البحث

التفاصيل

العيد يوم الجائزة بقلم الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي

الرابط المختصر :

العيد يوم الجائزة
الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس 
     وأقبل عيد الفطر بفرحة الصيام الأولى تغمر فلوب الصائمين ، وتبعث الرضا في نفوسهم وأرواحهم ، إنها فرحة فطرهم الكبرى بتمام فريضة الصيام وأداء القيام والاعتكاف والدعاء ، قال صلى الله عليه وسلم { للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه } رواه مسلم ، فالعيد في تصور المؤمنين وضمائرهم هو ابتهاجهم بالتقرب إلى الله عز وجل وطاعته ، هذه هي القيمة العليا التي يفرحون بها ويسعدون بتحصيلها ، وهذا ميدانهم للتنافس والتسابق في الخيرات ، فحقٌّ لهم اليوم أن يفرحوا وقد نالوا جائزة ربهم بالأجر والثواب والمغفرة وقبول التوبة ، قال صلى الله عليه وسلم { إذا كان يوم الفطر وقفت الملائكة في أفواه الطرق فنادوا : يا معشر المسلمين اغْدُوا إلى رب كريم يمن بالخير ويثيب عليه الجزيل ، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم وأمرتم بصيام النهار فصمتم وأطعتم ربكم فاقبضوا جوائزَكم ، فإذا صلوا العيد نادى منادٍ من السماء أن ارجعوا إلى منازلِكم راشدين فقد غفرتُ لكم ذنوبكم كلها ، فهو يوم الجائزة ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجوائز } رواه الطبراني . 
     وفرحة العيد ليست فرحة روحية ودينية أو وجدانية وشعورية فقط ، بل هي إضافة إلى ذلك كله فرحة مادية حقيقية تراها الأعين وتلمسها الأيدي وتسمعها الآذان ، لأنها ترتسم على الوجوه وتشدو بها الحناجر وتصنعها الأيادي .
* ولعل الفرحة الأولى يوم الفطر تبدأ بصدقة الفطر ، وقد فرضها صلى الله عليه وسلم { ... طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين } رواه أبو داود ، ولعلَّها تكون بمنزلة سجود السهو من الصلاة ، وبها يفرح المساكين ويدخل السرور إلى قلوبهم يوم سرور الأمة المسلمة جميعاً ؛ لما فيها من تأمين طعامهم واحتياجاتهم وإكرامهم بترك المسألة يوم العيد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أغنوهم عن المسألة هذا اليوم } رواه البيهقي .
     وتجب هذه العبادة بغروب شمس آخر يوم من رمضان ليلة عيد الفطر ، أما الحنفية والمالكية فيرون وجوبها ببزوغ فجر يوم العيد ، فقد { أمر صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة } رواه البخاري ، ويجوز تعجيلها أياماً فقط وليس أكثر من ذلك ، جاء في آخر حديث فرضها عبارة { وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين } رواه البخاري . فالغالب أنها تبقى أو يبقى بعضها إلى يوم العيد فتتحقق بذلك الحكمة منها بإغناء المساكين وإسعادهم يوم العيد . أما إن عُجِّلت أكثر من يومين فمن المؤكد أنها لا تبقى وتضيع الحكمة من وجوبها . 
* واستكمالاً للفرحة يستحب للمسلم يوم العيد أن يتطيب ويتجمل لأنه يوم زينة ، فيلبس من الثياب أحسن ما لديه عند الخروج إلى صلاة العيد الْتزاماً بقول الله سبحانه وتعالى { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } الأعراف31 ، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد { كان يلبس بُرْدَ حِبْرَةٍ في كل عيد } رواه البيهقي ، وبرود الحبرة هي ثياب فاخرة من القطن كانت تصنع في اليمن ، وسميت حبرة لأنها تحبّر أي تزيّن .
* ويستحب إدخال الفرحة والسرور إلى قلوب الأطفال ، وتزيينهم بالملابس والذهب والفضة وغيرهما من المستحبّات في هذا اليوم ، قال صلى الله عليه وسلم عن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما { لو كان أسامة جارية لَحَلَّيتُه ولكسوته حتى أُنفِّقه } رواه ابن ماجه والجارية هي الفتاة الصغيرة ، فالصغار يفرحون ويسعدون بثياب العيد واللهو واللعب ، بل إن اللهو المباح واللعب البريء للكبار من المظاهر التي أباحها الله يوم العيد رياضة للبدن وترويحاً عن النفس ، ففي ديننا فسحة ، والرسول صلى الله عليه وسلم بُعث بحنيفيّة سمحة ، فقد { دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على عائشة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها يوم فطر أو أضحى وعندها قَيْنَتان تغنيان ، فقال أبو بكر : مزمار الشيطان ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعهما يا أبا بكر ، إن لكل قوم عيداً وإن عيدنا هذا اليوم } رواه البخاري ، وقالت عائشة رضي الله عنها أيضاً { لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم } رواه البخاري ، ولكن لا يجوز اتخاذ العيد فرصة للغرق في الملذات الباطلة واللهو المحرم وقضاء أيامه في الذنوب والآثام والمعاصي .
* ويستحب للمؤمن أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة ، فقد { كان صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ، ويأكلهن وتراً } رواه البخاري .
* ويستحب للمؤمن التكبير يوم عيد الفطر لأنه سنة ، وينتهي التكبير بانتهاء خطبة العيد ، فلْنكبرْ الله سبحانه وتعالى يوم الفطر امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى ، فقد قال عقب آيات الصوم { ... وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } البقرة 185 ، وورد أنه { كان رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم يخرج يوم الفطر فيكبر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى فإذا قضى الصلاة قطع التكبير } رواه أحمد ، وقالت الصحابية أم عطية رضي الله عنها { كنا نؤمر بالخروج في العيدين والمخبأة والبكر، قالت : الحُيَّضُ يُخْرجن فيكُنَّ خلف الناس يُكبرن مع الناس } رواه مسلم .
* ويسن للمسلم أداء صلاة العيد فرحاً بأنْ بلّغه الله عز وجل رمضان فأتمه ، وجعله موسم طاعة فاغتَنمه ، فالسجود لله على النعمة هو من صور شكره ، وهي سنة مؤكدة واظب عليها صلى الله عليه وسلم ، فقد { كان يأمر النساء بالخروج في العيدين ليشهدن الصلاة فَيَكُنَّ خلف الناس يكبِّرْنَ مع الناس } رواه مسلم ، لأن الخروج إليها إظهار لشعيرة من شعائر الإسلام ، وصلاة العيد ركعتان بلا أذان ولا إقامة ولا نداء ، قال جابر بن عبد الله { لا أذان للصلاة يوم الفطر حِين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج ، ولا إقامةَ ولا نداء ولا شيء ، لا نداء يومئذ ولا إقامةَ } رواه مسلم ، ويدخل وقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح وزوال حمرتها ، وينتهي وقتها بزوال الشمس ، وهيئتها أن يكبر في الركعة الأولى سبعاً بعد تكبيرة الإحرام ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الأعلى ، وفي الركعة الثانية يكبر خمساً بعد تكبيرة القيام من السجود ويقرأ سورة الغاشية ، وبعد الصلاة يخطب الإمام بالمصلين مذكراً وواعظاً ، فقد { كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم ، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم ، وإن كان يريد أن يقطع بعثاً أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف } رواه البخاري . 
* ويستحب تبادل التهنئة بالعيد ، وتكون بكل ما يسرّ ويسعد الإنسان في دينه ودنياه مما لا يخالف شرع الله ، ومن قُبلت طاعته في يومٍ كان عليه مباركاً ، وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا الْتَقَوْا يوم العيد يهنئون بعبارة تقبل الله منا ومنك . فلْنهنىءْ بعضنا بالعيد ولْنتصافحْ فيما بيننا فبالمصافحة تغفر المعاصي والآثام وتقترب القلوب وتنظف من الغلّ ، قال صلى الله عليه وسلم { إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تَحَاتَّتْ عنهما ذنوبهما كما تَتَحَاتُّ الورق من الشجرة اليابسة في يوم ريحٍ عاصف ، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحر } رواه الطبراني ، ويهنئ المسلمون بعضهم بقولهم : عيد مبارك عليك أو أحياكم الله لمثله ، ويقول الناس اليوم : عساكم من عواده ، أو كل عام وأنتم بخير .  
* والعيد فرصة سانحة لصلة الرحم وذوي القربى ، فهي عنوان الأخوّة والتماسك في مجتمع الإيمان ، والصلة تقتضي الإحسان إليهم والعفو عن إساءتهم . وتتحقق بالزيارة والمعاونة وقضاء الحوائج بل حتى بالسلام ، وتكون كذلك ببذل المال لهم إن كان مقتدراً فهو تكافل وصلة وصدقة ، قال صلى الله عليه وسلم { الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة } رواه الترمذي . 
     وتتفاوت درجات الصلة بالنسبة للأقارب فهي في الوالدين أوجب ما تكون ، وليس المراد بالصلة أن تصلهم إن وصلوك ، بل أن تصلهم حتى وإن قطعوك ، قال صلى الله عليه وسلم { ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها } رواه البخاري ، فقد { جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلُمُ عليهم ويجهلون عليّ ، فقال : لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تسفّهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك } رواه مسلم والملّ هو الرماد ، ومن آثارها رضا الله سبحانه وتعالى وإدخال السرور على الأرحام وإطالة العمر وزيادة الأجر بعد الموت ، قال صلى الله عليه وسلم { من سره أن يُبسط عليه رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه } رواه البخاري .
     وصلة الرحم لا يقصد بها الإحسان إلى الأقارب من النساء فقط بل هي شاملة للرجال والنساء ، كما أن صلة المرأة لأقاربها من الرجال مستحبة مع أن حقها في الصلة آكد من حقهم .
      وقطيعة الرحم المأمور بوصلها لغير عذر شرعي حرام ، لقول الله سبحانه { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } البقرة 27 ، وتكون القطيعة بترك الإحسان ، فإن تجاوزت ذلك إلى الإساءة فهي من الكبائر . 
     فالمنتظر أن نبادر اليوم إلى صلة أقاربنا وإن قاطعونا ، فقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من الهجر فقال { لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ؛ يلتقيان : فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } رواه البخاري ، وبين لنا أن الأخوين المتقاطعين لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً . فلْنبادرْ إلى صلة رحمنا وزيارة أقاربنا وأصدقائنا وجيراننا استجابة لأمر ربنا وإحياء لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولْنجعلْ الأولوية لأسر الشهداء والجرحى والأسرى الذين قدموا لله وللأمة والوطن أغلى ما يملكون .
     إن انقضى رمضان شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار ، شهر العبادة والصيام والقيام ، فإن الله سبحانه وتعالى فتح لنا مواسم جديدة للخير والطاعة والعمل الصالح ، فلْنستمرّ في عبادة الله تعالى وطاعته بالأعمال الصالحة في كل الأيام بعد رمضان ، فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد انقضى ومن كان يعبد الله فإن الله رب الشهور كلها ينبغي أن نعبده في كل زمان ومكان وحين ، فعبادة الله سبحانه واجبة لا تنقطع ولا تنتهي إلا بانتهاء الحياة ، قال تعالى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } الحجر 99 ، فالتوقف عن الصالحات بعد رمضان نقض للعهد مع الله وعمل مبتور لا أصل له ، ومن عرف الله خافه في كل وقت ، وإلا كان رمضان سجناً ما يلبث المرء أن يخرج منه فرحاً إلى المعاصي ، ولْنعلمْ أن من علامة قبول العبادة عند الله أن توصل بعبادة أخرى ، فلْنواصل العبادات في أزمانها وأماكنها ، ولنحرص على الصيام في شهر شوال ، قال صلى الله عليه وسلم { من صام رمضان وأتبعه بستٍّ من شوال فكأنما صام الدهر } رواه النسائي . 
     تقبل الله منكم ومنا الصيام والقيام وسائر الطاعات ، وأعاد الله تعالى عليكم وعلينا وعلى المسلمين جميعاً شهر رمضان وعيد الفطر بالعزة والنصر والتمكين وقد تحرر مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما حوله من نير الأسر و الاحتلال الغاشم .

 


: الأوسمة



التالي
زكاة الفطر.. أحكامها الفقهية ومقاصدها الشرعية
السابق
المنتدى العالمي للوسطية يعرب عن قلقه إزاء الأوضاع في تونس ويدعو إلى الحوار والمجادلة البناءة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع