البحث

التفاصيل

الحق التاريخي للمسلمين في المسجد الأقصى المبارك وبيت المقدس

الرابط المختصر :

الحق التاريخي للمسلمين في المسجد الأقصى المبارك وبيت المقدس

بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي

 

بمعجزة الإسراء والمعراج وبجعله القبلة الأولى للمسلمين ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الأقصى المبارك وبين المسجد الحرام ربطاً عقائدياً مصيرياً ، فيه لفت لنظر المسلمين أن ضياع أحدهما ضياع للآخر ، بل ضياع لمقدسات الإسلام جميعها ، فارتبطت هذه المدينة المقدسة بالإسلام ، وارتبط المسلمون بها أكثر مما ارتبطوا بأية مدينة أخرى بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة ، لذا فهي تتمتع بمركز روحي وتوحيدي لهم ، وتتبوأ مكانة خاصة في عقيدتهم وتاريخهم وتراثهم ، وكان هذا الربط مقصوداً، فكان من الممكن أن تتم رحلة المعراج من مكة المكرمة إلى السماوات العُلا ، لكن حكمة الله اقتضت ان تكون هذه الرحلة السماوية من رحاب المسجد الأقصى المبارك ومن أرض بيت المقدس.

لذا فقد أولى خلفاء الأمة وحكامها وقادتها وجُنْدُها هذه المدينة المقدسة وأرض فلسطين المباركة بالرعاية والحماية والحراسة ، وأولاها من بعدهم المسلمون كافَّة بالتقديس والتكريم حتى استقرت في قلوبهم وضمائرهم ، فرووها بدمائهم وسيَّجُوها بأرواحهم ، وعلى مر التاريخ ما تعرضت مدينة القدس أو مسجدها الأقصى المبارك يوماً إلى غزو أو احتلال أو مساس إلاَّ وهبت الأمة لتحريرها ورد العدوان عنها ، فكانت دوماً من أبرز عوامل توحيد الأمة واجتماعها ، واعتبروا التخلي عنها تفريطاً في العقيدة لا يمكن أن يصبروا عليه لأنه طعنٌ لهم في عزتهم وكرامتهم ومظهرٌ لهوانهم.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك أن بداية القرن العشرين الماضي شهدت ثورة البراق في عام 1929م التي انطلقت من أجل المسجد الأقصى المبارك، وهي أول ثورة ضد محاولة فرض الوجود اليهودي الباطل فيه ، وأن مطلع القرن الحادي والعشرين الحالي أيضاً شهد انتفاضة وثورة تواصلت لسنوات وابتدأت في عام 2000م ضد اقتحام السفاح شارون للمسجد الأقصى المبارك.

إن آيات القرآن الكريم وبالأخص مطلع سورة الإسراء عن المسجد الأقصى المبارك وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكانته وفضل الصلاة فيه ، بشَّرت الأمة بأن فتح القدس سيكون للإسلام وللمسلمين ، وهذا ما كان بالفعل ، فقد فتحت القدس روحياً بمعجزة الإسراء والمعراج ، وأما الفتح الحقيقي فكانت بدايته بالفتح العمري الذي كرّس هويتها ورسّخ طابعها الإسلامي العميق العريق ، فقد فتحت دون أن تراق فيها قطرة دم ، واشترط بطرقها صفرونيوس تسليم مفاتيحها للخليفة نفسه، فخرج أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إليها في رحلة تاريخية مثيرة ، وتسلم مفاتيحها دون غيرها من المدن التي فتحت في عهده ، وعقد مع أهلها اتفاقية الأمن والسلام " العهدة العمرية " المعاهدة التي مثلت أساساً للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين في هذه الأرض ؛ والتي ما زالوا يسيرون على هداها حتى اليوم ، فقد أمَّنهم فيها على عقائدهم ومعابدهم وشعائرهم ورموزهم ، وأمنهم على أعراضهم ودمائهم وأموالهم ، وتعهد لهم بعد إصرارهم ألاَّ يُساكنهم فيها أحد من اليهود ، وشهد على وثيقتها عدد من الصحابة.

وعقب قرون من الاستقرار في ظل دولة الإسلام شهدت مدينة القدس وفلسطين أياماً عصيبة وليالٍ سوداء باحتلال الفرنجة قاربت قرناً من الزمان ، عانى فيها المسلمون المرارة والبلاء والألم وارتكبت ضدهم أبشع المذابح ، فقد بلغ عدد من ذبحوا في ساحات المسجد القصى المبارك سبعين الف مسلم، فتولَّد لديهم الأمل والتلهف لاسترجاعها والجهاد من أجلها ، فتحولت هذه المدينة ذات الحرمة الإسلامية البالغة بعد احتلالها إلى رمز للجهاد والتحرير.

نزح مسلمو القدس مع من نزحوا عن بلادهم من المدن الشامية الساحلية تحت ضغط المذابح التي ارتكبها الفرنجة ، واستقبلهم نور الدين زنكي في دمشق وقرّب علماءهم ، فثابروا على مساندة الجهاد وشاركوا في جيش نور الدين ومن بعده صلاح الدين الأيوبي ، الذي حررها منهم في ذكرى الإسراء والمعراج عام 583 للهجرة بعد موقعة حطين ، فلمّا أكرمه الله بالنصر والعزة والتمكين لم ينتقم من الغزاة ولم يعاملهم بالمثل ؛ بل استحضر قول الله تعالى { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } النحل 126 فخيّرهم بين العودة من حيث أتوا أو البقاء في ظل رعاية الإسلام وسماحته ، مما يؤكد بالدليل التاريخي الجليّ أن المسلمين على مر الأيام هم المؤهلون للسيادة على الأرض وحماية الإنسان والمقدسات في فلسطين وفي غيرها.

ولنا أن نستذكر قصة منبر صلاح الدين لإنقاذ القدس من احتلال الفرنجة ، والقصة بدأت بعماد الدين زنكي الذي أسس لتحرير بيت المقدس بوضع خطط استراتيجية تقوم على الإصلاح الاجتماعي والفكري والسياسي في العالم الإسلامي الضعيف نظراً للتفكك العميق فيه نتيجة الصراعات بين حكامه ، ثم خلفه ابنه نور الدين زنكي الذي سار على درب والده فمهّد لتحرير بيت المقدس ؛ حيث أمر ببناء منبر المسجد الأقصى المبارك ليوضع فيه يوم التحرير ، فلما تم إنجازه بعد وفاة نور الدين حمله صلاح الدين وطاف به البلاد الإسلامية لاستنهاض همتها الجهادية ولجمع كلمتها وتوحيد صفها ، وهذا ما كان بالفعل ؛ فقد تحررت القدس واكتملت فرحة الأمة بتطهير المسجد واسترداده من براثن الغزو والاحتلال ، ووضع المنبر في مكانه وألقيت من عليه خطبة الجمعة.

ولكن بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي عادت مدينة القدس لقبضة الفرنجة مرة أخرى بعد أكثر من أربعين سنة على تحريرها ، إلا أنها تحررت ثانية في رمضان من العام 658 للهجرة نتيجة معركة عين جالوت بقيادة المظفر قطز ، فكانت هذه شاهداً آخر على قيام الأمة بفريضة تحرير بيت المقدس وتخليصها من براثن الأعداء ، ثم إن فلسطين وبلاد الشام تحررت نهائياً على يد الأشرف خليل بن قلاوون من الوجود الفرنجي بعد فتح عكا في العام 690 للهجرة وطويت بذلك صفحة الحروب الصليبية في شرق العالم الإسلامي بعد امتدادها لقرنين من الزمان.

وفي التاريخ المنتظر الذي ستنتهي في إثره الحياة الدنيا، ستكون مدينة القدس أرضه ومسرحه.

ويبدأ ذلك بسيطرة الكفر وانتصاره وانتشاره في آخر الزمان ، فتكون القدس يومها ملاذاً للناس وعصمة ، ففيها خلافة المهدي ، قال صلى الله عليه وسلم في حديثه عن خروج الدجال: {... فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات..، قيل يا رسول الله فأين العرب يومئذ ؟ قال: هم يومئذ قليل وجُلُّهم ببيت المقدس ، وإمامهم المهدي رجل صالح منا أهل البيت..} رواه ابن ماجه، وفيها ينزل سيدنا عيسى عليه السلام ويصلي بإمامة المهدي في بيت المقدس فيتبعه المسلمون المؤمنون لزوماً، فإذا ما خرج الدجال على الناس في فتنته الكبرى وشايعه اليهود وغيرهم يحرّمها الله عليه فلا يدخل مسجدها ، قال صلى الله عليه وسلم في ذلك: {...وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس ، وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس فيزلزلون زلزالاً شديداً...} رواه الترمذي والحاكم في المستدرك.

وفي مدينة القدس أيضاً ستكون نهاية الدجال حيث: {يخرج إليه شرار أهل المدينة حتى يأتي فلسطين بباب لُدٍّ فينزل عيسى عليه السلام فيقتله} رواه أحمد، وينهي طغيانه وعجرفته وفساده، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً. أما نهاية من شايعه من اليهود فتكون على أيدي المسلمين، فسيتوارَوْن وراء الشجر والحجر فينطق كلٌّ منهما دالاً على أعدائهم بلسان الحال أو المقال ، قال صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلاَّ الغرقد فإنه من شجر اليهود } رواه مسلم.

وفي مدينة القدس سيكون مهلك يأجوج وماجوج أعظم الأمم إفساداً في الأرض ، فسيخرجون على الناس ويسيرون حتى ينتهوا إلى جبل بيت المقدس - كما روى مسلم في صحيحه - ويخرّبون ثروات الأرض ويشربون ماءها ويكونون مصدر تهديد ، حتى إن سيدنا عيسى عليه السلام والمسلمون معه يَتَحَصَّنُون منهم ، فيتضرعون إلى الله بالدعاء ، فتهلك يأجوج ومأجوج..

فالقدس التي نُكِبَت منذ الفتح الإسلامي بكارثة احتلال الفرنجة وحروبهم الصليبية تحررت منها على أيدي أبنائها المخلصين المؤمنين ، وهي ذاتها التي نكبت حديثاً بكارثة الاحتلال الصهيوني الغاشم والتي ستتحرر منها أيضاً على أيدي أبنائها المخلصين المؤمنين ، وستندثر هذه الكارثة كما اندثرت تلك ، استمرت نكبة الفرنجة قرنين لكن جحافلها لم تتمكن من إثبات وجودهم في مدينة القدس وفلسطين إلاّ بمحاولة العمل على تدمير الوجود الإسلامي فيها ، ومهما طالت نكبة الصهاينة في القدس وفلسطين فلن تثبت وجودها في القدس وفلسطين إلا بمحاولة العمل على تدمير الوجود الإسلامي فيها أيضاً ، لذلك فهي لا تتوانى في محاولاتها الفاشلة لتغيير التراث الفكري والحضاري للقدس بهدف تهويدها ، وأين هذا السلوك من منهج الإسلامي الذي فتح القدس:

فبينما حرّم الفرنجة على المسلمين دخول القدس أو ممارسة شعائرهم التعبدية فيها، وصادروا الأماكن الإسلامية المقدسة وبالأخص المسجد الأقصى المبارك الذي حولوا قسماً منه معسكراً والقسم الآخر اسطبلاً ، وبينما حاول الصهاينة بعد احتلال القدس عام 1967م تهويدها المنهجي بكل الوسائل الممكنة ، فإن العرب المسلمين الفاتحين لم يهدموا كنيسة ولم يحاولوا أَسْلَمَتَها ! ولو وجدوا يوم الفتح العمري فيها كنيساً لليهود لما اعتدوا على هويته، بل لحافظوا عليه كما حافظوا على كنيسة القيامة وعلى هويتها.     

لقد حفظ الله سبحانه وتعالى مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك وكل ما حوله من الأرض المقدسة من كل الغزاة والمحتلين على مر التاريخ، وإننا موقنون بإيماننا الراسخ بأنه عز وجل سيقيض لها من أهلها المرابطين ومن ذرياتهم ومن أبناء الأمة المسلمة من يحميها ويحررها من جديد كما في كل مرة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، قاضي قضاة فلسطين، رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 





التالي
المسلمون الروهنجيا وحلم العودة من الشتات

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع