فقيدُ الجيل .. الدكتور عبد المنعم الهيتي
بقلم: الدكتور سعد الحلبوسي[1]
هو فقيد الجيل, وعلم من أعلام الأمة الإسلامية، وكوكب من كواكب الهداية في سمائها، وركن من أركان العلم في عصرنا، وبرحيله ثلم في بنيان الأمة ثلمة لا تسد حتى يقوم مقامه عالم غيره, فهو بحق موسوعة فقهية تمشي على الأرض, وداعية من طراز فريد, كانت له البصمة الكبيرة في تنشأة أجيال من المسلمين داخل العراق وخارجه, وبلغت شهرته آفاق الدنيا, فنعاه كبار العلماء والمفكرين في العالم الاسلامي لجهوده المتميزة في نشر العلم والدعوة, وكان لي شرف معرفته وصحبته منذ واحدٍ وعشرين عاماً, عندما دخلت الجامعة في مرحلة البكالوريوس, وتربطني به وبأولاده علاقة خاصة, (وبالخصوص أخي وزميلي الحبيب الوقور الدكتور زيد الذي عرفته في بداية دخولي الجامعة فهو من اقراني عمراُ ودراسةً وزمالة).
نشأته وسيرته العلمية:
ولد الأستاذ الدكتور عبد المنعم خليل إبراهيم هادي الهيتي -رحمه الله تعالى- سنة (1949م) في مدينة هيت، بمحافظة الأنبار في العراق، ودرس الدراسة الأولية في مسقط رأسه، ثم حصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية والآداب من كلية الدراسات الإسلامية ببغداد سنة (1973م)، ثم حصل على الماجستير من كلية العلوم الإسلامية بجامعة بغداد سنة (1990م)، وكان عنوان رسالته: (حماد بن أبي سليمان وأثره في الفقه الإسلامي)، بإشراف الأستاذ الدكتور منير حميد البياتي -حفظه الله-، ثم حصل على شهادة الدكتوراه من الكلية نفسها عام (1996م)، وكان عنوان أطروحته: (أحكام المريض في فقه العبادات وقضايا الأسرة)، بإشراف الأستاذ الدكتور محمد عبيد الكبيسي -حفظه الله-، ثم تدرج في الرتب العلمية إلى أن حصل على درجة الأستاذية سنة (2013م).
أبناؤه وأهله:
متزوج من زوجتين, وقد سافر بهما الى الحج متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم: (خيرُكُم خَيرُكُم لأَهْلِهِ وأَنا خيرُكُم لأَهْلي) (الترمذي : 3895), وله خمسة من الابناء (الدكتور عمر, والدكتور زيد, وأنس, وبكر, ومحمد) وله بنتان اثنتان, وكلهم على طريقه سائرون, وتظهر تربيتهم لكل من له صلة بهم, ولعلّهم من الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له) (صحيح مسلم : 1631), وله أربعة إخوة وهم (إسماعيل, أمين, ياسين, أديب) وله من الأخوات خمسٌ, ومجموعهم عشرة, وتسلسله بينهم الخامس, ويذكر عنه أهله أنه كان رحمه الله واصلاً لرحمه, متفقداً لأحوالهم, يقدمهم على نفسه في كثيرٍ من الأحيان, حتى نعاه قريبه وصهره أبوعبيدة بهجت بقوله: (هل يفقد الرجل أباه مرتين؟!!) وهكذا كان فقيدنا بين أرحامه وأقاربه, أبا وأخا وشيخاً ومربياً, وعطوفاً على من حوله.
في عمله الوظيفي:
عمل -رحمه الله تعالى- معاونًا قضائيًا في محكمة جنايات الأنبار بين سنتي (1974-1994م)، ثم مدرسًا في جامعة صدام للعلوم الإسلامية (الجامعة الإسلامية)، وتدرج فيها بالمناصب؛ فاختير مقررًا لقسم الفقه وأصوله للسنوات (1997-2001م) ثم رئيسًا له للسنوات (2001-2003م)، ثم عميدًا لكلية الشريعة بين سنتي (2003-2013م)، بعد تغيير اسم الجامعة إلى (الجامعة العراقية) وبقي مدرسًا فيها حتى إحالته على التقاعد سنة (2014م)، وواصل التدريس بعد ذلك محاضرًا في كلية الإمام الأعظم الجامعة إلى أن أقعده المرض.
في المجامع والمحافل العلمية:
اختير -رحمه الله- رئيسًا للجنة عمداء كليات العلوم الإسلامية في العراق بين عامي (2010–2013م)، وعضوًا في مجلس الأوقاف الأعلى بديوان الوقف السني للسنوات (2010-2022م)، ثم عضوا في المجلس العلمي المركزي بديوان الوقف السني, وعضوا في لجنة تنقيح كتب التربية الإسلامية بوزارة التربية والتعليم سابقا, وعضوا في اللجنة العلمية بكلية الإمام الأعظم الجامعة. فضلًا عن عضويته في المجلس التأسيسي لهيئة علماء المسلمين في العراق، ثم في مجلس شوراها، ثم في أمانتها العامة للسنوات (2008-2019م), ثم عضوا في الهيئة العليا للمجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء للدعوة والإفتاء, وعضوا في لجنة الفتوى في المجمع الفقهي.
من إسهاماته العلمية:
للفقيد إسهامات علمية مهمة؛ حيث درَّس خلال سنوات عطائه العلمي مواد: التلاوة والتجويد، وفقه الحديث، والأحوال الشخصية، والفقه المقارن، وأصول الفقه، وفقه البيوع، وأحكام الميراث، وشرح قانون الأحوال الشخصية، ودرَّس سنوات طويلة في الدراسات العليا في الجامعات والكليات العراقية، وأشرف على أكثر من (200) رسالة وبحثًا علميًا في تخصصه، وناقش ما يقرب من (200) رسالة وبحثًا للطلبة من عراقيين وغيرهم، وشارك في عدد من الندوات والمؤتمرات العلمية، وقوَّم وحكَّم (80) رسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه، و(180) بحثًا علميًا، وعددًا من الكتب؛ فضلًا عن بحوثه ودراساته، ومنها: (العمليات الاستشهادية، ماهيتها، مشروعيتها، دوافعها)، و(أثر زيادة الثقة في متن الحديث في اختلاف الفقهاء)، و(خيار التعيين وأثره في عقد البيع) و(حكم القرض الزراعي دراسة ميدانية فقهية-بحث مشترك)، و(أحكام التوارث في الموت الجماعي في الفقه الإسلامي)، وغيرها.
شهادات بحقه:
بعد انتشار خبر وفاته رحمه الله نعاه العلماء والمفكرون والمؤسسات الشرعية والمجامع الفقهية وطلبة العلم الشرعي في مختلف دول العالم, ومنها على سبيل المثال:
وصفه العلامة الشيخ عبدالملك السعدي بأنه: رحل الى الله كهل قضى عمره بالعبادة والتقوى وتلقى العلم الشرعي من خلال ملازمته لمجالس العلماء الشرعيين. ومن ورعه كان لا يجيب السائلين إلا بعد التثبت ممن يعتقده متضلعا في الفقه الإسلامي".
أما العلامة الشيخ أحمد حسن الطه كبير علماء المجمع الفقهي العراقي فقال عنه: أنا أعرفه منذ أكثر من خمسين سنة, كان رجلا هادئا صامتاً, يعمل كثيراً ويتكلم قليلاً, وقد كان الرجل إداريا عالما فقيها مؤدبا متواضعا كتوماُ, والذي يخفف المصاب ويبعث الأمل في هذا البيت المبارك أن أكثر من واحد من اولاده من أهل العلم وحملة الشهادات العليا".
ونعاه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ببيان وصفه فيه بأنه: "فقيدٌ عظيمٌ فقدناه, وبوفاته خسر العراق والأمة الإسلامية قامة علمية كبيرة. لقد كان الفقيد رحمه الله رمزا للمعرفة والعلم, وقدم إسهامات قيمة في مجال الفقه والعلم, وترك بصمة لا تنسى في قلوب الطلاب والعلماء وجميع من تعاملوا معه".
وقد وصفه المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء في بيان نعاه فيه بالقول: "عزيزا بتواضع, زاهدا مع غنى في النفس, دائم التبسم مع غيرة على دين الله, حسن الإستقامة طويل القامة, جريئا في قول الحق, كثير المشورة على غزارة علمه, وكان وفيا مع شيوخه واساتذته وطلابه المنتشرين في الدول العربية والاسلامية, دائم التواصل معهم, وعينا تسقي سائغ العلم لطلابه على كثرتهم, وبقي مرابطا في بغداد وآثر التدريس والإفتاء في المجمع الفقهي العراقي وإلقاء المحاضرات في الكليات والمساجد على عروض العمل المغرية من خارج العراق".
كذلك نعاه مجلس علماء العراق في بيان ذكر فيه شيئا من مآثره ومنها: "بعد عمر قضاه في الدعوة الى دين الله تعالى, باذلا نفسه في أروقة المساجد والجامعات تدريسا وإفتاءً, وقضى شطرا من عمره في مسلك القضاء الشرعي, والشطر الآخر في التدريس, ثم بعد تقاعده من التدريس الأكاديمي, استمر في الدعوة الى الله تعالى, فلم يبخل بعلم, ولم يتوقف عن درس, يجيب السائل, ويستشير الحاضر, كان علما في الفتوى, عرف رحمه الله بغزارة علمه وجميل تواضعه, وكثرة ابتسامته".
كما وصفته هيئة علماء المسلمين في العراق بالقول: "عُرف الفقيد بهمته العالية، وغيرته الكبيرة على الدين وشعائره، والشريعة وعلومها، والمتابعة الدائمة لشؤون المسلمين والأمة، والحرص على التواصل مع الناس وحل مشاكلهم، فضلًا عن قيامه بواجب الفتوى الشرعية، الذي لم يتركه حتى أثناء مرضه الأخير."
ووصفته هيئة علماء فلسطين بأنه "أحد أبرز علماء العراق الشقيق" مبينة جهوده في "خدمة قضايا الأمة وفي القلب منها فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك"
أما رابطة الأصالة للدعوة والارشاد فقد نعت فقيدنا رحمه الله واصفة رحيله بالفاجعة, وموضحة دوره ومكانته بوصفه "علمٌ كبير من أعلام العراق والأمة".
وأما العلامة الشيخ رافع الرفاعي مفتي الديار العراقية فقد نعاه ببيان وضح فيه أن الفقيد قضى عمره في طلب العلم ونشره, وخدمة طلابه الذين يشهدون له بالفضل والتواضع والحلم والأناة, وحسن السجايا.
وكان لرابطة العلماء في العراق نصيبٌ بنعي فقيدنا وذكر شيء من سجاياه الحسنة, بوصفه "العالم الموسوعي أحد أركان التعليم في العراق المتصدر لنفع الباحثين موئل الطالبين, صاحب المواقف الأبوية الحانية".
فيما أشارت حركة العدل والإحسان في العراق في بيان نعيه الى أنّ له: "دورا رائدا في مدارج الجامعات والكليات, قائما بالمسؤوليات العلمية والادارية, فهو المربي في قاعات التعليم, وهو الراعي في ساحات الدعوة الى الخير, وهو المستشار في سلك القضاء, يشهد له أقرانه وطلابه بالاستقامة والصلاح وحسن السيرة".
كما وصفه إتحاد علماء الدين الاسلامي في كوردستان ببيان جاء فيه: "كان رحمه الله دائما يعمل من أجل التوافق والتنسيق بين آراء المتقدمين والمتأخرين, ونحن بحاجة الى هذا الفكر العميق الواسع كالذي يحمله الفقيد من إجل إنارة الطريق لطلبة العلوم الشرعية, علاوة على ذلك فلقد كان للفقيد دورا كبيرا في وحدة الكلمة ونشر الوسطية والاعتدال, وبوفاته فقدنا علما من أعلام العراق ومحققا ورعا محبا للعلم وأهله".
وقال عنه الدكتور زياد العاني رئيس الجامعة العراقية السابق: "زميل الدراسة والعمل, صاحب الأخلاق الراقية والوجه البشوش, والحس المرهف والقلب الحاني, كان للطلبة كالأب الشفيق وللأساتذة كالأخ والصديق, محبا للجميع ويحبه الجميع, غيورا على دينه ووطنه, مخلصا في أداء عمله, عالما من علماء الأمة الأجلاء".
وقال عنه الفقيه الموسوعي الدكتور طه الزيدي عضو الهيئة العليا في المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء: "أستاذ الجيل, ومأوى طلاب العلم, ومفتاح مغاليق الحيارى من المستفتين. طيب المعشر, نقي السريرة ويزداد طيبة ونقاءً في السفر, سافرنا الى اندونيسيا فحلق حوله أكثر من عشرين طالباً – بعضهم قطع بالقطار ستُ ساعات - ليحظى برؤية استاذه حينما سمعوا بقدومه الى جاكارتا, وسافرنا الى مصر وماليزيا فعقد مجالس وتحدث عن تجربته في الاشراف والمناقشة أمام جمع من طلبة الدراسات العليا, وسجل حضورا في ندوة الجمعة التي يديرها استاذنا الجليل عارف علي عارف في رحاب الجامعة الاسلامية في كوالالمبور".
ووصفه الدكتور عمار عبدالكريم الجعفري معاون عميد كلية الآداب سابقاً بقوله: "كان معظما لأساتذته ومشايخه, وفياً معهم واصلا وبارا لهم. كريمُ النفس, طيب المعشر, مجالسته غنيمه وغذاء للعقل والروح, فلا يخلو مجلسه من فائدة علمية ومسألة فقهية, صاحب صدقة بالسر قبل العلن. كان عطوفا على طلابه, متفقدا لأحوالهم, سادا لحوائجهم, فهو لهم الأب العطوف الرحيم. غيورا على دينه وأمته ووطنه, واعيا بآمالها وآلامها والتحديات التي تواجهها, ولا يخشى في الله لومة لائم. وعند تلقيه خبر مرضه الأخير تلقاه بغاية السكينة والرضى, لم يشتك أو يتضجر, فقد كان راضيا غاية الرضى, مستسلما غاية التسليم لله عز وجل".
أما صاحب سره ورفيقه في الحلِّ والترحال نجله الوقور الشيخ الدكتور زيد فقال في كلمة التأبين: كنت أميناً لسرِّه, ومستشارا لديه, وكنت دائماً مسافراً معه, تعلمت منه الكثير من أدبه وأخلاقه وتواضعه, وكان رحمه الله يحمل همّ الأمة في كلِّ الظروف, وفي كل الأحيان, يتألم لآلامها, ويفرح لفرحها, يتتبع أحوال المسلمين في كل البلاد, فيهتم لهمهم, ويفرح لفرحهم, وكان رحمه الله عصامياً ذا مبدأ لا يحيد عنه".
نخوته وتفانيه وإيثاره:
ذكر الدكتور سعدي الجميلي زميله لسنوات طويلة نموذجا من تفانيه ونخوته وحرصه على طلابه, فقال: أذكر أن أحد طلبتنا في الماجستير (وليد هاشم كردي) وهو الآن أستاذ دكتور في جامعة ديالى, تخلف عن الامتحان فأوشكت دراسته أن تضيع, فأخبَرَنا رئيس الجامعة وقتها المرحوم الأستاذ الدكتور محمد مجيد السعيد بأنه يحق له الامتحان غدا بعد ان جاءت تعليمات تسمح بذلك, فوقعنا في حرج, كيف نبلغ الطالب وهو يسكن في قرية نائية من قرى حمرين!! ليس فيها هاتف أرضي ولا يستطيع أحد أن يصله, فبدأنا نفكر كيف نصل إليه, فقال لي أنا سأذهب اليه, فانتخى أحد طلبة الماجستير وقتها وهو التلميذ النجيب (أنيس يونس السامرائي) بأن يأخذ الدكتور عبدالمنعم بسيارته الشخصية الحديثة, فذهبا الى بيت الدكتور وليد بعد سفرة طويلة, فجاءا به الى الكلية وأدى الامتحان ونجح.
متصدّقٌ بالسرّ:
تواترت الأخبار من محبيه والمقربين منه وبالخصوص طلابه, أنه كان كثير الإنفاق على طلابه, يتتبع أخبارهم ويعين محتاجهم, ويسعى في حاجاتهم, ويتكفل بنفاقات الدراسة لبعضهم, ولم يكشف هذا السر الا بعد وفاته, ولعله بذلك يرجو ان يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله, ومنهم (ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ) (متفق عليه), وفي يوم التأبين ذكر شيخنا العلامة الدكتور عبدالستار عبدالجبار عضو الهيئة العليا في المجمع الفقهي العراقي فقال: قبيل وفاة الاستاذ الهيتي جائتني امرأة فقالت إنها صاحبة أيتام, وقالت بعثني اليك الدكتور عبدالمنعم لسد حاجتي, وبعد الكلام والاستفسار منها لمعرفة صدقها, تبيّن لي ان الاستاذ الهيتي كان منذ سنوات يتكفلها وايتامها ومنذ أربعة أشهر انقطعت النفقة عنهم بسبب تدهور حالة استاذنا ومكوثه في المستشفى لمدة طويلة, فبعثت برسالة الى الاستاذ الهيتي تستفسر عن نفقة أيتامها الشهرية, فأجابها برسالة أن تذهب الى شيخنا الدكتور عبدالستار لسد حاجتها, فبقي هذا السر بينه وبين الله ولم يكشف الا بعد وفاته, وقد تكفل أحد المحسنين في يوم تأبينه بإدامة كفالة العوائل التي كان يرعاها استاذنا, ليستمر بذلك عطاء الخير الذب بدأهُ, فأي إخلاص هذا يا استاذنا؟!! وأي سرّ هذا الذي كتمته عن الجميع حتى أهل بيتك؟!!
وفاءٌ كوردستاني:
مما يذكر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يقول لأهل البدع: (بيننا وبينكم يوم الجنائز) وكان يقصد بذلك, إجتماع الناس من كل حدب وصوب حتى يشهدوا تشييع أهل الحق عند وفاتهم, وهذا ما شهدناه في يوم تشييع أستاذنا الهيتي, فلقد كان الأخ الفاضل الحاج كمال الكيجي الكوردستاني -وهو من طلاب استاذنا- يطوف ببيت الله الحرام ويلهج بالدعاء له باستمرار طيلة مكوثه على فراش المرض, ويوصل سلام استاذنا الى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, حتى وصفه فقيدنا بــــــ (الطالب الوفي الخلوق المخلص), ويوم وفاة استاذنا خرّ الحاج كمال على الأرض من فجيعة الخبر, وكان على موعد للسفر خارج العراق, فقطع سفره قادما من السليمانية لحضور التشييع, وبعد الصلاة على فقيدنا في جامع الإمام الأعظم رافق الجنازة الى مدينة هيت, متجشماً عناء السفر وطول الطريق, وبعد التشييع عاد بوقت متأخر من الليل الى مدينته السليمانية, وما هذا إلا حبٌ ووفاءٌ وإخلاص, فكانت الحشود الكثيرة التي قدمت من كل حدب وصوب كما وعد الإمام أحمد أهل البدع.
موافقة لطيفة:
ذكر مشايخنا في المجمع الفقهي العراقي أن استاذنا الهيتي كان يجلس كل ثلاثاء من كل أسبوع يدّرس طلابه العلوم الشرعية في المجمع الفقهي من الصباح الى الظهر, ثم يتحوّل الى غرفة الافتاء من نفس اليوم يفتي الناس من صلاة العصر الى صلاة العشاء, واستمر على هذا الحال أكثر من عشر سنوات, وشاء الله سبحانه وتعالى ان يكون يوم وفاته هو يوم الثلاثاء الذي رابط عليه سنين طويلة, ولعلّ هذه الموافقة بين درسه وإفتائه ويوم رحيله شاهدة له, وشفيعا له يوم الوقوف بين يديه.
نموذج من رثائه:
رثاه فضيلة الشيخ غني الحديثي عضو مجلس علماء العراق بقصيدة جاء فيها:
حقاً على مثلهم تبكي العيون دماً
|
|
فليس من بعدهم أنسٌ ولا رشد
|
الباذلون لأجل العلم أنفسَهم
|
|
الساهرون إذا ما الناس قد رقدوا
|
تبكي السماءُ، وتبكي الأرضُ فقدهمو
|
|
والحائرون لما في فقدهم يجدوا
|
كانوا مشاعل نور يستنيرُ بهم
|
|
السالكون طريق الحق ما بعدوا
|
حسب الدعاةِ الى الرحمنِ أنهمُ
|
|
من بعد غربتهم للمصطفى يفدوا
|
خلاصة القول فيهم أنهم رحلوا
|
|
لكن آثارَهم من بعدهم مددُ
|
ورثاه تلميذه خطيب الفلوجة المفوّه الشيخ الدكتور عبدالحميد جدوع الجميلي بأبيات مؤثرة, قال فيها:
الدمع يقطر والآهات تزدحمُ
|
|
وكل قلب بيوم الفقد ينثلمُ
|
رحلت عنا ودمع العين منسكبٌ
|
|
والعلم يبكي من الآهات يضطرمُ
|
أفتش الدرس والقاعات تسألني
|
|
وكتبكم فوق ترب القبر ترتطمُ
|
نعاك أهلك والأحباب قد وفدوا
|
|
من كل حدبٍ على الأثار تزدحمُ
|
يبكون علما وفقه كنت تحمله
|
|
ففقدك اليوم جرح ليس يلتئمُ
|
إني أودع خلا لست ابرحه
|
|
ما بين حالين صار القلب ينقسمُ
|
نفحاتٌ مكيّة:
من ألطاف الله سبحانه وتعالى بعبده المرحوم الدكتور عبدالمنعم ان يتوافق يوم وفاته مع وجود أحد طلابه ومحبيه في مكة المكرمة, فيؤدي العمرة عنه في نفس الوقت الذي تم دفنه فيها في مدينة هيت. ويتوافق هذا أيضا مع مشهد آخر تقشعرّ له الأبدان, بوجود طالب آخر من طلابه ومحبيه في الحرم المكي, وفي لحظه هطول المطر وأمام الكعبة زادها الله تشريفا وتعظيما, ويتبهل الى الله بالدعاء له في أول ليلة له بل في أول ساعة له في قبره. ثم بعد ذلك أدى أكثر من محبٍ العمرة وأهداها الى فقيدنا, فأي كرامة هذه يا استاذنا؟! ما الذي بينك وبين الله؟! حتى تكون ضمة القبر ووحشته وساعاتك الأولى في عالم البرزخ بهذه النفحات المكية!!
اجتماع القلوب على محبته:
أخرج البخاري رحمه الله من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ) (صحيح البخاري : 7485), وأخرج البخاري رحمه الله من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه, قال : قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (أيُّما مُسْلِمٍ شَهِدَ له أرْبَعَةٌ بخَيْرٍ أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ، قُلْنَا: وثَلَاثَةٌ، قالَ: وثَلَاثَةٌ، قُلتُ: واثْنَانِ، قالَ: واثْنَانِ، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الوَاحِدِ) (صحيح البخاري : 2643) ومن خلال متابعتنا لمواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الرسمية الأخرى وجدنا الآلاف يثنون عليه ويشهدون له بالخير, ومع اختلاف توجهات ومشارب العلماء وطلبة العلم إلا أنهم اجتمعوا على محبته وتوقيره, فما هو إلا تحقيقا لوضع القبول له بين الناس, وما وجدنا أحداُ خالف هذا الإجتماع.
وفاءٌ ثمين:
أقيمت لفقيدنا أكثر من حفلٍ تأبيني, الأول: كان في مدينة الرمادي, وذكر أحبابه شيئا من مآثره, والثاني: كان في المجمع الفقهي العراقي في جامع أبي حنيفة, وقد أوعز رئيس ديوان الوقف السني الدكتور مشعان الخزرجي بطباعة الأعمال الكاملة لفقيدنا وتسمية إحدى قاعات الديوان باسمه. كما أقر مجلس كلية الإمام الأعظم توجيه طلاب الدراسات العليا باختيار عناوين رسائلهم وأطاريحهم للكتابة في جهود فقيدنا الهيتي العلمية والفقهية والدعوية والتربوية.
أما الحفل التأبيني الثالث: فكان من نصيب كلية العلوم الاسلامية في الجامعة العراقية التي كان عميدها لفترة عشر سنوات متتالية.
الدرس المهم لطلابه:
وإن الدرس المهم الذي يجب أن نعيه من استاذنا الجليل وداعيتنا الرباني هو أن نقوم على تنشئة جيل من العلماء الواعين بالشرع والمتصلين بالعصر الذين يجمعون بين فقه النص وفقه الواقع وفقه تنزيل النص على الواقع، حتى يسدوا هذا النقص الذي يتسع يوما بعد يوم برحيل الربانيين الراسخين في العلم، وحتى يبلغوا الرسالة ويؤدوا الأمانة، ويقوموا بواجبهم نحو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم.
رؤيا تسبق وفاته:
يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : (إنَّه لَمْ يَبْقَ مِن مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا يَرَاهَا العَبْدُ الصَّالِحُ، أوْ تُرَى له) (صحيح مسلم : 479) فقد نقل الشيخ ثائر المشهداني وهو أحد أعضاء المجمع الفقهي العراقي الثقاة عن إحدى المدرسات في كلية الإمام الأعظم, والتي توصف بأنها من التقيات وتُحسب على خير: فقد رأت أستاذنا الفقيد قبيل ساعات من وفاته بعد صلاة الفجر, وكان النبي صلى الله عليه وسلم في استقباله, وحيّاه بقوله: (حي الله الشهيد) وصافحه وأخذه معه, وربّت على يده, وكان فرحاً بلقائه.
وفاته:
ذكر لي أحد الأحباب المرافقين له حتى اللحظات الأخيرة, فقال: كان يردد باستمرار (الحمد لله) وفي آخر ليلة له وهو مسجّى في المستشفى, تيمّم وصلى العشاء, ثم ردد الشهادة مرات عدة, وصلى على حبيبه صلى الله عليه وسلم, وردد الأذكار, فكانت أنفاسه تضعف شيئا فشيئا, ونبضات قلبه تتناقص, حتى توقف النفس والنبضات, وفاضت روحه الى بارئها, بهدوء وسكينة, وكأنه نائم, فتحقق فيه (فتَنْسَلُّ نفسُهُ كما تقطرُ القطرةُ من السقاءِ) (مسند الإمام أحمد)
واستردّ الله وديعته بعد عمر ناهز (74) عاماً، قضاه في التأليف والتدريس والجهاد والعطاء الفكري والتربوي, وبعد صراع مع المرض دام أشهراً, فتوفي صبيحة يوم الثلاثاء 6/صفر/1445 هــ الموافق 22 /8/ 2023م في مستشفى اليرموك ببغداد, وصلى عليه حشد كبير من العلماء وطلبة العلم في جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة في بغداد, ونقل جثمانه الطاهر الى مدينة هيت مسقط رأسه ودفن فيها.
سلام على روحك الطاهرة في عالم الارواح, توسد مثواك مستريحا من عناء الحياة ولأوائها, ومتنعما بما قدمت لهذا اليوم, غير آبه بملذات الدنيا ومتاعها, فجزاك الله عنا كل خير, لقد بنيت فأحسنت البناء, وزرعت منهجاُ وتربية وارفة الظلال تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها, ولك علينا عهداً لن ننساك ما بقينا على قيد الحياة, ولا نتوقف عن الدعاء لك حتى نلقى الله عزّ وجل.
رحمك الله يا فقيد الجيل, فقد أديت ما عليك, فجزاك الله عن جهودك العلمية والتربوية والدعوية؛ بالمغفرة والرحمة والرضوان، وجعل علمك شاهدًا لك وسبيلًا إلى جنات النعيم، وأخلف للعراق والأمة وطلبة العلم علماء مخلصين من أمثالك يحفظون علوم الشريعة وينشرونها ويقفون على ثغورها يدافعون عنها.
[1] تدريسي في الجامعة العراقية ببغداد, عضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين.