زكاة الفطر.. أحكامها الفقهية ومقاصدها الشرعية
د. خالد حنفي
زكاة الفطر هي الزكاة التي سببها الفطر من رمضان، وقد فرضت في السنة الثانية للهجرة، وهي السنة التي فرض فيها الصيام، والفرق بينها وبين الزكوات الأخرى أنها فرضت على الأشخاص لا الأموال، ولهذا لا يشترط لها ما يشترط للزكوات الأخرى من نصاب وحول وغير ذلك.
مقاصدها الشرعية
زكاة الفطر مقصدة معللة بحديث ابن عباس قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات". أبو داود بسند حسن، ويمكن إيجاز مقاصدها فيما يلي:
التزكية والتطهير: وهو مقصد عام للزكاة عموما وللفطر خصوصا قال تعالى: ﴿خذ من أموٰلهم صدقة تطهرهم وتزكیهم بها﴾ [التوبة: 103]، فالزكاة تطهر نفس المسلم من داء الشح والبخل وتكسر عنده حدة حب المال وكنزه ومنعه عن أصحاب الحاجات.
الجبر والتكميل: كل صائم يقع في صومه من الغيبة والنميمة وفضول الكلام والنظر ما يقع فتأتي صدقة الفطر لتجبر النقص وتكمل الأجر والثواب للصائم وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "طهرة للصائم من الرفث واللغو"، وعن وكيع بن الجراح رحمه الله قال: زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدتي السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة".
التكافل والإغناء: من مقاصد الزكاة عموما والفطر خصوصا تكافل المسلمين وتعاونهم ودعم مساندة الأغنياء للفقراء والشعور بحاجاتهم والسعي للتخفيف عنهم، لكن صدقة الفطر وسعت دائرة العطاء والتكافل فلم تشترط في دافعها أن يبلغ حد الغنى المطلوب في دافع الزكاة المفروضة.
الشكر والبذل: فالمسلم حين يدفع زكاة الفطر يشكر الله على نعمة إتمام الصيام والقيام وبلوغ رمضان والتوفيق فيه للطاعات، ويحمد الله على نعمة اليسار والكفاف، ويعود نفسه على شكر النعم بالبذل والعطاء، ويصل الصيام بالزكاة، والطاعة بأختها.
الفرح العام بالعيد: شرعت زكاة الفطر لتعم الفرحة بالعيد كل أفراد المجتمع فلا يفرح بها الغني الموسر ويحرم منها الفقير المعدم، فلا بد أن يظهر المعنى الإنساني التراحمي التكافلي في أعياد المسلمين، لهذا شرعت زكاة الفطر في عيد الفطر، والأضحية في عيد الأضحى ورصد الأجر العظيم على الشعيرتين ترغيبا في إدخال السرور على الناس وجبر خواطرهم.
حكمها وعلى من تجب
زكاة الفطر فرض باتفاق جمهور الفقهاء، ودليل فرضيتها حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين"، البخاري.
وتجب على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، ولا تجب عن الجنين إلا إذا استهل صارخا قبل فجر يوم العيد، فإن تطوع بها عنه فلا بأس، ويجب إخراجها عن نفسه، وكذلك عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب، ولا يدفع الرجل عن زوجته غير المسلمة عند جمهور الفقهاء، ويجب عليه دفعها عند أبي حنيفة وأصحاب الرأي وهو ما أرجحه خاصة لمسلمي أوروبا، لأنها وإن لم تصم إلا أن زوجها ملزم بنفقتها، وبالدفع عنها يتحقق مقصد طعمة للفقراء والمساكين، وهو أنسب لتأليف قلبها وتوسيع دائرة الإعطاء.
من يجب عليه دفعها
تجب زكاة الفطر على كل مسلم أو مسلمة يملك مقدارها فاضلا عن قوته وقوت من تلزمه نفقتهم يوم العيد وليلته، وفاضلا عن مسكنه وأثاثه، وحوائجه الأصلية، ولا يشترط لوجوبها ملك نصاب الزكاة كما قال أبو حنيفة قياسا على زكاة المال، لأن الفطرة متعلقة بالأبدان، والزكاة متعلقة بالأموال فافترقا، وعدم اشتراط الغنى لإخراجها يحقق مقصدا تربويا وأخلاقيا في المجتمع، وهو تدريب المسلم على الإنفاق في السراء والضراء والبذل في اليسر والعسر كما يرجح الإمام القرضاوي رحمه الله.
فإن أخذ الفقير زكاة المال وزاد قدرها عن حاجته وعياله يوم العيد وليلته أخرجها كذلك، والدين المطلوب سداده مقسطا، والدين المؤجل لا يمنعان من دفع زكاة الفطر.
مقدارها
حددت السنة النبوية مقدار زكاة الفطر في حديث ابن عمر المذكور آنفا "صاعا من تمر أو شعير…"، والصاع يتراوح تقديره بين كيلوغرامين ونصف إلى 3 كيلوغرامات تقريبا، وتجوز الزيادة عليه، لقوله تعالى في فدية الصيام وهي طعام مسكين: ﴿فمن تطوع خیرا فهو خیر له﴾ [البقرة: 184]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة لرجل تصدق بناقة كوماء -أي عظيمة السنام- وقد كانت فوق الواجب عليه.
ومن أراد إخراجها حبوبا أخرجها من غالب قوت البلد الذي يعيش فيه من الأصناف التي تقتات وتدخر، ولا يلتزم بالأصناف المذكورة في حديث ابن عمر، لأنها ليست تعبدية، وإنما كانت تمثل أقوات الناس في البيئة العربية، وغالبها لم يعد قوتا للناس اليوم لا في رمضان أو طوال العام كالتمر والزبيب، لهذا يصار اليوم إلى الحبوب التي تعد قوتا معتادا للناس طوال العام كالأرز والذرة وما شابههما.
هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقودا؟
هذه المسألة أخذت أبعادا كبيرة جدا وصنفت فيها المصنفات المستقلة المطولة والمختصرة، وصدرت فيها القرارات المجمعية، ويعاد الجدال والنقاش فيها جذعا كما لو كان يطرح لأول مرة، وكثيرا ما يغيب في النقاش فيها أدب الخلاف، حيث يعتقد المانعون لإخراجها نقدا أن من يخالفهم مخالف للسنة وقد ذهب بعضهم إلى عدم إجزائها أصلا وأنه يجب على من أخرجها نقدا إعادة إخراجها حبوبا، واستمرار هذا الجدال في مسألة من مسائل الفروع يشوش على الناس في عبادتهم ويعكر أجواء التعبد والصفاء الروحي في العشر الأواخر من رمضان، ورغم ظهور بعد القول بوجوب إخراجها حبوبا عن مقصد زكاة الفطر وروحها، إلا أنه يجب أن نتوقف عن هذا الجدال المكرور وليخرج كل مسلم زكاته بما اطمأنت إليه نفسه أو قلد فيه مذهبه أو إمامه أو مفتيه أو ناسب ظرفه وحاجة الآخذين للزكاة في بلده، وليترك غيره يقلد من شاء من الأقوال الفقهية المعتبرة الأخرى.
إنني لا أتخيل أن يخرج أكثر من ملياري مسلم حول العالم زكاة فطرهم حبوبا، فمن أين يأتون بها؟ وأين تخزن؟ وكيف توزع، وماذا يفعل الفقراء بها، وكيف نعقد عبادة الأصل فيها اليسر وعدم التعقيد؟ لقد قرأت أن أحد العلماء رأى فقيرا في بلد يتمسك علماؤه بالحبوب ولا يجيزون إخراج القيمة، يحمل أكياسا ثقيلة من الأرز وليس معه مالا يأخذ به سيارة أجرة تصله لبيته، فترك أكياس الأرز في الشارع ومضى إلى حال سبيله، فهل حققنا بذلك مقاصد زكاة الفطر ومعانيها الشرعية، وهل عادت هذه المنهجية بخير على الأغنياء أو الفقراء، وهل قدمت صورة الإسلام الحضارية العالمية على نحو أكمل وأفضل؟
لقد فصلت القول في المسألة في مقال سابق لي بعنوان: إخراج زكاة الفطر نقدا رباعية الدلالات والترجيح، فليرجع إليه، وخلاصة القول أنه يجوز إخراجها نقودا، وهو الأرجح للناس اليوم خاصة المسلمين في الغرب، لكونه الأيسر عليهم، والأنفع للفقير، والأسرع في نقلها لأهلها خارج أوروبا، وإلى جواز دفع القيمة ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المذاهب، حكاه التابعي أبو إسحاق السبيعي عمن أدركهم، وفيهم علي بن أبي طالب والبراء بن عازب وغيرهما، كما أنه قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والخليفة عمر بن عبدالعزيز، ومذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري والبخاري، وعلى ذلك أدلة كثيرة، وهو ما رجحه المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في قراره 23/4.
وقتها
جوز الإمام الشافعي إخراجها من أول رمضان، لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها كزكاة المال بعد ملك النصاب، وجوز أبو حنيفة دفعها من أول العام قياسا على زكاة المال، وجوز بعض الحنابلة إخراجها من نصف الشهر، والمالكية قبل العيد بيومين أو 3 أيام، والأنسب للناس اليوم خاصة في الغرب تعجيل إخراجها من منتصف رمضان أو في العشر الأواخر منه، حتى تتمكن المؤسسات والوكلاء من توزيعها وإيصالها لمصارفها قبل يوم العيد، ولأن الفقير حتى يشعر بفرحة العيد يحتاج أن يشتري الملابس والطعام ليوم العيد وقبله بأيام، وبعضهم يقوم بالشراء قبل رمضان تجنبا للزحام وبحثا عن الأقل ثمنا، جاء في قرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قرار 4/23 :"تحقيقا للمصلحة فإن المجلس يحث على تعجيل دفع زكاة الفطر ابتداء من أول شهر رمضان، وبخاصة إذا كانت تنقل خارج بلد المزكي".
التوكيل فيها
يجوز للمسلم الأوروبي وغيره أن يوكل شخصا أو مؤسسة في بلده أو بلد آخر بإخراجها عنه سواء كان فردا أو مؤسسة، على أن تخرج في وقتها، وبقيمتها في بلد المزكي، وأن تصل لمصارفها قبل العيد في بلد آخذها.
نقلها خارج بلد المزكي
الأصل الذي عليه جمهور الفقهاء عدم جواز نقلها خارج بلد المزكي، واستدلوا بحديث معاذ في صحيح مسلم، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم"، وهكذا كان العمل في عهد الخلفاء كعمر رضي الله عنه، حيث كان يفرق المال في عصره حيث جمع، ويعود السعاة إلى المدينة لا يحملون شيئا غير أحلاسهم التي يتلفعون بها، أو عصيهم التي يتوكؤون عليها، وعن سفيان الثوري أن زكاة حملت من الري إلى الكوفة فردها عمر بن عبد العزيز إلى الري. قال أبو عبيد: "والعلماء اليوم مجمعون على أن أهل كل بلد من البلدان أحق بصدقتهم ما دام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك، وإن أتى ذلك على جميع صدقاتها، حتى يرجع الساعي ولا شيء معه منها.
والقصد الشرعي من عدم نقل الزكاة هو كما يرى العلامة القرضاوي في موسوعته فقه الزكاة: "رعاية لحرمة الجوار، وتنظيما لمحاربة الفقر ومطاردته، وتدريبا لكل إقليم على الاكتفاء الذاتي، وعلاج مشاكله في داخله، ولأن فقراء البلد قد تعلقت أنظارهم وقلوبهم بهذا المال، فكان حقهم فيه مقدما على غيرهم".
ويجوز نقل الزكاة وإرسالها خارج بلد المزكي إذا عدم المستحقون لها فيه، أو استغنوا ببعضها فينقل الباقي، أو كانت حاجتهم أشد وأكبر، أو كانوا ذوي قرابة للمزكي مع فقرهم.
لمن تعطى زكاة الفطر
يرى فقهاء الشافعية وجوب توزيعها على مصارف الزكاة الثمانية، ويرى الجمهور جواز تقسيمها على الأصناف الثمانية، والصحيح الراجح هو قول المالكية أنها لا تصرف لغير المساكين، لحديث: "أغنوهم في هذا اليوم"، وحديث: "طعمة للمساكين" ولتحقيق مقصد إشعار الفقير بالفرحة في يوم العيد، ويمكن العمل برأي الجمهور بتوزيعها على المصارف الأخرى بعد سد حاجات المساكين وإغنائهم، ومنع الجمهور إعطاءها للفقير غير المسلم، وجوز أبو حنيفة دفعها إليه، لأن سببها عنده هو الفقر لا الإسلام، ورأي أبي حنيفة أرجح وأنسب لزماننا خاصة في الغرب، لإظهار الجانب الإنساني في الأعياد، ولأن غير المسلمين لا يفرقون في عطاءاتهم وتبرعاتهم أوقات الكوارث والأزمات بين الناس على أساس الدين.
ولا تدفع زكاة الفطر للكفار المعادين للإسلام، ولا لمن إذا أخذها كأنه دفعها لنفسه، كإعطاء الزكاة للابن أو الوالد أو الزوجة ممن يلزمهم نفقتهم.
ندعو الله أن يتقبل من المنفقين وأن يخلف عليهم، وأن يجعل هذا العيد عيدا مباركا على أمة الإسلام.
المصدر : الجزيرة نت