الجمع بين الصلوات عند الحاجة
بقلم: عصام تليمة
من القضايا الفقهية التي يكثر فيها سؤال الناس: الجمع بين الصلوات، بسبب أعذار غير ما دون الفقهاء، فقد ذكروا أسبابا معينة، قد يتوافر بعضها، وقد لا يتوافر، وما يتوافر منها لا يتوافر بوصفهم في زمانهم، بل يتغير الوصف، لتغير البيئة والمناخ.
وكثيرا ما تصلني أسئلة حول الجمع بين الصلوات لظروف معينة، ليس منها المطر والسفر، وهي ظروف مهمة، ليست دائمة عند أصحاب هذه الأسئلة، لكنها متكررة، ومن يتعرضون للإجابة عنها -للأسف- يضعون الشروط التي وضعها الفقهاء لأعذار زمانهم، وكأنها أعذار دائمة، ولا يمكن أن يفتي المفتي إلا بناء عليها فقط، في حين أن الأعذار والمشقة في التشريع الإسلامي لا تدوم على شكل واحد، بل تختلف من زمان ومكان إلى آخر، وكذلك الأشخاص.
متشدد كاد يتسبب في كارثة بالمطار
ومن الحوادث التي لا أنساها، فهي نموذج فجّ للتشدد الذي ربما يؤدي إلى مصائب، أن كنت في فترة دراساتي الجامعية أطوف على المساجد خطيبا وملقيا للدروس الدينية، وكنت في بلدة من قرى محافظة الجيزة، ووجدت شخصا متدينا ينتمي لإحدى الجماعات الإسلامية الدعوية، كان متشددا بشكل لافت للنظر، وكان كثيرا ما يعترض على ما أقوله من آراء فقهية، وإن كان بأسلوب رقيق أحيانا، لكن يدل على سطحيته وجهله الفقهي.
سألت عنه، قالوا لي: لقد كان ذا رتبة في الجيش، ويعمل في أبراج مراقبة المطار، ولو ظل في الخدمة حتى الآن لأصبح قيادة كبيرة، ولكنه كاد يفصل لولا رحمة ورأفة رئيسه في العمل به، فقد كان في عمله في برج المراقبة الذي يحدد للطائرات على أي مدرج تنزل، بعد تلقيه الإشارة منها، وفوجئت إدارة المطار بأن قائد طائرة يرسل لهم رسائل متتابعة، وقد تخطى البرج إلى القيادة الكبرى، فسألوه عن الأمر، فقال: إنني أطير في أجواء المطار منذ دقائق، وأرسلت الإشارة لتحديد مكان هبوطي، ولم يأتني رد، فأدركوه بالجواب.
وفتحوا تحقيقا في الأمر، ليكتشفوا أن الضابط المسؤول لم يكن في مكان عمله، ولما سألوه عن تأخره عن الرد، قال: كنت أصلي، فأنا أحب أن أؤدي الصلاة على وقتها، ولما عاتبه مسؤوله في العمل قائلا: ألم يكن هناك فرصة لتؤخر الصلاة لوقت آخر، بدل أن تضع أرواح الناس في مهب الريح؟! قال: أأنتم أهم أم صلاتي؟! كان المسؤول رحيما، وأدرك أنه تشدد ودروشة، ولكنها لا تصلح في مكان كهذا، فأعطاه ورقة ليقدم على معاش مبكر، رحمة به وبأولاده، وتم ذلك.
وأستطيع أن أذكر مواقف من هذا القبيل لا نهاية لها، من مواقف أناس ظنوا أن باب التوسعة والرحمة في الشرع جامد لا يلين، وهو كلام ينطلق من جهل بالدين، وجهل برحمته وسعته، ويضيق على الناس واسعا، وينفر الخفيفي التدين من الصلاة، ويدفعهم أحيانا إلى التقصير فيها، أو الإهمال، لأنه يصعب عليهم بحكم عملهم الوظيفي أحيانا أن يصلوا كل فرض في وقته.
الرسول صلى الله عليه وسلم يرخص في الجمع
والنبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع مثل هذه القضايا بروح التخفيف والتيسير، ويعتبر حديثه الذي ورد في الموضوع حديثا قاطعا في الأمر، بل عمدة في الفتوى فيه، فقد رُوي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة من غير خوف ولا مطر فقيل له: ما أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته”. فالنبي صلى الله عليه وسلم تعمد هنا الجمع بدون الأعذار المعروفة للناس، وفتح لهم باب الرخصة والتيسير في مساحات أخرى مهمة في الحياة، قد تشق عليهم، وربما ترك التحديد في ذلك لضمير المسلم.
وقد حاول البعض صرف الحديث عن معناه الواضح، لكن كثيرا من الأئمة ردوا عليهم، ومنهم الإمام العيني الحنفي، حيث قال: “كل تأويل أَوَّلوه في هذا الحديث يرده قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته”، أي: أن الهدف من هذا الفعل واضح، والغرض منه هو نفي الحرج عن الأمة.
نماذج لحالات الجمع بين الصلوات
وما سنذكره الآن من حالات للجمع بين الصلوات، هو من باب ضرب المثال، ويمكن للإنسان المسلم أن يقيس عليها ما ينطبق عليه أيضا هذا المعيار، حتى لا نحصر الناس فيما ذكرناه من نماذج. فمن كان لديه عمل لا يستطيع الانصراف منه لصلاة الفرضين في وقتيهما، مثل: الطبيب الذي يكون في غرفة العمليات وتطول مدة عمله ساعات، وهنا حياة الناس تعرض للخطر، ومثل طبيب أو طبيبة التوليد، أو العناية المركزة في الحالات الخطرة. فكل عمل يحتاج الإنسان إلى الاستمرار فيه مدة يتعذر فيها أن يصلي كل فرض من الفرضين في وقته، يمكنه الجمع، تقديما كان أو تأخيرا.
وكذلك من كان عمله أيضا في مجال الطبخ، أو أشغال صعبة، ولا يمكنه مغادرة المكان. وهو ما جعل الإمام أحمد بن حنبل يرخص في ذلك لحالات ربما لا نراها في زماننا مجالا للرخصة، لكنه كان أوسع أفقا في فقهه، فقال بجواز الجمع في الحضر إذا كان من ضرورة، مثل مرض أو شغل.
ونقل الحنابلة قول أحمد: “هذا عندي رخصة للمريض والمرضع. فقد أجاز الجمعَ للمرضع، ولا ضرورة بها. قيل: بل عليها مشقة في التفريق؛ لأن الغالب من حال المرضع أن ثوبها لا يسلم من النجاسة، ففي غسله أو خلعه لكل صلاة مشقة.
فإن قيل: نقل محمد بن موسى بن مشيش: أنه قال: الجمع في الحضر إذا كان من ضرورة؛ مثل: مرض، أو شغل، فقد أجاز الجمع لأجل الشغل، وذلك ليس بعذر. قيل: أراد بالشغل: العذر الذي يجوز معه تركُ الجمعة والجماعات؛ من الخوف على نفسه، أو ماله".
فقد رخص ابن حنبل للمرضع في الجمع، لتعذر تغيير الثياب، وهي كما نرى ليست كمشقة أصحاب الأعمال الشاقة، أو التي تطلب من صاحبها الوجود فيها فترة طويلة مستمرة. وهو ما يمكن أن يسري على ظروف ومناسبات أخرى، كالطالب الذي يجري امتحانا، أو يحضر دروسا أو محاضرات ليلة الامتحان فترة طويلة، وهكذا.
صلاة المغرب والعشاء في الصيف الأوربي
وهناك حالة يعيشها المسلمون في أووبا في عدد من الدول، حيث تختفي عندهم علامات صلاة العشاء في بعض الدول، هذا من جانب، وهناك جانب آخر، وهو: قرب صلاة العشاء من صلاة الفجر، وبعد الفجر يكون عندهم عمل، والعمل في أوربا لا يراعي مواقيت الصلاة لا عند المسلم، ولا عند غيره، ولا يمكن للمسلم أن يقوم لصلاة العشاء.
وقد أفتى المجلس الأوربي للإفتاء، بعد نقاش حول الأمر، بما يلي: “جواز الجمع بين الصلاتين في أوربا في فترة الصيف حين يتأخر وقت العشاء إلى منتصف الليل، أو تنعدم علامته كليا، دفعًا للحرج المرفوع عن الأمة بنص القرآن. كما يجوز الجمع في تلك البلاد في فصل الشتاء أيضا بين الظهر والعصر لقصر النهار وصعوبة أداء كل صلاة في وقتها للعاملين في مؤسساتهم إلا بمشقة وحرج، وينبه المجلس على ألا يلجأ المسلم إلى الجمع من غير حاجة، وعلى ألا يتخذه له عادة".
حجة بعض من يرفضون الجمع بين الصلوات عند الانشغال، أو الأعذار المتكررة لدى الناس، أن الجمع الدائم هو من فقه الشيعة وعادتهم. ولم يفت أحد من الفقهاء ممن يرون الجمع لأصحاب الأعذار والمشاغل، بأن يكون ذلك ديدنا، بل كلما وجد السبب أخذ به، ومع ذلك فهنا نقطة مهمة، وهو ألا نرفض أي رأي فقهي، لعلة أن الشيعة قد قالوا به، فهذا كلام يصلح في سياق الاحتجاج والمناظرات، وليس في سياق إفتاء الناس في أمر يعسر عليهم، ويضيق عليهم في حياتهم، ولدينا نص نبوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف أحد في صحته.
وكم من آراء فقهية كانت سائغة ومقبولة، بل قوية، استفدنا منها من الفقه الشيعي، فمعظم قانون الوصية في مصر مستقى من المذهب الشيعي، وبخاصة الوصية الواجبة، وقضايا أخرى كثيرة، ولا يتسع المقام للتفصيل فيها، والمهم في المسألة النصوص والأدلة، بغض النظر عن المذهب الذي أفتى بها، فنحن نتعبد بالدليل الصحيح، بغض النظر عمن يتبناه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
* عصام تليمة؛ من علماء الأزهر، حاصل على الدكتوراه في الفقه المقارن، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين