الإجماع والدليل الشرعي
يرى بعض العلماء المعاصرين أنه بالنسبة لإمكانية الإجماع ووقوعه بالصورة التي ذهب اليها جمهور الفقهاء، وهي اتفاق جميع المجتهدين في البلاد الإسلامية، صورة مثالية يكاد يمتنع وقوعها أو يندر للاعتبارات التي أثارها المخالفون في إمكان الإجماع وانعقاده، ولأنه حتى في عصر الصحابة نفسه (وقد كان فقهاؤهم معروفين ومحصورين) لم يقم دليل على انعقاده بهذه الصورة، ومن رجع الى الحوادث التي أفتى فيها الصحابة، والتي اعتبر افتاؤهم فيها إجماعا، لم يتبين له انعقاد الإجماع بهذا المعنى وإنما كان الإفتاء رأيا لجماعة منهم تيسر حضورهم، فهو رأي جماعي لا رأي فردي، ولكنه ليس رأي الجماعة كلها، فلم ينقل أن أبا بكر أحضر المجتهدين جميعهم، ولا أجّل النظر في الواقعة حتى يحضر الغائب منهم، وقد كان بعضهم في خارج المدينة، لولاية يتولاها، أو حرب يشترك فيها، أو دعوة إلى الدين يقوم بها، أو تجارة يسافر لها، .. يضاف إلى هذا أن اتفاق جميع المجتهدين المستند إلى دليل ظني لا يكاد يوجد.
وهذا الإمام الشافعي يقرر أن الإجماع بهذا المعنى لا يكون إلا في الأمور القطعية المعلومة من الدين بالضرورة فيقول: (لست أقول ولا أحد من أهل العلم هذا مجتمع عليه إلا لما لا تلقي عالما أبدا ألا قال لك، وحكاه عمن قبله، كالظهر الأربع، وكتحريم الخمر وما أشبه هذا) (الرسالة من كتاب أصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكريا البري ص.534)
وهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول: (ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، ومن ادعى الإجماع فهو كذاب، لعل الناس قد اختلفوا، ما يدريه؟ لكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك) (أصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكريا البري ص. 81)
فإن أدلة الجمهور على الاحتجاج بالإجماع لا تقطع بحجته، لأن الآيات أو الأحاديث غير قاطعة في الدلالة على ذلك، وليست نصا فيها. يقول الآمدي: (وأعلم أن التمسك بهذه الآيات وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع) (المرجع السابق ص.77) ولهذا يقول الشيخ شلتوت بعد ان استعرض شروط الإجماع: (وليس من ريب في أنه إذا فرض تيسر الشروط الثلاثة الأولى فإنه يبعد كل البعد تحقق الشرط الرابع – وهو اتفاقهم جميعا على رأي واحد في المسألة – نظرا إلى أن المسألة المعروضة للبحث هي من المسائل ذات البحث والنظر، والسنة البشرية تقضي في مثلها باختلاف الرأي، لمكانة التفاوت بين الناظرين في قوى الإدراك ووسائل البحث التي منها اختلاف ظروف الأقاليم التي تحيط بكل باحث)
ثم يضيف قائلا: (ومن هنا يتضح أن تفسير الإجماع باتفاق جميع مجتهد الأمة في عصر، تفسير نظري بحت، لا يقع ولا يتحقق به تشريع. نعم يمكن فهمه وقبوله على معنى "عدم العلم بالمخالف" أو على معنى "اتفاق الكثرة" وكلاهما يصلح أن يكون أساسا للتشريع العام الملزم في المسائل ذات البحث والنظر، إذ هو غاية ما في الوضع، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. وهذا هو الاجتهاد الجماعي) (الإسلام عقيدة وشريعة ص. 566)
ولذلك ذهب ابن جرير الطبري وأبو بكر الرازي وأبو الحسين الخياط من المعتزلة وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، إلى انعقاد الإجماع برأي الأكثرية إذا قل مخالفوهم. (أصول الفقه الإسلامي لزكريا البري ص. 63)
ويقول الدكتور محمد سلام مدكور: (وحتى في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، بل وفي خلافة الخلفاء الراشدين فإن الإجماع بهذا الاصطلاح الذي هو اتفاق جميع المجتهدين في الأمة.. لم ينعقد فعلا، وانما هو من قبيل الاجتهاد الجماعي. إذا كان من الحاضرين أولى العلم فهو حكم صادر عن شورى الجماعة) (الإجماع في التشريع الإسلامي مجلة الوعي الإسلامي الكويت العدد 127 – 1975)
ويستخلص الأستاذ زكريا البري من مبدأ الإجماع وسيلة علمية قابلة للتطبيق، تتلخص في وجود مجلس من المجتهدين بناء على شروط معينة. ويقوم بجانبهم مستشارون وخبراء في كل اختصاص، ويؤخذ عند الاختلاف رأي الأكثرية. ويأمر الحاكم بتنفيذ هذا الرأي في المسائل الاجتماعية العامة.
والخلاصة أن الإجماع في حقيقته هو رأي الأكثرية مع السماح للأقلية بالمعارضة ولكن مع تنفيذ رأي الأكثرية. وفيه قوة الإلزام والفاعلية.
ومن أحسن ما كتب في هذا الموضوع من علماء المعاصرين كتابة الشيخ الأستاذ محمد صالح مصطفى رحمة الله عليه (كابوري) (من أساتذة جامعة الإمام رياض) فمن كتابه المفاهيم، قوله:
[الإجماع هو اتفاق جماعة على حكم اجتهادي غير منصوص عليه في الكتاب والسنة.
والذين عددوا مصادر الدين في ميدان الفقه والشريعة، عدوا نحوا من عشرة مصادر، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة وشرع من قبلنا ...
وكلهم وضعوا الإجماع بين أول المصادر وربما قدموا الإجماع عليها جميعاً.
وقسموا الإجماع باعتبارات كثيرة إلى عام كلي مطلق، وخاص جزئي مقيد وإلى صريح قـولي، وحكمي سكوتي، وإلى إجماع المتقدمين والمتأخرين ... ولما قسموا الدين إلى عقيدة وشريعة وأخلاق، وجدت أقسام للإجماع تبعا لفرق العقيدة، ومذاهب الفقه، وطرق التصوف.
ويهمنا إلقاء نظرة على الإجماع وبخاصة الإجماع السكوتي لما له من أثر على فهم الدين في واقع المسلمين، والإجماع السكوتي في حضرة الرسول يتصور فيما يسمى بالتقرير، بمعنى أنه إذا حصل أمر في حضرة الرسول ولم ينكره، فإنه يعتبر حكما لأن السكوت إقرار، وعلى هذا شواهد منها حديث استئذان البكر، وفيه يقول الرسول: (وإذنها صماتها) أي سكوتها، وكذلك العموم المفهوم في قوله: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)، وأن الأمة (لا تجتمع على باطل أو ضلالة).
وأصل هذا أن المسلم لا يجوز له أن يسكت على باطل، وكلمة الحق واجبة، والبيان مفروض في القرآن {وَقُلِ الْحَقُّ} (الكهف) {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (ال عمران 187) وحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) والحديث يعتبر عمل القلب من وسائل التغيير وهو مستتر غير ظاهر وصاحبه صامت ساكت، والجمع بين هذا والذي قبله أن السكوت يعتبر إقراراً مع وجود قرينة تدل على الرضى بتوافر الدواعي وانتفاء الموانع وهذا القيد مطلوب في إجماع المتكلمين كما هو مطلوب في إجماع الساكتين … فالإجماع الذي ينعقد في ظل ظروف صعبة، يمارس فيها الاضطهاد والتهديد بقطع الألسنة والرقاب وانتهاك الأعراض وانتهاب الأموال والاغتصاب .. لا عبرة به، وما بني عليه باطل، وفي بيعة بعض الخلفاء التي أخذت بمثل هذه الطرق تجاوزات كطلاق الأزواج حتى أعلن بعض الأئمة أن طلاق المكره لا يقع، ومن ثم لا تكون البيعة مشروعة، وعلى هذا فالرضى أصل يجب وجوده بوجود القرائن، فإذا تقرر أنه لا عبرة بالقول فمن باب أولى ألا يعتبر بالسكوت، فاشتراط قرينة دالة على الرضى أمر لابد منه سواء كان الإجماع مبنيا على القول الصريح أو على التقرير والسكوت، ويلحق بهذا إجماع جماعة جاهلة، سيان قولها وسكوتها.
والإجماع المنعقد المعروف هو إجماع مذهبـي في الفقه، أو فِرَقي في العقيدة، أو طرقي في التصوف، وأهل كل مذهب وفرقة وطريقة جعلوا إجماعهم ملزما لغيرهم، فأوجبوا الحق لأنفسهم، وخطأوا غيرهم وضللوهم وربما كفروهم، ومن دعاة هذا النوع من الإجماع من قال: كل آية أو حديث ليس عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ، وقال آخر: على المرء أن يذب عن مذهبه ويوهن حجة خصمه، وهذان من أهل الفقه، وقال صاحب العقيدة في مسألة خلق القرآن: يكفر من يقول بخلق القرآن، ويكفر من لا يكفر القائلين بخلق القرآن ... وهم كمن قبلهم أوقفوا التفكير، وأغلقوا باب الاجتهاد، وألزموا التقليد والإتباع للإمامة والإمامية والمشايخ والحكام، فلا اعتراض ولا افتراض وكل جديد أو تجديد بدعة، وأصبح الدين ممزق الأوصال كالبدن الذي أبعد رأسه عن جذعه وأطرافه، فالعقيدة في وادي الفلاسفة والشريعة في وادي المناطقة ، والأخلاق في وادي الطرق .. وكل في واديه بلا تلاقٍ ولا تراءٍ.
إن الإجماع أيها الملأ ليس دليلاً شرعياً وإنما هو نتيجة النظر في الأدلة فقد ينتج عن النظر في الأدلة إجماع على حكم ما أو اختلاف فيه لأن الجماعة مجموعة أفراد، ليس لهم منفردين ولا مجتمعين سلطان التشريع، لأن المشرع هو الله رب العالمين وحده، والرسول مبين له، وكل ما في الأمر أن الإجماع دلالة اطمئنان، أي أن النفس تطمئن بوجود جماعة تشاركها وتأنس بها، فلا يكون حكمها غريباً شاذاً غير مألوف.
ولو صح أن يكون الإجماع دليل تشريع لصح اجتماع الزردشتية على عبادة النار، واليهودية على عبادة عزير، والنصارى على عبادة المسيح.
أما قوله عليه السلام: لا تجتمع أمتي على ضلالة، فلا يعني إجماعهم على حق وصواب، وإنما يعني أنهم مجتهدون، إذا أخطأوا كان لهم أجر، وإذا أصابوا كان لهم أجران، فالمجتهد مثاب مأجور غير موزور ولا آثم على أي حال.
وقول الرسول: (عليكم بسنـتـي)، فهو بيان للقرآن عن طريق الوحي، وهو المسمى بالسنة التشريعية العامة، وفي الحديث: (كان خلقه القرآن) و(كان قرآنا يسعى)، وقال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، أي أوحي به، ويدخل هذا في قوله تعالى عن نبيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم 4)، فيخرج من السنة الملزمة ما يتعلق بالفطرة والعادة والاجتهاد. (أي ما ينطق به من الآيات انما هو وحي من الله، ليس بمعنى ان كل ما ينطق من أقوال وحي)
و "سنة الخلفاء الراشدين" إلى قيام الساعة هي إتباع سنة الله في كتابه، وإتباع سنة نبيه المبينة عن طريق الوحي، والراشدون غير محصورين بعدد ومكان وزمان.
وأما العتـرة في حديث (وعتـرتي) فالمراد حبهم ومودتهم كما قال تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى 23) والمودة لا تقتضي الإتباع في الباطل، ودعوى عصمتهم من أعظم الباطل بسبـب تكلـيفهم كغيرهم، ولا تجتمع عصمة وتكليف معاً.
وبعيداً عن النبـي وعتـرته ضربت مثلا للمتعصبة في امرئ أحب أباه لتـربيته وأخاه لمعروفه وزوجه لجمالها.. أيدفعه حبه إلى طاعة أبيه الزرادشتي وأخيه اليهودي وزوجته النصرانية؟]
عبد الرحمن شط
هنوفر / المانيا