المقال الثاني- الصلة بين العلم والدين في ظل هيمنة النموذج المعرفي الغربي
بقلم: بدران بن لحسن
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
مما يجابه الإنسان في عصرنا كما يقول المسيري[1] أن النموذج الحضاري الغربي أصبح يشغل مكانا مركزيا في وجدان معظم المفكرين والشعوب، وليس من المستغرب أن يحقق نموذج حضاري له مقدرات تعبوية وتنظيمية مرتفعة انتصارات باهرة، على المستويين المعنوي والمادي.
كما أن التعامل مع الحضارة الغربية الغالبة أخذ صيغة الانبهار الذي دفع كثيرا من قيادات أمتنا ونخبها وعلمائها، وأبنائها عموما، إلى الأخذ غير المتبصر عن هذه الحضارة، أو ما سماه مالك بن نبي "التكديس"[2]، الذي يستورد ويراكم الخبرات والأشياء، ولكنه لا يصنع حضارة، أو يعيد نهوضها من جديد!
مع ما يصحب ذلك من خلط بين "عالم الأشياء" و"عالم الأفكار"[3]، إذ أن التعامل مع الأفكار بذهنية التعامل مع الأشياء يؤدي إلى اقتحام "أفكار مميتة" عقل الأمة وعقيدتها وثوابتها التصورية وخصائصها الأساسية، والتشويش عليها بجملة من المفردات، التي تلحق الدمار بمقومات الشخصية الإسلامية، وتقودها إلى الخروج من ساحة الاحتكاك الحضاري، وقد فقدت ذاتها، وأصبحت - في نهاية الأمر - تابعا يدور في فلك الآخر.
وهذا النموذج الحضاري الغربي يقوم على نموذج معرفي صار يؤطر المعرفة ويثريها بمقولاته. والرؤية الغربية لله عز وجل والكون والحياة، صارت تسيطر على توجهات أغلبية شعوب الأرض الآن، وتحاصر ثمرات هذا المنهج وعي الإنسان وفكره وسلوكه ورغباته، حتى تكاد تأسر رؤية الإنسانية للوجود، فصارت الحضارة الغربية "قانون العصر" المهيمن[4].
وعندما تنظر إلى هيمنة النموذج المعرفي الغربي تظن لأول وهلة أنه أحاط بالإنسانية وأنه أعظم ما يمكن للبشرية بلوغه والوصول إليه. وذلك لأنه – كما قلنا في المقال السابق- قد مكن لنفسه بترسانة من الوسائل التكنولوجية والتقنيات المتطورة، التي استبدت بحياة الإنسان في شتى جوانبها، داخل بيته وخارجه؛ سيارة يمتطيها، وهاتف يحدد به المواعيد، وجهاز حاسوب يكتب فيه ما يشاء ويخط فيه سائر خطاباته ويتصل به ويقرب الأبعاد، فيظهر لك زيادة إلى ما سبق، كأن الغرب قد امتلك ناصية الحقيقة المطلقة التي لا يساورها شك ولا يعتريها نقص[5].
والعالم الإسلامي الذي يحاول استكمال تحرره من الهيمنة الغربية، على نخبه أن تركز على استكمال التحرر من هيمنة نموذجها المعرفي، لأنه يحتوي بعض العناصر المخالفة للرؤية الإسلامية للحياة، من استبطان الابعاد العَلمانية، والوضعية، والنسبية، والمادية، والتطورية، في تحليل الظواهر وقراءة التاريخ. لأن هيمنة النموذج المعرفي الغربي أتلف قداسة الوجود في النفوس والضمائر والثقافة. وبسبب دعوى العلمية أخضع هذا النموذج كل شيء وكل فكرة إلى مقاييس الكم، فصار التكميم معيارا لقياس مدى صحة أو علمية أي فكرة أو شيء في هذا الوجود. [6]
فالتطور الهائل الذي عرفته العلوم الطبيعية والتكنولوجية وحتى الإنسانية والاجتماعية، قائم على الفكر المادي، والفلسفة المادية التي طغت على الحضارة المعاصرة سواء في أصولها النظرية أو في تطبيقاتها الاجتماعية والسياسية. وصار المجال العقائدي وفق النظرة المادية الوضعية من قبيل الشأن الشخصي الذي لا يخضع لمنطق البرهان الاستدلالي العقلي، ولا يمكن اعتباره علما حسب هذه النظرة الوضعانية. وحتى لو اعطي للدين والايمان مجال، فهو مجال يحدده العقل العلماني الدهراني، توظيفا للإيمان وليس احتكاما إليه واستمداداً منه.
فالنموذج المعرفي الغربي مادي في أساسه، متمركز على المادة، وينكر الغيب وما يتصل به من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. وترفض الحضارة الغربية وفق منهجها العلمي أي مصدر آخر للمعرفة خارج عن نطاق الفحص الحسي المادي، الخاضع للتجربة المخبرية أو المشاهدة[7].
وبما أنها مادية فإنها تخضع كل شيء لقوانين المادة من تحول وتغير، ولا يوجد هناك ما يسمى ثابت مثل القيم والأخلاق، لأنها ليست أشياء يمكن تقديرها بالكم، فالصدق بما أنه لا يمكن وزنه ولا قياسه بالكمية أو بالأرقام فهو - في المفهوم الغربي - شيء مفتعل وغير موجود، ولا ثمرة من ورائه.
وفي ظل هذا الفصل بين العلم والإيمان تطورت نظريات العلوم الإنسانية والاجتماعية والفنون والآداب، مبنية على رؤية ووجهات نظر مادية للإنسان ونفسيته، ومحاكمة طبيعته وتصرفاته وميوله، وتقويمها من خلال مقاييس المادة وحدها. وأدى ذلك إلى متاهات عقائدية وأخلاقية وروحية وإنسانية. إذ أنها جردت الإنسان من مكوناته الأساس التي ترتفع بها فطرته البشرية، وتعتدل بها نفسه، وتتزكى بها روحه، ويرشد بها عقله ويتسامى بها ضميره.
وهذا ما يحتم على المثقف والباحث المسلم أن ينتبه بشدة إلى محاولات تجريد الإنسان المسلم فردا وجماعة من مصادر قوته، وافتكاك مرجعيته في تحديد تصوراته وأفكاره وفهمه للعالم ولحركة التاريخ، ولوظيفته في تحقيق العبودية لله تعالى، ودعوة الناس إلى أن يتحرروا من العبودية لغيره سبحانه.
كما يحتم عليه الرجوع إلى القرآن والسنة في تحديد تصوراتنا ومفاهيمنا المركزية[8]، وبخاصة ما يتعلق بفهمنا للدين، ودوره ووظيفته في حياتنا، ولبناء وعي أصيل مرتكز على نصوص القرآن والسنة، وعلى ما أنجزه علماء الأمة الأعلام، حتى لا نقع في فهم اختزالي أو مشوه أو متناقض، ولكي نحمي فهمنا الديني ووعينا الإسلامي من انتحالات المبطلين، وتأويلات الغالين، وتحريفات الجاهلين.[9] وبخاصة في موضوع صلة الدين بالعلم، التي تشوشت بفعل هذا النموذج الغربي.
*****
- اقرأ: المقال الأول- في الصلة بين الدين والعلم
[1] المسيري، "فقه التحيز"، مرجع سابق، ص 49.
[2] بن نبي، شروط النهضة، مرجع سابق، ص40 وما بعدها.
[3] الأفكار المميتة، والأفكار الميتة، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار؛ من المفاهيم المفتاحية التي استعملها مالك بن نبي في دراسة شروط نهضة الأمة الإسلامية وتحقيق نهضتها الحضارية من جديد. للتفصيل، يمكن الرجوع إلى كتاب شروط النهضة، وكتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي للأستاذ مالك بن نبي.
[4] بدران بن لحسن، مراجعة لكتاب "الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية رؤية معرفية"، إسلامية المعرفة، العدد الرابع، ذو القعدة 1416هـ/ أبريل 1996م، ص 211-225.
[5] بدران بن لحسن، العولمة ومنعطف التجديد: نحو فلسفة إسلامية لعصر العولمة، مجلة الإحياء، جامعة باتنة، الجزائر، مجلد 9، عدد 1، 2007، ص 358-359.
[6] مالك بن نبي، دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، دمشق: دار الفكر، 1412هت/ 1992م، ص44.
[7] عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، بيروت: دار الفكر، 1431هـ/ 2010م، ص11-39، 80-96.
[8] بدران بن لحسن، "مركزية القرآن في إنتاج المعرفة"، مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، عدد 595، سنة 2015، ص 54-57.
[9] إشارة إلى الحديث الذي اخرجه أحمد في مسنده: "يحمِلُ هذا العِلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الجاهِلينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الغالينَ". وقد اخرجه غيره بألفاظ قريبة.