البحث

التفاصيل

المقال الثالث- الحاجة إلى القرآن لتحديد الصلة بين الدين والعلم

الرابط المختصر :

المقال الثالث- الحاجة إلى القرآن لتحديد الصلة بين الدين والعلم

بقلم: بدران بن لحسن

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

إن القرآن كتاب الله الخاتم إلى العالمين، يجمع بين تأسيس الشعائر والشرائع وبين وضع النواظم والقواعد لكل ما يحتاجه الإنسان في حياته الدنيا، لتحقيق الاستخلاف؛ عبادة وعمارة.

ولهذا، فإن القرآن وإلى جانبه السنة الشريفة مصدر الإسلام لتشكيل التصورات والمفاهيم والقيم كليها وجزئيها، ومنبع للمسلم في بناء مفاهيمه ومناهجه في الدين والعلم والحياة، ولهذا فإنهما يمثلان منبع استمداد لا ينضب لدراسة مختلف الظواهر والقضايا والأفكار والأحداث. فمنه نستمد الرؤية، والمنهج، والمقاصد التي يتناولها القرآن، ومختلف العلوم التي تستمد من القرآن إما بطريق مباشر؛ أي ما يتعلق منها بسنن الهداية، وإما بطريق غير مباشر؛ أي ما يتعلق منها بسنن الأفاق والأنفس والتاريخ[1].

كما أن القرآن "جامع لمصالح الدنيا والدين، وموثق شديد العرى من الحق المتين، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها، طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع، وتفاصيل من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره، أو مطالعة كلام مفسِّره"[2]. وهو كتاب الله الجامع لخيري الدنيا والآخرة، ومنبع الحق والهداية، ومصدر العلوم على تنوعها، ومستمد الكليات في التشريع وفي العلم والأخلاق. وبالنظر في القرآن وتدبره نولد منه نماذج معرفية ومنهجية وعملية.

فهو ليس كتابا دينيا بالمفهوم الضيق للدين، وإنما هو كتاب هداية ورحمة وتبيان لكل شيء. ذلك أنه منبع للمعاني والمفاهيم والتصورات، والقيم والآداب، والأحكام والقصص، ومقاصده شاملة لمختلف جوانب الفكر والعمل، ومبثوثة في كل آياته.

وينبغي أن يأخذ القرآن مركز الاهتمام والاشتغال في تشكيل التصورات، وتحديد الرؤية، وبناء المناهج والمفاهيم، وفي مباشرة عملية التجديد الفكري والعلمي، والإصلاح التربوي والاجتماعي، بغية "التوصل إلى الوعي الحضاري العمراني بالقرآن" كما يقول شيخنا محمد الغزالي[3].

وعندما نُعمِلُ القرآن بمنهجية صحيحة، سنصل إلى فهم حسن للقضايا الكبرى، التي تشغل بال الإنسان في كل مكان؛ قضية الخالق سبحانه، والخلق والكون والحياة والهدف منها، ودور الإنسان في هذه الحياة، ومصيره بعدها، ويصل المسلم أيضا إلى فهم حسن للمشكلات الحياتية والحضارية التي يعاني منها العالم الإسلامي في وقتنا الحاضر[4].

وإذا أردنا استعادة المبادرة والتأسيس الفعلي لعلاقة سليمة بين الدين والعلم، فإن علينا العمل على أن يسترجع القرآن مكانه؛ تدبراً وتفكراً واستنباطاً واستقراءً، وذلك يمثل استدعاءً للقرآن العظيم للساحة الثقافية، وإنهاء حالة الهجر والفصام بينه وبين العقل المسلم، وجعله المصدر الأول والأهم للمسلم المعاصر، كما كان كذلك عند السلف، يرجع إليه ليستقي منه العلم والمعرفة السليمة في نظرته إلى الإنسان والحياة والوجود، في الفطرة الإنسانية والاجتماعية، وفي قضايا الفرد والأسرة، والمجتمع، والعلاقات، والنظم[5]. لأن القرآن أنـزله الله تعالى كتاباً لصلاح أمر الناس كافة، رحمة لهم، لتبليغهم مراد الله منهم. قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل:89].

إن كل شؤون الإنسان يشملها القرآن باستيعابه الشامل لمختلف دوائر حياة الإنسان، ولمختلف أبعاد شخصيته. وعليه، فإننا بتأملنا لمختلف الدوائر والأبعاد، ندرك أن القرآن يكون منبعاً لنا في تأسيس مختلف المعارف المتعلقة بصلاح الإنسان؛ فردا وجماعة وعمرانا. وهذا يجعل من القرآن مركزيا ومهيمنا في التأسيس لعلم العقيدة، وعلم الأخلاق، وعلم الأدب وتهذيب النفوس، ومناهج التفكير، وعلم النفس، وعلم الشعائر أو العبادات، وعلم المعاملات، وفي تأسيس الفقه الجماعي، أو فقه الشؤون العامة التي تهتم بالوجود الاجتماعي للفرد في وسط جماعة؛ أي فقه الشأن العام، وعلم العمران وعلم الاجتماع[6].

وهذا بدوره يجعل من القرآن منبعا للعلوم الاجتماعية والإنسانية والعمرانية، ومختلف حقول المعرفة التي تؤسس للتحضر الإنساني والعمران البشري، كما فعل ابن خلدون في التركيز على فقه العمران والاجتماع، وتأسيس منهج للبحث الاجتماعي، على أسس قرآنية، تستدعي القرآن مؤسسا وموجها للنظر الاجتماعي.

وهذا الفهم للقرآن والنظر إليه بهذه المركزية وهذه الشمولية، يجعل من القرآن مرجعا يستقى منه، ويؤكد على صلة مختلف العلوم بالقرآن الكريم، ويجعل القرآن يشكل مرجعية شاملة. فالقرآن يقوم بدور مرجعي في هندسة بناء المعرفة، مما يجعلها ذات أصول مشتركة، وتتجه إلى تحقيق أهداف متضافرة. ذلك أن التشظي المشهود في المعرفة في العالم الإسلامي، والإشكالات المتعددة، ناتجة عن استبعاد القرآن الكريم عن مسار الإنتاج المعرفي وعن هيمنته على إنتاج المعرفة، كما هي ناتجة عن هيمنة النموذج المعرفي الغربي الذي أشرنا إليه في المقال السابق.

ولذلك يجب أن يكون القرآن المصدر الأعلى ويكون معيار صواب الآراء والأفكار، والمصدر الرئيس للقواعد الثابتة لجميع المعارف، وجميع مناشط الإنسان لتحقيق الهداية والاستخلاف، والناظم لمختلف أفرع المعرفة[7].

*****

- اقرأ: المقال الأول- في الصلة بين الدين والعلم

- المقال الثاني- الصلة بين العلم والدين في ظل هيمنة النموذج المعرفي الغربي

 

[1] بدران بن لحسن، "ابن عاشور وإعادة الاعتبار للقول الكلي في الفكر الإسلامي"، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، دبي، عدد 44، 1434هـ/ 2012م، ص 25.

[2] محمد الطاهر بن عاشور. تفسير التحرير والتنوير، تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع، 1997م، مج1، ج1، ص5.

[3]محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، مدارسة أجراها: عمر عبيد حسنة، هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1411ﻫ/ 1991م، ص3.

[4]  صلاح إسماعيل، "كيف نتعامل مع القرآن والسنة"، في نصر محمد عارف، قضايا إشكالية في الفكر الإسلامي المعاصر. هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة قضايا الفكر الإسلامي المعاصر 16، ط1، 1418ﻫ/1987م، ص81.

[5] الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن، مرجع سابق، ص1. من تصدير الشيخ طه جابر العلواني.

[6] ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، مرجع سابق، ج1، ص38.

[7] المرجع السابق، ج1، ص39.





التالي
مفتاح التعليم والتعلم
السابق
اغتيال الشيخ عبد الله الباني خطيب صلاة العيد في شبوة باليمن عقب انتهاء الخطبة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع