل كل بيع، ومنه بيع العينة، فيكون بيع العينة حلالًا بنص الآية؛ لعمومها وشمولها، إِلا ما نص على إخراجه من هذا العموم، ولم يثبت ما يحرم بيع العينة، فيبقى داخلًا تحت العموم المفيد للجواز.

2- حديث؛ عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة: “أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: “كُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟”، فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ: “لاَ تَفْعَلْ بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبا) [8[.

3- إِن المتبايعين قد أتيا عملًا ظاهره الجواز، ولم يتبين من جهتهما إرادة التوصل به إلى المحرم، فلا يجوز اتهامهما بقصد المحرم لإِبطال عقدهما بذلك [9].

رابعا: مناقشة وتعليق:

1- يناقش الاستدلال بالآية الكريمة بأن عموم الإباحة ليس مرادًا فهو عام يعتريه التخصيص، فيخرج من الإباحة ما ورد فيه نص باستثنائه، وبيع العينة مما ورد فيه نص.

2- أما الحديث فهو مطلق، والمطلق لا عموم له، وإِذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به في غيرها؛ فلا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باعه تلك السلعة بعينها) [10[.

3- بالنسبة لظاهر العمل، نقول: إن الظاهر إنما يعمل به إِذا لم تقم قرينة تفيد غيره، وهنا القرينة موجودة، وهي العرف المعهود الذي بين قصد الناس من هذا البيع، والشرط المتعارف ينزل منزل المنصوص، فكان ذلك من أقوى القرائن التي يجب العمل بها، فإِبطال بيعهما هو مقتضى الظاهر، لا عمل بمجرد التهم، وما جر إلى الحرام وجب منعه.

    اعتبارا لما سبق؛ يظهر قوة القول الأول ورجحانه، وهو أن بيع العينة محرم. والله أعلم.

خامسا: كيفية تصحيح المعاملة:

نقترح لتصحيح المعاملة وخروجها من الحظر إلى الإباحة؛ “أن يقوم المشتري في العقد الأول ببيعها بيعا حقيقيّا مكتملًا أركانه وشرائطه إلى طرف ثالث ليس بينه وبين البائع الأول مواطأة ولا مواعدة ولا اتفاق”.  والحمد لله رب العالمين.

 

[1] – النهاية في غريب الحديث والأثر ج:3 / ص:331. لسان العرب. ج: 13 / ص: 306.

    ونيل الأوطار للشوكاني 5/294. الشرح الكبير. ج:3 / ص: 88.

[2] – شرح فتح القدير 5/208، الشرح الكبير للدردير 3/89، المغني. ج:4 / ص:127.

[3] – رواه الإمام الدارقطني في سننه، ج:3 / ص:52.

     والإمام البيهقي في السنن الكبرى ج:5 / ص: 330.

[4] – ابن قدامة، المغني. ج:4 / ص:127. وشرح فتح القدير. ج:5 / ص:209.

[5] – إعلام الموقعين. ج:3 / ص: 148. المحلى. ج:9 / ص:48.

[6] – رواه الإِمام أحمد في مسنده 2/28، وأبو داود في سننه 3/274.

[7] – المحلى. ج:9 / ص:48.

[8] – صحيح البخاري، مع فتح الباري. ج:4 / ص: 467.

[9] – الأم. ج:3 / ص:69.

  [10] – فتح الباري. ج:4 / ص:468.

 

***************

* د. أحمد الإدريسي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

* وجوب التفقّه في المعاملات (1) | سلسلة التفـقّه في البيوع

* بيوع الغرر والجهالة (2) | سلسلة التفـقّه في البيوع

* أسباب تحريم بعض البيوع (3) | سلسلة التفـقّه في البيوع





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع