البحث

التفاصيل

القرآن والنقلة في الوعي الإنساني

الرابط المختصر :

القرآن والنقلة في الوعي الإنساني (المقال التاسع)

بقلم: بدران بن لحسن

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(المقال الثامن: الدين أوسع من أحوال إيمانية بمعناها الكنسي)

 

بناء على ما سبق تناوله في المقالات السابقة من اختلافات في الرؤى في موضوع "الصلة بين الدين والعلم" وأهمية نقد تلك الرؤى، والخروج من التقليد إلى الإبداع، فإن طريق الإبداع في ذلك هو الرجوع إلى القرآن الكريم وإعادة الاعتبار له في صياغة المفاهيم والعلاقات بين الدين والعلم، لأن القرآن يقدم بنائية مفاهيمية دقيقة؛ فكل مصطلح يدل على مفهوم محدد، وكل مفهوم يدل على الرؤية الكلية للقرآن التي أسست لمنظور جديد للحياة استكمل الجهد الذي قام به خط النبوة عبر التاريخ، ووضع أسس هذه الرؤية على قاعدة العلم، وقراءة وتسخير نواميس الكون[1].

وفي هذا السياق فإن تحديد مفهوم الدين والعلم والصلة بينهما في الاستعمال القرآني من الأهمية بمكان، لأنه يستعيد للقرآن هيمنته المعرفية ومصدريته ومركزيته المنهاجية. ولأننا نجد القرآن قد فسح لهما مساحة واسعة في آياته، ووفر لهما مادة معرفية مكثفة تنبئ عن أهميتهما وأهمية الصلة بينهما، كما أن لفظة "الدين" ولفظة "العلم" من الألفاظ المفتاحية في القرآن الكريم[2].

إن الرجوع إلى القرآن أمر بالغ الأهمية، لأن القرآن هو الكتاب الإلهي الذي أحدث نقلة في الوعي الإنساني، وغيّر مجرى تاريخ الإنسان، باهتمامه بالعلم وبوسيلته "القراءة" مفتاحا للعبادة والاستخلاف وعمارة الأرض وتحقيق العمران والتحضر، بكل ما تحمله "القراءة" من وسائل التعلم ونقل المعرفة والعلم، وتداوله، وتطويره، وتوظيفه، واعتماد المنهج العلمي في البناءات الفكرية والثقافية والاجتماعية وفي كل مجالات الحياة.

ذلك أن القرآن الكريم نقل الوعي الإنساني من التمركز حول الأساطير والقبليات والعصبيات إلى الاعتماد على الكلمة والعلم والقراءة. فالقرآن نص يحتوي حقائق لا يصل إليها الإنسان بطرق سحرية أو عشوائية، وإنما من خلال القراءة والتعلم.

وأول ما نزل من القرآن قوله تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق: 1-5]. وهي إشارة مهمة إلى أولية القراءة، وأهمية العلم، في بناء الدين والشرع، وإشارة إلى أن السبيل  إلى فهم وإعمال هذه المعجزة القرآنية هو فعل القراءة وطريق العلم، وليس الطرق المعهودة من قبل.

فالقرآن معجزة مقروءة انتقلت بالإنسان من معجزات الحس إلى معجزات الفكر والكلمة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: ﴿ما مِنَ الأنْبِياءِ نَبِيٌّ إِلّا أُعْطِيَ مِنَ الآياتِ ما مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ، عليه البَشَرُ، وإنَّما كانَ الذي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فأرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تابِعًا يَومَ القِيامَةِ[3].

ومع القرآن حدث انتقال من معجزات مؤقتة إلى المعجزة الدائمة؛ القرآن ذاته، الكتاب المعجز المفتوح للقراءة والتلاوة والتدبر، وفي هذا إشارة إلى دوام فعل القراءة؛ بمعنى أن المستقبل يبنى على القراءة: قراءة كتاب الله بمختلف أنواع القراءة، وقراءة كتاب الوجود الذي يوجه إليه القرآن الكريم.

كما أن القرآن يفتح أمامنا كتاب الكلمة وكتاب الوجود، لندرك أن سنن الهداية توجهنا إلى إدراك سنن الأفاق والأنفس والتاريخ، وأن سنن الأفاق والأنفس والتاريخ تدلنا على أن سنن الهداية حق، يقول تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة فصلت: 53]، ويقول تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة سبأ: 6].

إضافة إلى أن قصص القرآن يمثل استرجاعا لتجارب الأنبياء وتجارب البشرية، وعرض سنن قيام وسقوط وتغيير وثبات الأفكار والقيم والمجتمعات والأمم... وفي القرآن أيضا حديث عن حركة الكائنات وجريانها وتغيرها واختلافها. بل إن تلاوة القرآن وأوراده وتعهده بالقراءة والختم كلها طرق تجعل القراءة مركزية في حياتنا (عبادة، وفهما، وتدبرا، وتذوقا، وسياحة، وعبرة، ...). وبقراءة القرآن تتحقق لدينا المعرفة بأبعادها الثلاثة (الحق والخير والجمال)؛ إذ يجد فيه القارئ عناصر الحقيقة، ومبادئ الأخلاق وذوق الجمال[4].

كما أن قوله تعالى ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [سورة العلق: 3]، تدلنا بالاستقراء التاريخي على أن القارئين في العالم تاريخياً وجغرافياً هم الأكرمون كما يقول الأستاذ جودت سعيد، وهم المتحققون بالسيادة الحضارية ،كما تدل الأمثلة الواقعية في تبوء الأمم الأكثر قراءة سدة الحضارة وريادتها ،كالمسلمين في زمان تفوقهم الحضاري، واليابان اليوم وأمريكا وأوروبا الغربية[5].

فالنقلة النوعية التي أحدثها القرآن في الوعي، يمكن معرفتها من خلال النظر في تاريخ تشكل المجتمع الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم بهداية القرآن. فمع بداية تنزل القرآن اتجهت مشاعر العرب بادئ ذي بدء، إلى جرسه الأخاذ، وبيانه الذي لا عهد لهم بمثله من قبل. ثم إنهم سبقوا من خلال ذلك إلى الوقوف عند مضامينه، وتدبر معانيه، فكان في مقدمة المعاني التي استوقفتهم ولفتت أنظارهم، حديثه عن العلم وأهميته، وتقريره المتكرر بأن تعامل الإنسان مع الكون والحياة، لا يتم على وجهه الصحيح إلا بالعلم، وبأن أي تحول من ضعف إلى قوة ومن فقر إلى غنى ومن تدابر إلى ألفة لا يتم إلا بالعلم.

فكان أن جذبهم القرآن إلى العلم والاهتمام به. فالقرآن هيمن على مشاعرهم ببلاغته، ثم سرت معانيه إلى عقولهم بمنطقه وعقلانيته ... ثم اتجهت منهم الأنشطة إلى تحصيله؛ أي العلم، بكل الوسائل والأسباب. فكانت نقلة في الوعي، أدت إلى نقلة حضارية بالغة التميز والثراء. ولا زال القرآن يتضمن الإمكان نفسه، وينتظر المسلم ليحدث به نقلة جديدة تتجاوز سقف الوعي المعاصر وتنقذ الانسانية مما وقعت فيه من أوهام المادية وانتكاس الفطرة، والنزاع المفتعل بين الدين والعلم.

 

 

[1] طه جابر العلواني، التوحيد والتزكية والعمران: محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة، بيروت: دار الهادي، 2003.

[2]  عبد الله علي سمك، مدخل لدراسة الأديان، مكة المكرمة: دار الدراسات العلمية للنشر والتوزيع، 2013م، ص6.

[3] أخرجه البخاري في صحيحه، عن ابي هريرة رضي الله عه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة؛ والإمام مسلم في صحيح، كتاب الايمان.

[4] جودت سعيد، اقرا وربك الأكرم، ط2، بيروت: دار الفكر المعاصر، 1414هت/ 1993م، ص11-24.

[5]  المرجع نفسه، ص11.


: الأوسمة



التالي
الجمع بين الصلوات عند الحاجة

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع