الأسرة وسط الأعاصير (1) في الطابع الحضاري لمعركة الأسرة
بقلم: د. سعد الدين العثماني
كثيرون يظنون أن التحولات في مكانة الأسرة وموقعها ووظائفها في المجتمعات الغربية تحولات عفوية طبيعية، بل يظن البعض أنها بريئة ولا تشكل مخاطر كبيرة مهددة للإنسانية.
والواقع ان كثيرا من المفكرين وعلماء الاجتماع والسياسيين الغربيين نبهوا مبكرا إلى خطورة هذه التحولات وإلى جذورها الفلسفية، باعتبار ما تشهده الأسرة نتاج توجهات فلسفية ونظرية تسير عمدا وبسبق إصرار للقضاء على الأسرة.
لكن على الرغم من كثرة صرخات عقلاء الغرب من مختلف الديانات والثقافات والأيديولوجيات، إلا أن التحولات تسارعت، ولا تزال متسارعة نحو مستقبل مجهول. وكثرت الدراسات التي تحمل عناوين مثل تفكك الأسرة، وأزمة الأسرة، وموت الغرب طيلة العقود الأخيرة.
وصدرت تقارير شبه رسمية عديدة تدق ناقوس الخطر فيما يقع. ومنها دراسة قام بها باحثون إسبان حول تدهور الأسرة بوصفها مصدرا للرأسمال الاجتماعي في دول الاتحاد الأوروبي. وناقشوا العديد من المؤشرات التي تدل على هذا التدهور، ووضعوا اليد على التراجع الكبير للاهتمام بالأسرة في السياسات الأوربية. فعلى الرغم من أن النمو السكاني في عموم الاتحاد الأوروبي لا يزال في تزايد، إلا أن عددا من المؤشرات تشير إلى “نضوب الرأسمال الاجتماعي”، والسبب في ذلك حسب الدراسة “أن الأسرة يتم تجاهلها بشكل متزايد كعنصر من عناصر التماسك الاجتماعي والتنمية”[1].
وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قد قال سنة 1983 بصراحة[2]: “من الواجب رفض انهيار فرنسا الذي يندرج ضمن انهيار الأسرة”[3].
كما وصفت عالمة الاجتماع الأمريكية بريجيت بیرجي في كتابها “الحرب على الأسرة” مختلف الاتجاهات التي صنعت في رأيها أزمة الأسرة، مؤكدة أن الأمر يتعلق بتوجه “أيديولوجي” مصر على تفكيك الأسرة. تقول بالحرف:
“بحلول منتصف ستينيات القرن العشرين بدأت حملة لأكبر عملية زيف لما أسموه ب “الأسطورة العاطفية للأسرة”، وشارك في حملة الهدم هذه تيارات سياسية وأيديولوجية مختلفة هي:
– اليسار الجديد الذي كان مهتما بتمجيد العمل العام ضد كل أشكال الحياة الخاصة، وإعادة النساء إلى مجال العمل، وتربية الأطفال في مؤسسات جماعية، وإشاعة الحرية الجنسية.
– الحركة الأنثوية التي ترغب في تحرير المرأة من أسر الحياة المنزلية، ومناهضة نظام الأسرة البرجوازية القائمة على الخصوصية والاهتمام بالأطفال.
– السكانيون الذين يناهضون نظام الأسرة لكونه سببا في التكاثر السكاني.
– المؤسسات المهنية المدعومة من قبل الحكومة، وتهتم بالترويج لعدم كفاءة الأسرة في توفير الخدمات لأفرادها وتطالب أن تكون هي البديل”[4].
وهذا يبين أن أزمة الأسرة ليست بسيطة أو عابرة، بل تؤشر على تحولات عميقة، تشمل تغيرات جوهرية في القيم العائلية وفي بنية الأسرة. كما أن تلك الأزمة ليست إلا انعكاسا للأبعاد الفلسفية السائدة لدى التوجهات السائدة في الغرب اليوم.
إن الحقائق السابقة تؤكد الطابع القيمي والحضاري للموضوع. لقد أدت التحولات المتسارعة إلى احتكاكات ثقافية وحضارية بين النموذج الغربي من جهة وعدد من النماذج الثقافية والحضارية الأخرى عبر العالم. ونستحضر هنا أطروحة صدام الحضارات لصمويل هانتغتون التي دونها في مقالته الشهيرة سنة 1993م، والتي يذهب فيها إلى أن التماسك والتفكك والصراع في عالم ما بعد نهاية الحرب الباردة لم يعد ذا طابع أيديولوجي أو اقتصادي، بل أضحى ذا طابع “ثقافي”، وهو ما يؤشر عليه ارتفاع ثقافات أو حضارات عظيمة عبر العالم. وأكد أن العالم سينحصر في الحضارة الغربية وبعض الحضارات غير الغربية الأخرى. ليستخلص أن “خطوط التماس بين الحضارات هي خطوط الصراع في المستقبل”، وأن هذا الصدام بين الحضارات سيكون آخر مرحلة من تطور الصراعات في العالم المعاصر.
لكن ما هي الأسباب التي يقدمها هانتنغتون لتفسير كون الصراعات القادمة صراعات حضارية على طول الحدود الثقافية التي تفصل بين الحضارات؟ إنه يقدم ستة أسباب، واستعراضها يفيد في فهم نسبي لجزء مهم من التفاعلات على المسرح العالمي.
السبب الأول هو أن الاختلافات بين الحضارات كبيرة جدًا، فهي نتاج قرون من التطور، وهي أساسية لأنها تؤثر على التاريخ والثقافة والدين واللغة. لذلك فهي ليست مرشحة للاختفاء.
السبب الثاني هو أن الحضارات أصبحت أكثر وعيًا بذاتها واختلافاتها بسبب زيادة التفاعلات بينها.
السبب الثالث هو التحديث الاقتصادي الذي أضعف الهويات المحلية والوطنية، وأصبحت الهويات الثقافية الكبرى والدين أكثر حضورا من أي وقت مضى.
السبب الرابع هو ازدياد الوعي الحضاري للحضارات غير الغربية المصممة على مواجهة الغرب وهو في أوج قوته.
السبب الخامس هو أن الخصائص والاختلافات الثقافية لا يمكن أن تتغير حقيقة، على عكس الخصائص السياسية والاقتصادية.
السبب السادس هو تطور الجهوية الاقتصادية التي تقوي من الوعي الحضاري، خاصة إذا كانت جزءًا من حضارة مشتركة.
ومن الأمور المهمة في أطروحة هانتغتون هي قوله إن الجزء الأكبر من الصراع بين هذه الحضارات هو صراع الأفكار والقيم، وخصوصا أن “القيم الأكثر أهمية في الغرب هي الأقل أهمية في باقي أنحاء العالم”، ولذلك فإن “التحديث والتغريب لا يعنيان الشيء نفسه” «Modernization is not the same as Westernization»، والحضارات الأخرى تحاول أن تكون حديثة دون أن تصبح “غربية”[5].
وفي الكتاب الذي أصدره هانتغتون سنة 1996م بنفس العنوان، يتحدث عن أن ردود الفعل على الحضارة الغربية ثلاثة أنواع:
الأول قبول التحديث والتغريب،
الثاني رفض التحديث والتغريب معا،
الثالث محاولة الجمع بين التحديث والحفاظ على القيم والممارسات والمؤسسات الأساسية للثقافة الأصيلة الخاصة بالمجتمع المعني، أي رفض التغريب[6].
وفي سياق هذا الخيار الثالث يذهب إلى أن الغرب يشهد تراجعا حضاريا وتشهد الأديان صعودا ملحوظا على عكس توقعات بعض النخب الغربية في مراحل سابقة. وهذا الرجوع للدين – حسب هانتغتون – ليس رد فعل على الحداثة، بل هو رفض للتغريب وعلمانيته، ونسبيته الأخلاقية وفردانيته، والتي هي قيم خاصة بالغرب. إنه في الحقيقة أقوى مظهر من مظاهر معارضة الغرب في المجتمعات غير الغربية، وإعادة تأكيد قيم النظام والانضباط والعمل والتعاون والتضامن الإنساني[7]. وفي المقابل يشير هانتنغتون إلى أن من أهم مظاهر تدهور الغرب: التدهور المعنوي Le declin moral، والذي يشمل من بين أمور أخرى: تدهور الأسرة.
وقد صدرت العديد من المواقف المنتقدة لنظرية هنتنغتون، لكن بعض المنتقدين يتبنون في الوقت نفسه وبطريقة ما إطارها العام. فالمهدي المنجرة مثلا وإن انتقد مقولة “صدام الحضارات”، وتحدث بدلها عن حوار الحضارات، لكنه قد يكون أول من كتب عن الحرب الحضارية الأولى (غزو العراق 1991م) وعن الحرب الحضارية الثانية (غزو العراق 2003) ويستعمل عبارات مثل: الاستعمار الحضاري وحروب القيم في توصيف ما يقع[8].
وإذا نظرنا إلى التطورات في العقود الأخيرة بعد نشر هانتنغتون لأطروحته – وفي قضية الأسرة بالذات –، يظهر بجلاء صحة ما تنبأ به هاتنغتون. ويتأكد وجود إرادة قوية لمحو الفوارق بين الثقافات والحضارات، وسحق المخالفين، وإن اقتضى الحال استعمال كل أساليب الضغط والعنف. وهي الخلاصة التي انتهى إليها منذ حوالي ربع قرن الدكتور المهدي المنجرة، في تحليله لطبيعة العولمة في كتابه “قيمة القيم”، حيث يقول: (تتشبع “العولمة” وتتغذى من العجرفة الثقافية التي تمتاح أصلها من الجهل واللامبالاة تجاه أنساق قيم أخرى وتجاه حقها في الوجود، ويؤدي هذا بشكل تدريجي وفعلي إلى نزعة ثقافية تسلطية عالمية: “افعل مثلي إن كنت تتشبث بحقك في الوجود”).
***
[1] – Alfredo Rodríguez Sedano and all : The Decline of the Family as a Source of Social Capital in the EU: Some Indicators, educ.educ., diciembre 2009, volumen 12, número 3, pp. 161-177
[2] – « Refuser le déclin de la France qui s’inscrit dans le déclin de la famille »
[3] – انظر خطاب الرئيس ميتران على موقع رئاسة الجمهورية الفرنسية:
https://www.elysee.fr/front/pdf/elysee-module-5625-fr.pdf
[4] – Berger, Brigitte and Peter, The War over the Family, Anchor Press/Doubleday; First Edition, 1983, p. 73.
[5] – HUNTINGTON (S.): «The Clash of Civilizations ?», Foreign Affairs, [on ligne], Summer, 1993,
Vol. 72 (n° 3), pp. 22-49, https://www.jstor.org/stable/20045621, accessed april 2023.
[6] – HUNTINGTON (S.) : Le Choc des Civilisations, Éditions Odile Jacob, Paris, 1996, p. 77
[7] – idem, p. 108
[8] – انظر مثلا كتابه: الإهانة في عهد الميغا إمبيريالية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2004