مدرسة رمضان تفتح أبوابها
بقلم: د. أحمد الريسوني
ها هي مدرسة رمضان تفتح أبوابها كالمعتاد، في موعد سنوي لا يتخلف منذ تأسيسها في السنة الثانية من الهجرة النبوية، وهي السنة التي فرض فيها الصوم في الإسلام.
أي أنها منتظمة منذ أربعة عشر قرنا و 42 سنة.
فشهر رمضان وصيام رمضان مدرسة حقيقية للتربية والتعبئة والتكوين والتدريب.
ولو بحثنا لوجدنا جميع المتدينين مدينين في صلاحهم وتدينهم لمدرسة رمضان.
فإما فيها بدأ تحولهم والتزامهم، وإما بفضلها يرممون ما يتضعضع من أحوالهم، وإما فيها يجددون عزائمهم، وإما في أجوائها يرتقون في مراتبهم..
مدرسة رمضان -كما هو معلوم- لا تستمر سوى شهر واحد، ولكنها تقدم مواد دراسية وتداريب عملية مكثفة، بمستويات عالية الجودة والفعالية،
مما يجعل الشهادة المحصلة للناجحين، تفوق في قيمتها الشهادات المحصل عليها في سنة كاملة أو حتى في عدة سنوات، من الدراسات العادية.
أما موادها الدراسية والتطبيقية فهي:-
- مادة الصوم
- مَادة احترام الوقت
- مادة الصلاة
- مَادة القرآن الكريم
- مادة الكرم والإنفاق
- مادّة التزاور والتغافر
مادة الصوم:
فأما المادة الأولى، فهي المادة الرئيسية في مدرسة رمضان، وهي التي تستغرق أكبر عدد من الساعات الدراسية.
ومن ضمنها الامتناع والانقطاع عما هو مباح من شهوات البطن والفرج من الفجر إلى الغروب، ومن باب أولى الامتناع والانقطاع عما هو محرم من أصله.
ومقصود هذه المادة هو تمكين الصائمين من تحصيل التقوى وتدريبهم على ممارستها. وهو المقصد الذي أشارت إليه الآية الكريمة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/183.
والتقوى في جوهرها منهج سلوك يتسم باليقظة والانتباه والاحتياط، ومقتضاه أن الإنسان عند كل خطوة يريد أن يقدم عليها: ينظر فيها، وينظر حواليها، وينظر ما قبلها وما بعدها.
وبعد ذلك يُقدم عن بينة ويمشي على بصيرة.وبيان هذا ومثاله: ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبيَّ بنَ كعب عن التقوى؟
فقال له أُبيّ: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى قال: فما عملتَ؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى
ومِثلُه عن أبي هريرة: أن رجلاً قال له: ما التقوى؟ فقال: هل أخذتَ طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم. قَال: فكيف صنعت؟
قال: إذا رأيتُ الشوك عدلتُ عنه، أو جاوزته، أو قصُرت عنه، قال: ذاك التقوى
وقد نظم الشاعر هذا المعنى بقوله:
خَلِّ الذنوب صغيرَها ** وكبيرَها، ذاك التُّقَى
واصنع كماشٍ فوق أر ** ض الشوك يحذر ما يرى
فالصائم حين يصبح ويظل حذرا متيقظا، خشية أن يتناول ما يفسد صومه، من جرعة ماء، أو حبة تمر، أو لقمة طعام..،
وحين يغفل لحظة ثم ينتبه فيسحب الطعام أو الشراب من بين شفتيه، وحِين يمسي خائفا متوجسا أن ينطق بكلمة غيبة أو كذب أو شهادة زور..
وحِين يغدو صارفا سمعه بصره عن هذه وتلك وهذا وذاك.. وحِين يُغضبه أو يستفزه أحد فتثور ثائرته، لكنه يتذكر ويقول: اللهم إني صائم..
وحين يهُمُّ بكسب حرام ثم يخاف على نفسه وعلى صيامه.. حينئذ يكون فعلا كَمَاشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى، وتلك هي التقوى. وهو المعنى الذي يعبر عنه المغاربة بالمشي على البيض.
مادة احترام الوقت
وأما مادة احترام الوقت، فهي أن الإحساس بالوقت وضبطه والتقيد به، يكون في رمضان بما لا مثيل له ولا قريب منه في أي وقت آخر من السنة.
فشهر رمضان يعده الناس يوما بيوم، فلا يكاد أحد يخطئ أو يتردد في كم مضى منه وكم بقي.
بل يعدون أيامه ولياليه ساعة بساعة، ويعدون بعض مواعيده دقيقة بدقيقة، كما هو شأن وقت الإمساك ووقت الإفطار.
وهذا فضلا عن ضبط مواعيد الصلوات الخمس وصلوات التراويح.
مادة الصلاة:
وأما مادة الصلاة، فهي وإن لم تكن خاصة برمضان، فإنها تعرف في رمضان زيادة كبيرة كما وكيفا، سواء بالمحافظة على أوقات الصلوات، أو بأدائها في المساجد والجماعات، أو في زيادة الصلوات النافلة، وخاصة منها صلاة التراويح.
ولكن أهم ما تعرفه الصلاة في رمضان هو كثرة المنخرطين الجدد في صفوف المصلين.
مادة القرآن الكريم:
أما مادة القرآن الكريم، فتأتي أهميتها وخصوصيتها من كون رمضان هو شهر القرآن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنْزِلَ فِيهِ الْقرْآَنُ هدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهدَى وَالْفرْقَانِ). البقرة/185.
وكان جبريل عليه السلام يأتي النبيَّ ﷺ فيدارسه ويعارضه القرآن مرة أو مرتين كل رمضان.
مادة الكرم والإنفاق:
وأما الكرم والإنفاق، فهما أيضا مما يتضاعف ويزدهر في مناخ رمضان.
وذلك أثر من آثار الصيام والإقبال على الله في هذا الشهر الذي يوصف بالشهر الكريم.
فحينما يهنئ الناس بعضهم بحلول رمضان يقولون: رمضان كريم. فرمضان شهر الجود والكرم والإنفاق، وفيه اشتهرت موائد الرحمن قديما وحديثا. وهذا مما سنه رسول الله ﷺ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة
وهو القائل عليه السلام: من فطَّر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا
ومن أسباب ما يقع في رمضان من ارتفاع في أثمان المواد الغذائية و المواد الاستهلاكية عموما، كثرة الإطعام للفقراء، وكثرة الصدقة والإنفاق عليهم. ويتوج ذلك بإخراج زكاة الفطر في الأيام الأخيرة من رمضان وصبيحة الأول من شوال.
غير أن أعظم كرم يعرفه رمضان هو كرم الله تعالى الموصوف في الحديث النبوي الشريف:
إذا كان أولُ ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين ومردة الجن، وغُلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ كل ليلة: يا باغى الخير أقبل، ويا باغى الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة.
مادة التزاور والتغافر
وأما مادة التزاور والتغافر التي يكثر تداولها في رمضان، بين الأقارب والجيران والأصدقاء، فلأن رمضان شهر المغفرة والتغافر،
فمن يحب أن يغفر الله له فليغفر وليتغافر مع عباد الله: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور/22.
ومعلوم أن الأعمال الصالحة والإنجازات الناجحة -وهي كثيرة في رمضان- تبقى موقوفة القبول عند الله تعالى لكل من بينهم خصومة وقطيعة وتدابر.
فمن هنا يبادر الناس إلى التزاور والتغافر والتصالح والتسامح في رمضان. ومن لم يكن عندهم شيء من هذا، فتواصلهم وتزاورهم خير على خير في شهر الكرم والخير.
ليلة القدر
وبقي أن أذكِّر كافة المسجلين في مدرسة رمضان أن الامتحانات النهائية تبدأ منذ العشر الأواخر من الشهر الكريم، وتبلغ ذروتها في ليلة القدر.
وفي هذا الصدد يجب على الجميع أن يتذكروا قول السيدة عائشة رضي الله عنها: كان النبى ﷺ: (إذا دخل العَشرُ شد مئزره، وأحيى ليله، وأيقظ أهله).
فمدرسة رمضان
-ككل المدارس الجدية- ليست مضمونة النجاح لكل من يدخلونها ويمضون أوقاتهم بين جدرانها، وإنما النجاح فيها يكون بقدر ما تم تحصيله من موادها وتداريبها، وما تم تحقيقه من مقاصدها وفوائدها. وقد حذر النبي ﷺ من بعض الحالات التي لا يخرج أصحابها من مدرسة رمضان بشيئ.
قال عليه السلام رُبَّ صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش، ورُبَّ قائمٍ حظه من قيامه السهر. وقال من لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدَعَ طعامه وشرابه
وفي الحديث أيضا: أن رسول الله ﷺ صعد المنبر، فلما رقيَ عتبة، قال: آمين ؛ ثم رقي عتبة أخرى، فقال: آمين؛ ثم رقي عتبة ثالثة،
فقال: آمين؛ ثم، قال: أتاني جبريل، فَقال: يا محمد، من أدرك رمضانَ فلم يغفر له، فأبعده الله، قلت: آمين،
قال: ومن أدرك والديه أو أحدَهما، فدخل النار، فأبعده الله، قلت: آمين، فقال: ومن ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين.