“الذكاء الاصطناعي” .. وَثْبَةٌ حضارية أم رِدَّةٌ إنسانية؟
بقلم: د. عطية عدلان
لا يَذْهَبَنَّ بك الوسواس بعيدا؛ فتظنَّ أنّ الإنسان – إذْ اخترع الروبوت الفائق الذكاء – قد نجح في مضاهاة خلق الله، فالأمر مهما بلغ لن يجاوز بِحالٍ كَوْنَهُ اختراعًا لآلة، يُعَبِّئها الإنسان بالبيانات والمعلومات والأوامر ويدربها؛ لتنتجَ له ما يريد تَعَلُّمًا وتنفيذًا، وما بين خلق الله وتكنولوجيا الإنسان ليس مجرد هُوّةٍ يسعى العلم في ردمها ولو على المدى البعيد الشاسع، فلا تزال الآية تتحداهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)، وسيظلّ القرآن يعجزهم: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)؛ فاطْوِ هذه الصفحة؛ فالقضية محسومة، وانهضْ معنا لما هو أولى وأجدى.
ما هو؟ وما أبعاده وآماده؟
في مؤتمرٍ عُقِدَ في صيف 1956م، لمع نجم “جون مكارثي” و”مارفن مينسكاي” و”ألين نويل” و”هربرت سيمون” في أبحاث تطوير علم الحاسوب، هؤلاء وتلاميذهم صاروا من وقتئذٍ قادة بحوث الذكاء الاصطناعي، وبحلول منتصف الستينات أصبحت أبحاثهم تمول بسخاء من” البنتاجون”، وفي العقد الأخير من القرن المنصرم والعقد الأول من هذا القرن، حقق الذكاء الاصطناعي نجاحات هائلة، حيث استخدم في الأمور اللوجستية، وفي استخراج البيانات، وفي التشخيص الطبي ،وفي العديد من المجالات، ومؤخرًا أصبحت دراسات الذكاء الاصطناعي على درجة عالية ومذهلة من التخصص والتقنية.
تقوم فكرة الذكاء الاصطناعيّ على أساس دراسة طريقة الذهن البشريّ في العمل، ومحاكاته عبر حواسب متطورة تستطيع أن تقوم بأداء المهام العامة المرتبطة بالكائنات الذكية، وقد عَرَّفَ كل من “أندرياس كابلان” و”مايكل هاينلين” الذكاء الاصطناعي بأنّه: “قدرة النظام على القيام بتفسير البيانات الخارجية بشكلٍ صحيح، والقيام بالتعلم من هذه البيانات، واستخدام تلك المعرفة الناتجة لتحقيق أهداف ومهام محددة من خلال التكيف المرن للآلة”، وقد صارت الروبوتات التي تتحكم فيها الحواسب العملاقة تقوم بمهام يقوم بها الأنسان، ولكن بسرعة فائقة، ودقة بالغة، وأصبحت بعض برامج الذكاء الاصطناعي قادرة – عبر خوارزميات محملة – على كتابة مقال، وتأليف بحث، وغير ذلك من القدرات الرهيبة في عالم السلم والحرب والتجسس والاستخبارات والاستطلاعات، بقدرات وسرعات تفوق الخيال.
نجاحات واعدة ومخاوف متصاعدة
أحدث الذكاء الاصطناعي ثورة كبيرة في مجال صناعة وقيادة السيارات؛ حيث يقوم برنامج القيادة الذاتية من “جوجل” عَبْرَ تقنيات الذكاء الاصطناعي بتقليل نسبة الحوادث وتخفيف الاختناق المروري، كما يُستخدم في مواقع التجارة الإلكترونية للحصول على صورة واضحة لسلوك العملاء في عمليات الشراء عبر الموقع وتقديم التوصيات، وتَستخدم شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك تطبيقات الذكاء الاصطناعي للكشف عن وجود اختراق لصور المستخدم، وغير ذلك مما يكون فيه نفع للإنسانية.
غير أنّ ما يمكن أن ينتج عن الذكاء الاصطناعي من مضار – سوى فقدان الكثيرين لوظائفهم – كثيرٌ يفوق الحصر، ومن هنا دعت مفوضية الأمم المتحدة لسنّ قوانين لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعيّ، فهناك دول كالصين – مثلا – تفكر – وربما بدأت بالفعل – في تنفيذ برنامج رقابي شديد التحكم يطلق عليه البعض “الدولة الإله” وهو نظام يتم به مراقبة سلوك الأفراد بشكل دقيق وشامل، ثم فرض الجزاءات التي تتنوع وتتباين بحسب حجم المخالفة، وهذا إفراط في تَغَوُّل الدولة لا ترضاه الفطرة الإنسانية ولا تُقِرُّه المبادئ العامّة لحقوق الإنسان وحريات الشعوب، فلا يصح ولا يجوز أن تَسْتَعْبِدَ الدولةُ الناسَ؛ فتحوِّل الشعبَ إلى مجرد أرقام تجري على شاشات حواسبها، أو مجرد أجرام تدور في أفلاكها، فهذا السلوك السياسيّ يمثل سحقا للكينونة الإنسانية، واستعبادا للمجموع البشريّ، واستهانة بكرامة الإنسان، وعدوانا صريحا على استقلال الآدميّ، وإنّ حدود تدخل الدولة في تصرفات الإنسان يجب أن تتراجع وتتراخى وتبطئ؛ بما يحفظ للإنسان كرامته وإنسانيته وعبوديته لله الواحد القهار.
نعم للرقابة ولا لاختراق الخصوصيات وتقييد الحريات
إنّ حاجة الدولة للرقابة من أجل الحماية العامة، وحاجة الأجهزة إلى تقنيات تساعدها على القيام بمسئوليتها لا جدال فيهما، بشرط أن تُصان الحرمات وتُحتَرم الخصوصيات، أمّا أن تستثمر الدولة طفرة الذكاء الاصطناعي في غزو البيوت وهتك الأستار وكشف المخبوء مما يُعَدُّ أخصّ خصوصيات الناس؛ فهذا عدوان صريح قد يُسْلِمُ إلى فقد النظام شرعيته إذا صار منهجا مستمرا مستقرا، فيجب سنّ القوانين في دائرة المصالح المرسلة وفي إطار قاعدة الاستصلاح، ومن منطلق النصوص الناهية عن التجسس والآمرة بحفظ الحرمات وصون الأعراض؛ وذلك للكف من اختراق الأجهزة الذكية للخصوصيات.
ما وقع من ضرر وَجَبَ إزالتُهُ وما حدث من تلف لَزَمَ ضمانُهُ
وللرسول صلى الله عليه وسلم حديثٌ صحيحٌ بمجموع طُرُقه، تَلَقَّاه العلماء بالقبول؛ لثبوت معناه باستقراء الشريعة، وبنوا عليه قاعدة كلية، ذكرتها مجلة الأحكام العدلية بنص الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، هذه القاعدة تنهى عن إحداث الضرر ابتداءً وعن مقابلة الضرر بالضرر انتهاءً، وينبثق عنها قاعدة “الضرر يزال”، فما أصاب الناسَ من الضرر بسبب استعمال الذكاء الاصطناعيّ وجب إزالتُهُ، ولم يجزْ إقرارُهُ، والدولة مسئولةٌ عن ذلك، كما أنّه إذا وقع تلفٌ بسبب سوء الاستعمال وجب الضمان، طالما ثبت التَّعدِّي؛ لأنّ القاعدة أنّ: “المباشر ضامن وإن لم يتعدّ والمتسبب لا يضمن إلا إذا كان متعديا”، والضمان يلزم المالك أحيانا، ويلزم الصانع للآلة أحيانا أخرى؛ بحسب الجهة المتسببة؟ والأضرار التي قد تلحق بالأشخاص والجهات كثيرة ومتنوعة، منها انتهاك الحقوق والملكيات الفكرية، ومنها تهديد الأمن السيبراني، وغير ذلك.
والسياسة الشرعية حاضرة في المشهد
لا يستطيع أحد أن يزعم أنّ الذكاء الاصطناعيّ يمكن أن يقفز خلف أسوار السياسة ومسؤوليات الدولة، والقاعدة الجامعة التي نصت عليها مجلة الأحكام العدلية: “التصرف على الرعية منوط بالمصلحة”، وعليه فما كان موافقًا للمصلحة العامّة من نُظُم الذكاء الاصطناعي وكان منفعةً للناس في دينهم أو دنياهم أُقرَّ وحُمِلَتْ عليه الرعية، وما كان بخلاف ذلك لم ينفذ وكان الواجب ردُّه وإبطالُه، والله أعلم.