الدين أوسع من أحوال إيمانية بمعناها الكنسي (المقال الثامن)
بقلم: بدران بن لحسن
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
(اقرأ: المقال السابع- العلم أوسع من العلوم الطبيعية موضوعا ومنهجا)
أشرنا فيما سبق إلى هيمنة النموذج المعرفي الغربي على صناعة المعرفة والفكر في العالم المعاصر، كما أشرنا إلى إشعاع الحضارة الغربية على العالم، مما تسبب في انتشار مفاهيمها وتصوراتها وأنماط عيشها ونظمها على العالم، بفعل الحركة الاستعمارية الحديثة، والتطور التكنولوجي، ثم موجة العولمة و"الحداثة السائلة"[1]. وقد جلب هذا الأمر مشكلات في الفكر والعلم والعمل والحياة والاجتماع، ليس للمسلمين فقط بل للعالم كله.
ومن بين آثار هذا الإشعاع الغربي أن سرى مفهومه للدين على بقية الأديان، وتم تعميم النموذج المسيحي للأديان على بقية الاديان، فتم اختزال الدين في أحوال إيمانية[2] سلبية وانحصر الدين في الشأن الوجداني الخاص، ولم يعد له دور في الشأن العام وصياغة الحياة وتوجيهها، بل أنك تجد الإنسان المعاصر ينتسب إلى دين معين يمارس بعض طقوسه ويشعر بانتماء وجداني له، ولكن لا علاقة للدين بصياغة وعيه وفكره وعلمه وعمله ونظم حياته وبناءاته الثقافية والحضارية إلا قليلا.
وبالرغم من أن الفلاسفة المعاصرين ودارسي الأديان والحضارات، في الغرب بخاصة، تباينت تعريفاتهم للدين وتحديداتهم له، فإن غالبها الأعم اتخذ من المسيحية نموذجا لتناول الدين وقضاياه، سواء أجاءت في صورة مدح للدين أم في صورة انتقاص من شأنه؛ لذلك لا تعدو أن تكون ضمن المعنى المسيحي للدين. ولهذا لا يجد ماكسيم رودنسون حرجا في الاعتراف بذلك، حينما يؤكد أن الغربيين ميّالون بطبعهم إلى الحكم على جميع الأديان بحسب النموذج الذي اعتادوا على استعماله، وهو النموذج المسيحي[3].
ولهذا، فإنه كما لا يمكن اختزال ثراء وسعة العلم في العلوم الطبيعية، بل هو أوسع منها موضوعا ومنهجا- كما أشرنا في مقالنا السابق- فإنه لا يمكن اختزال الدين في أحوال الإيمان، وذلك كما يقول طه عبد الرحمن لوجود مبدأين يمنعان هذا الاختزال؛ أولهما "مبدأ تعدد شعب الحياة"، وثانيهما "مبدأ استكمال الشعبة".
- مبدأ تعدد شعب الحياة:
ويتبين هذا المبدأ من أن السؤال الذي يجيب عنه الدين هو بالذات: "كيف أحيا؟"؛ فيكون الأصل في الدين هو الحياة الطيبة، غير أن الحياة الطيبة ليست شعبة واحدة، وإنما شعب متعددة؛ وقد نُجمل هذه الشعب في ثلاث كبرى، وهي "شعبة الإيمان"، وتدخل فيها كل الاعتقادات؛ ثم "شعبة العلم"، وتدخل فيها كل المعارف؛ فـ"شعبة العمل"، وتدخل فيها كل الأفعال؛ ولا حياة طيبة إلا بتكامل هذه الشعب الثلاث فيما بينها، فالفرد لا يحيا بشعبة واحدة منها، إن إيمانا وحده أو علما وحده أو عملا وحده، ولا بشعبتين منها، إن إيمانا وعلما معا أو إيمانا وعملا معا أو علما وعملا معا، وإنما يحيا بها جميعا على قدر نصيبه من كل شعبة منها؛ وهكذا، فالدين أوسع من أن تستوعبه حال الإيمان وحدها[4].
فالدين جاء منهاجاً للحياة كلها لتحقيق الحياة الطيبة، كما جاء ليجيب عن أسئلة الإنسان الوجودية الكبرى عن الخالق وعن الكون وعن الحياة وعن المصير. وليس هذا فحسب، بل جاء الدين منهاجا ليعلم الإنسان ويفتح ذهنه للتدبر والنظر فيما خلق الله في هذا الوجود والتعرف عليه، وليقيم حياته وفق سنن الله في الهداية والآفاق والأنفس والتاريخ؛ عملا بتلك السنن، وتسخيرا لها، وتحقيقا لإنسانية الإنسان، وأداء للأمانة التي حملها الإنسان ولم تستطع السماوات والارض والجبال حملها وأشفقن منها.
فالدين ليس أحوالا إيمانية جذبية قاصرة، لأنه يغطي كل جوانب الحياة على تعدد مناشطها وجوانبها، ويصوغها كلها في وحدة تكاملية واحدة، فلا يعيش الإنسان التمزق بين أبعاد حياته المختلفة، ولا يعيش التناقض بين ما يعتقد ويتصور وبين ما يعلم ويعرف، وبين ما يعمل وينجز؛ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سورة النحل:97]، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنعام: 162].
فليس هناك اختزال، وليس هناك شأن خاص دون الشأن العام، وليس هناك انفراد للدين ببعد واحد في الحياة وانعزاله بها، وابتعاده عن الأبعاد الأخرى، بل إن الدين يستغرق حياة الإنسان كلها بتشعباتها وثرائها وتنوعها.
- مبدأ استكمال الشعبة:
وفي هذه يرى طه عبد الرحمن أن الأصل في كل شعبة من شعب الحياة الطيبة أن تطلب كمالَها، ولا تُحَصِّل هذا الكمال إلا بالتداخل مع الشعبتين الأخريين، ذلك أن كل شعبة تكون بها حاجات ولها تعلُّقات، ولا يمكن أن تُلبي هذه الحاجات وتُرضي هذه التعلقات إلا هذه أو تلك من الشعبتين الأخريين أو هما معا؛ فلا بد إذن لكل شعبة من أن تظل موصولة بغيرها من شعب الحياة؛ وهكذا، فالشعبة الواحدة لا تبلغ غاياتها وتكتمل حقا إلا بباقي الشعب[5].
إن هذا التكامل والتراتبية والاستمرارية وارتباط كل جانب من الحياة بالجوانب الأخرى يجعل مفهوم الدين أوسع مما يتم تسويقه في نموذجه الغربي[6] أو في النماذج الأخرى المشوهة والمحرفة والقاصرة، بل يجعل لجانب الاعتقاد في الدين أثرا بالغا في بناء بقية الجوانب، ذلك أن الاعتقادات تبني التصور وتؤسس لنظرة الإنسان للحياة والوجود والغيب، وعليها تبنى أعمال قلوبنا وأنفسنا وجوارحنا، ولكن كلا البعدين يقوم بناؤهما على شعبة العلم، التي تتسع لتشمل كل جوانب العلم؛ طبيعة وشرعا وإنسانا واجتماعا، أو بعبارة أخرى، فإن العلم في موضوعه يشمل علوم الشرع والطبيعة والإنسان والمجتمع، وفي مصدريته يتجاوز مجرد عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وفي منهجه لا يقف عند التجريب، بل يستند على إعمال العقل والنقل، ويعتمد الفهم والتأويل، كما يعتمد التجريب، وتسعى كلها إلى تحقيق اعتقاد صحيح وعمل صالح.
[1]هذا مصطلح استعمله الفيلسوف البولندي زيجمونت بومان، للدلالة على مرحلة ما بعد الحداثة في تفكك القيم والنظم وغياب مركزية صلبة توجه. أنظر: زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة: حجاج أبو جبر، مراجعة: هبة رؤوف عزت، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016.
[2] طه عبد الرحمن، كيف نفكر في الصلة بين الدين والعلم؟، ص39-40.
[3] عبد القادر بخوش، تاريخ الأديان، ص18
[4] طه عبد الرحمن، كيف نفكر في الصلة بين الدين والعلم، ص40.
[5] طه عبد الرحمن، كيف نفكر في الصلة بين الدين والعلم، ص40.
[6] Syed Muhammad Naquib al Attas, Prolegomena to the Metaphysics of Islam, Kuala Lumpur: Prospecta (M) SDN. BHD, 1995, pp.41-45