البحث

التفاصيل

معضلة الشر والمفاهيم الحاكمة لفهمها

معضلة الشر والمفاهيم الحاكمة لفهمها

بقلم: معتز الخطيب

 

وجود الشر شكّل أحد أبرز التحديات للفلاسفة والمتكلمين، والأسئلة المتعلقة بوجود الشر يعاد طرحها، خاصة في أزمنة المحن والكوارث والتحولات الكبرى التي تعصف بالمألوف أو الثوابت، فما المقصود بالشر؟ ولماذا اعتُبر وجوده معضلة؟ وكيف تم بحثه تاريخيا؟ وما أوجه الإشكال في استشكال الشر؟

سأحاول في هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة بتكثيف شديد، للوصول إلى إجابة موجزة عن هذه المشكلة من خلال تقديم 3 مفاهيم مركزية تساعدنا على فهم مشكلة وجود الشر.

أولا: مفهوم الشر

بالإفادة من بعض أفكار الفيلسوف ابن سينا يمكن التمييز في مفهوم الشر بين مستويين:

* المستوى الأول يتصل بثنائية الوجود والعدم: فالشر هو العدم، والخير هو الوجود، والأصل في الأشياء هو الخير، فالشر لا يصيب إلا الأشخاص أو الأفراد وفي أوقات محددة، أما الأنواع فمحفوظة (كحفظ نوع الإنسان مثلا)، ولكن ربط الشر بالعدم يثير مسألتين:

1- أن العدم درجات، فليس كل فقدٍ أو عدم شرا، إذ المعدوم قد يكون ضروريا أو نافعا غير ضروري أو كماليا، ولكن الشر يصدق على الضروري والنافع غير الضروري فقط دون الكمالي أو الثانوي، فالعمى والتشوهات الخِلقية مثلا تعني فقد الشيء لكماله الذي يتوقف عليه وجوده، ومن ثم تتصل بفقد ما هو ضروري ولذلك سميت شرا.أما انعدام فضائل الشيء مما لا يقوم عليه وجوده فلا يسمى شرا، لأنه انعدام لكمالات خارجة عن كمال وجوده، فالجهل ببعض العلوم والصنائع مثلا لا يسمى شرا وإن كان نقصا.

2- أن الشر قد يتعلق بأشياء موجودة في الواقع، ولكن هذه الموجودات "ليست شرورا بالذات بل بالعرض"، لأن كل فعل من هذه الأفعال الموصوفة بالشر -سواء كانت طبيعية أم إنسانية- إنما هو خير بالنسبة إلى فاعله، وشر بالنسبة إلى جهة أخرى.

يتحصل من هذا أن الشر إما "عدم جوهر أو عدم صلاح حال الجوهر"، فالمسألة إذن تدور على كمال الإنسان بقواه المختلفة العقلية والنفسية والبدنية.

المستوى الثاني يتصل بثناية اللذة والألم:

فالخير والكمال مرتبطان باللذة أو ما يكون وسيلة إليها، والشر يرتبط بالألم وما يكون وسيلة إليه، والآلام وإن كانت تحدث عن أسباب مؤلمة فهي تتعلق بأمر عرضي، أي أن المؤلم ليس مؤلما في ذاته وإنما بالقياس إلى المتألم به، كما أن الألم قد يكون مسوغا بالنظر إلى خير أكبر منه يراد تحصيله، ودفع المؤلم وتحصيل الملائم هو سعي نحو تحصيل الكمال الوجودي للمدرِك.

يتحصل من هذا أن الشر ينطبق على دائرة محددة من النقائص والحاجات، وهو حرمان الموجود من كماله الضروري.

والشر ينقسم إلى 3 أنواع: الشرور الطبيعية التي تحدث في الكون، والشرور الإنسانية وقد تسمى الشرور الأخلاقية، لأنها صادرة عن إرادة حرة من الإنسان، والشرور الميتافيزيقية المتعلقة بالنقص الذي تنطوي عليه ماهية الموجودات، فالشر -على هذا- مرتبط بالإرادة الإلهية وتدبير العالم، ومن ثم فهو لا ينفصل عن دلالته الميتافيزيقية والدينية، ولا يمكن حل مشكلة الشر وفق منظور وضعي أو طبيعي فقط، بل يجب أن نستحضر البعدين الأفقي (المادي) والعمودي (الغيبي) في حله إذا ما استعرنا بعض مفردات طه عبد الرحمن.

ثانيا: تشخيص مشكلة وجود الشر

واجه الفلاسفة والمتكلمون قديما الأسئلة المتعلقة بوجود الشر، ويتلخص وجه الإشكال في وجود الشر في 3 نقاط أصوغها في الأسئلة الثلاثة الآتية:

- لماذا يوجد الشر؟

- وكيف يصدر عمن هو خير مطلق؟

- أين الله من هذه الشرور في العالم؟

– لماذا يوجد الشر؟

يبحث هذا السؤال عن الأسباب والعلل والحكم، وهو ما ينشغل به العقل الفلسفي والعقل الكلامي معا، ولكن لا بد من توضيح أن عموم السؤال عن علة وجود الشر قد يخرج عن محاولة الفهم والتفسير إلى نمط آخر من التفكير وهو الاستدلال بوجود الشر على نفي الصانع أو نفي وجود الله سبحانه وتعالى، ومن ثم يخرج السؤال هنا عن مدلول طلب المعرفة إلى الاستنكار بهدف إيراد الشبهات.

لكن ذلك يجب ألا يمنع من التعامل معه بجدية بروية ومزيد من العقلنة، خصوصا حين تصدر مثل هذه الأسئلة عن جيل الشباب المعاصر الذي يحتاج إلى إجابات مقنعة تحترم أسئلته وطريقة تفكيره.

استشكل الفلاسفة وجود الشر، سواء في الطبيعة الكونية أم في الطبيعة الإنسانية، فصدور الشر عن الإنسان (أو الشر الأخلاقي) لا ينسجم مع فكرة كونه كائنا أخلاقيا، فكيف يمكن لكائن عاقل ومسؤول أن يتسبب في الألم لنفسه أو لغيره؟ فهذا الاستشكال يتصل بالإرادة الإنسانية ويفترض أن ثمة تناقضا ما بين إرادة الإنسان الحرة والأخلاقية وبين صدور الشر عنه، الأمر الذي يوجب البحث عن تفسير.

أما بالنسبة للشر الطبيعي أو المعزو إلى قوة عليا أسمى فإنه يثير تناقضا من نوع آخر، فكيف لصاحب الإرادة الخيرة والأسمى أن يصدر عنه الشر؟ وهذا نقاش يدور حول صفات الإله وإرادته.

أما علماء الكلام فقد واجهوا أسئلة وإشكالات تتصل بتفسير أفعال الله تعالى في الكون من جهة وأفعال الإنسان من جهة أخرى، وهذا يتصل بأفكار العدل الإلهي، والتكليف، وحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، والإيمان بالقدر خيره وشره، وسأوضح لاحقا المباحث المتصلة بمشكلة الشر من علم الكلام.

– كيف يصدر الشر عمن هو خير مطلق؟

يستبطن هذا السؤال وجود تناقض منطقي داخلي بين خيرية الله تعالى (بصفاته الحسنى) من جهة ووجود الشر في العالم من جهة أخرى، فالخير لا يصدر عنه شرور كما سبق.

– أين الله من هذه الشرور في العالم كالحروب والمجاعات والكوارث والظلم؟

يثير هذا السؤال إشكالا كلاميا وأخلاقيا يتلخص في أنه إذا كان الإله خيّرا وموجودا فلماذا لا يتدخل لإزالة الشر، بما أن علمه محيط بالموجودات وقدرته شاملة.

وقد دفع هذا الإشكال بعضهم إلى جعل وجود الشر دليلا على نفي وجود الله سبحانه وتعالى، بحجة أن وجود الشيء من دون لوازمه غير ممكن، فلو كان الله موجودا للزم أن يزيل الشر بقدرته وعلمه المحيطين وإرادته الخيّرة، ولو كان الإله خيّرا حقا لما رضي بهذا الظلم ولتدخل لنصرة المظلومين، ومن ثم فإن وجود الشر يستلزم عدم وجود الإله.

يمكن في الواقع رد الأسئلة الثلاثة السابقة إلى إشكالين مركزيين:

* الإشكال الأول يتصل بتصورات البشر عن الله تعالى أو صورة الله تعالى في أذهاننا، وهل مصدر هذه الصورة عقلي محض أم شرعي، خصوصا أننا نتحدث هنا عن مسائل ميتافيزيقية تتصل بعالم الغيب، وهل يمكن أن نخضع صورة الله تعالى لقوانين الإنسان ومعهوداته في المعايير والتقويمات؟ هل يجب على الله تعالى شيء، فضلا عن أن يخضع لقوانين العقل البشري وتقويماته؟ هنا يظهر الإشكال الكبير في تشبيه الله بخلقه أو قياس الخالق على المخلوق، الأمر الذي من شأنه أن يلغي الفوارق بينهما.

* الإشكال الآخر يتصل بتصوراتنا نحن البشر عن الإنسان نفسه وموقعه في هذا الكون، هل هو حاكم أم محكوم؟ وهل هو خالق أم مخلوق؟

ثالثا: مشكلة الشر في النقاشات التاريخية

قادت مشكلة الشر تاريخيا إلى ظهور جملة من الأفكار والمعتقدات التي حاولت تجاوزها بصورة أو أخرى، بل قادت بعضهم إلى إنكار وجود الصانع قديما، ومن تلك المعتقدات -مثلا- أن الثنوية قالوا بوجود إلهين للتخلص من مشكلة الشر، إله للخير وآخر للشر حتى يتجاوزوا ذلك التناقض المشار إليه سابقا.

وقالت المسيحية بفكرة الخطيئة الأصلية التي هي أصل الشرور، وفي الإسلام ذهب المعتزلة إلى القول إن العباد يخلقون أفعالهم، وبهذا ظنوا أنهم قد حلوا مشكلة الشرور الإنسانية، وذهب الأشاعرة إلى أن الله خالق كل شيء ولكن العباد يكتسبون أفعالهم، فميزوا بين الخلق والكسب (الفعل غير المؤثر)، لإثبات السببية والتأثير لله وحده.

والواقع أن مشكلة الشر هي صياغة حديثة لجملة من الأسئلة القديمة، فقد تم بحثها تاريخيا من مداخل مختلفة، أبرزها 4 مسائل كالآتي:

1- التحسين والتقبيح: فثنائية الحسن والقبح هي نفسها ثنائية الخير والشر، وهي تبحث في التقويمات الأخلاقية الكبرى ومصدر تحديدها.

2- علل الشرائع أو أسباب التكليف التي تحاول الإجابة عن سؤال: لماذا كلفنا الله وهو يعلم أن بعضنا سيكفر ومن ثم سيُعذب؟ وهو سؤال يتصل بإثبات الصانع من جهة، ولهذا قال القاضي عبد الجبار المعتزلي "للجهل بوجه التكليف تدرج الملحدة إلى نفي الصانع"، ويتصل بإثبات النبوات والحكمة من إرسال الرسل من جهة أخرى.ولهذا تعرض بعض الفلاسفة والمتكلمين لمناقشة هذه المسألة في سياق إثبات النبوات، ومن الإجابات المقدمة على السؤال عن علة التكليف أن مقصود الله تعالى من التكليف تعريض المكلف إلى درجة لا تنال إلا بالتكليف (المعتزلة)، وأن مقصوده تعالى استصلاح العباد في الدارين، وهو الجواب الذي ساد لدى عامة العلماء وبنيت عليه فكرة مقاصد الشريعة في ما بعد، بل إن من مقتضيات الحرية الإنسانية والاختيار أن يبين الله تعالى لعباده طرق الخير والشر {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.

3- مبحث الآلام: قال القاضي عبد الجبار المعتزلي "للجهل بوجه الآلام وقبحها ضل كثير من الناس، واعتقد بعضهم أن الآلام كلها قبيحة والملاذ كلها حسنة فقالوا بفاعلَيْن: فاعل للملاذ وفاعل للآلام".وقد بحث المتكلمون إيلام الأطفال وإيلام الحيوان أيضا، لأن ذلك يدخل ضمن الشرور ويثير أسئلة كلامية وأخلاقية.

4- ومما يتصل بمشكلة الشر كذلك البحث في خلق الأفعال والبحث في معاني الأسماء والصفات الإلهية ومقتضياتها كالرحيم، والجبار، والمنتقم.

توضح هذه المباحث أن مشكلة الشر تتصل بحقول علمية مختلفة، منها ما يناقش الجوانب النظرية التي تتصل بالتصورات حول الله والكون والإنسان، كعلمي الكلام والفلسفة، خاصة فلسفة الدين، ومنها ما يناقش جوانب عملية تتصل بسلوك الإنسان تجاه الشر كعلمي الفقه (الصلاة والدعاء والصدقة عند البلاء والمصائب والكوارث) والتصوف (كالبحث في الفضائل والتوبة ومقامي الصبر والرضا).

رابعا: استشكال الشر والمفاهيم الحاكمة لفهمه

تتلخص أوجه الإشكال في الأسئلة الثلاثة السابقة -التي شخصتُ من خلالها مشكلة الشر، وهي: لماذا يوجد الشر؟ وكيف يصدر عمن هو خير مطلق؟ وأين الله من هذه الشرور؟- في 6 أمور ألخصها في الآتي:

1- أن الأسئلة الثلاثة السابقة تفترض أن وجود الشر مطلق، وأنه خال من المعنى والمصالح، فهي تجزم بعدم وجود حكمة من وجود الشر الجزئي مع أن هذا غير ممكن، لأن الإنسان غير مؤهل للإحاطة بالصورة الكلية، ولذلك كان علمه قاصرا لا يحيط إلا بجزء من الصورة، ومن ثم يمكن التمييز نظريا على الأقل بين الشر المحض والشر المسوغ الذي ينطوي على مصالح (التداوي المستلزم للإيلام، العدل الذي يقود إلى القصاص، وغير ذلك)، فهو شر من جهة وخير من جهة أخرى أو جهات، ومن هنا فإن المفاسد لا تتمحض.

2- أن الأسئلة الثلاثة السابقة تفترض أن وجود الله مرهون فقط بوجود الخير، وهذا يقود إلى الجبر ونفي الحرية الإنسانية، فماذا عن إرادة الإنسان الحرة التي تقتضي إمكان فعل الشر واختياره ومن ثم وجوده أيضا؟ {فألهمها فجورها وتقواها}.

3- أن الأسئلة السابقة تهمل أن ما يحرك الإنسان ليس التفكير الفلسفي والعقلي فقط بل والانفعال أيضا الذي يقود إلى التسخط ومن يضعنا في مواجهة مسألتي الفضائل والرذائل للنفس الإنسانية، فمشكلة الشر ليست مشكلة فلسفية أو فكرية فقط، فثمة بعد نفسي وعاطفي مستتر وراء بعض الأسئلة حول الشر، خاصة من قبل من مسه الشر، ومثل هذا يجب أن يُحتضن ويُسرَّى عنه لا أن يناقَش فلسفيا.وقد أبرز القرآن الكريم الجانب النفسي بوضوح، ومن ذلك مثلا {إذا مسه الشر جزوعا}، {وإذا مسه الشر كان يؤوسا}، {وإذا مسكم الضر ضل من تدعون إلا إياه}، {وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض)، {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن}، {ومن الناس من يعبد الله علىٰ حرف ۖ فإن أصابه خير اطمأن به ۖ وإن أصابته فتنة انقلب علىٰ وجهه خسر الدنيا والآخرة}.

4- أن الأسئلة السابقة تتجاهل البعد الغيبي والإيماني، فالإيمان بالقدر خيره وشره أحد أركان الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالبعث والجزاء يحل كثيرا من هذه المشكلات، فاستشكال الشر وفق الأسئلة الثلاثة السابقة تمحور حول موازين الحياة الدنيا فقط، وافترض أن النجاح واللذة والسعادة الحقيقية إنما تكون في هذا العالم الدنيوي، وقد حاول القرآن باستمرار تفنيد ذلك ولفت النظر إلى أن الحياة الحقيقية والسعادة الحقيقية إنما هي في العالم الآخر، لأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان وليست دار بقاء، والنعيم المقيم هناك.

5- الشر نقيض الخير، وبضدها تتمايز الأشياء، فوجود الشر ضروري لإبراز وإدراك الخير نفسه، وإدراك الخير والشر معا ضروري للسعي نحو تكميل النفس ومجاهدتها، وهذا يكمل فكرة الاختيار والمسؤولية والجزاء، وهذه المبادئ هي ما جعل من الإنسان مكرما وكائنا أخلاقيا.

6- أن الأسئلة الثلاثة السابقة تتمحور حول لوم الإنسان للإله على ما يصيب الإنسان من شرور، في حين أن الإنسان يتحمل مسؤولية الجانب الأكبر من تلك الشرور في العالم، {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}، {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنىٰ هٰذا ۖ قل هو من عند أنفسكم}، ولهذا قلنا إن الشرور طبيعية (كالكوارث والزلازل ونحوها) وإنسانية (صادرة بفعل الإنسان المختار)، وحتى في الطبيعية فإن تصرفات الإنسان في الكون تتسبب في بعضها على الأقل (أخلاقيات البيئة تبحث في مسؤولية الإنسان عن الفساد والتحولات المناخية مثلا).

ولفهم معضلة الشر من المنظور الإسلامي لا بد من الإحاطة بـ3 مفاهيم كبرى في رأيي، وهي:

1- أن الشرور استثناء، فالأصل هو الخير، وقد قلنا: إن الخير متعلق بالوجود، والشر متعلق بالعدم، كما أن الشرور نسبية، فالآلام مثلا -وهي من الشرور- إنما تَحسن وتَقبح لا لذاتها.وقد أوضح القاضي عبد الجبار المعتزلي مثلا أن الآلام قد تكون للمكلف وقد تكون لغير المكلف، فالآلام التي للمكلف تَحسن بأن يكون لها عِوَض (ثواب)، وأن تكون للاعتبار (أي أخذ العبرة)، سواء كان هذا الاعتبار للمتألم نفسه أو لغيره أو له ولغيره جميعا، أما الآلام التي لغير المكلف فتَحسن بالعوض له وبأن يكون فيها اعتبار للمكلف.ويمكن الاستشهاد هنا بحديث "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" (رواه مسلم)، وقد ذهب أهل السنة إلى أن الله خالق كل شيء وفعال لما يريد، وهذا انعكاس علمه وقدرته ومطلق إرادته.ولهذا لا يَقبح من الله شيء، لأنه مالك الجميع ولا يجب عليه حكم في حق شيء، فلا يترتب عليه تعالى حسن ولا قبح، ولا يلزم أن يكون خالق الشر شريرا، فالشر مفعوله لا صفته كما قال الإمام ابن قيم الجوزية، ثم إن الشر لا يوجد ابتداء وقصدا، فالشر الطبيعي غير مقصود بالخلق، لأن له حِكَما ومسوغات وينطوي على خيور نافعات.والشر الإنساني (أو الأخلاقي) إنما هو نتيجة لأفعال العباد واختياراتهم، فالشرور ليست شرورا لذاتها بل إضافية، وهي شر بالنسبة لبعض الناس وليس بالمطلق، وبناء على ما سبق فإن الله تعالى لم يخلق ما هو شر من جميع الوجوه.

2- مفهوم الابتلاء والوجود الغائي، فالله تعالى خلق أصنافا من الخلق: صنف مجبول على الخير وهو الملائكة، وصنف مجبول على الشر وهو الشيطان، وصنف لا خير فيه ولا شر كالبهائم، وصنف جامع بين الخير والشر وهو الإنسان. وتكريم الإنسان إنما وقع لأجل أن لديه القدرة على الاختيار، ولذلك فإن الحياة نفسها والتكليف إنما وقع لأجل غاية كبرى هي الابتلاء، وهو مفهوم مركزي في القرآن والتراث الإسلامي {ونبلوكم بالشر والخير فتنة ۖ وإلينا ترجعون}، {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}، {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ۗ وبشر الصابرين}.وضمن هذا المفهوم الكلي للابتلاء يمكن أن ندرج الغاية من التكليف وهي استصلاح الإنسان، والعوض والجزاء حيث يتفاوت الناس بناء على أفعالهم واختياراتهم، وأن الابتلاء سبيل للتربية الأخلاقية أيضا، لأنه اختبار حقيقي للإنسان وامتحان لفضائله، خاصة فضيلتي الصبر والشكر عند الشرور والمصائب.

3- مفهوم الحرية الإنسانية والمسؤولية، والتي تعكس تكريم الله للإنسان كما سبق، وتقرر فكرتي المسؤولية والجزاء، وهما من أعمدة أي نظرية أخلاقية {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}، والله أعلم.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* معتز الخطيب: أستاذ فلسفة الأخلاق في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة. عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
الفرق بين اسطاعة وبين استطاعة
السابق
ألمانيا.. مسجد غوتينغن يتلقى رسالة تهديد تدعوا لقتل كل المسلمين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع