البحث

التفاصيل

التربية بالفتوى في القرآن والسنة النبوية

الرابط المختصر :

التربية بالفتوى في القرآن والسنة النبوية

بقلم: عصام تليمة

 

من الموضوعات التي تفتقدها الدراسات المتعلقة بالفتوى هو ما يمكن أن نطلق عليه "التربية بالفتوى"، أي الاستناد إلى التربية في الفتوى. سواء جعلُها أحد المصادر للاستدلال عند الإفتاء، أو هدفا يتحقق بها، أو شيء يراعيه المفتي عند صدور فتواه. بحيث يربط بين الفتوى كسؤال وبين الإجابة عليه، ومخاطبة المستفتي بخطاب يعزز الجانب التربوي لديه.

فالقارئ لكثير من كتب الفتوى، قديما وحديثا، يجدها تتناول الجانب الفقهي فقط. منها ما يذكر الخلاف المذهبي، أو الرأي حسب مذهب المفتي، ونادرا ما يستدل على ما يذكر. وإن استدل، فيكون استدلاله مرتبطا بالمسألة الفقهية دون ما يتعلق بها من أمور أخرى تربط المستفتي بالجانب التربوي، وهو المعنى والمهم في التشريع الإسلامي، وما كان مغزى النصوص التشريعية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

غاية الأحكام والتشريع تربية الناس

فالمتأمل لآيات الأحكام في القرآن الكريم، سيجدها لا تخلو من النص على الجانب التربوي، سواء كانت بالحث على التقوى، أو مراقبة الله تعالى، أو تقوية الضمير والوازع الديني عند المسلم، ولا تكتفي الآيات بذكر الحكم الشرعي فقط، وهو ما نلاحظه في جل الآيات سواء المتعلق منها بالجانب التعبدي من الصلاة والصيام والزكاة والحج، أو جانب المعاملات، كالبيع والشراء، والنكاح والطلاق، والميراث، والحرب والسلم.

في إحدى المرات، كان أحد الصحابة في طريقه إلى المسجد، وعندما اقترب من باب المسجد، رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يهوي من الوقوف للركوع. فركع الصحابي في الطريق ثم دخل المسجد راكعا لكي يدرك الركعة، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بفعله فقال له: "زادك الله حرصا ولا تعد".

الربط بين الفتوى والتربية في القرآن الكريم

عند التأمل في آيات القرآن الكريم التي تتضمن الفتوى والأسئلة، والتي تأتي بصيغ مثل: "يستفتونك" أو "يسألونك"، نلاحظ التأكيد المستمر على ربط التشريع بالتربية والأخلاق. وبغض النظر عن طبيعة السؤال، سواء كان عقديا أو اجتماعيا أو سياسيا، نجده دائما يتضمن هذا الهدف. فقد جاءت في القرآن الكريم صيغة "يستفتونك" مرتين. في سورة النساء الآية 127 قال تعالى: "ويستفتونك في النساء… وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما". وفي الآية 176 قال: "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة… والله بكل شيء عليم". ورغم أن الإجابة في هاتين الآيتين تتعلق بحقوق النساء من حيث النفقة والزواج، فإنها ربطت الفتوى بأهمية العمل الصالح. وفي الآية الثانية، بعد بيان حكم الكلالة، أُكد في ختام الآية ضرورة الاهتداء والتمسك بالهدى والصواب.

وردت صيغة "يسألونك" في عدة آيات كريمة. وفي هذه الآيات، نجد الإجابات التي تأتي بعد بيان الحكم الفقهي، وهي مرتبطة بشكل وثيق بالهدف التربوي من الفتوى والسؤال. فمثلا، نجد في قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَةِ، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَاسِ وَالحَجِ، وَلَيْسَ البِرُ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَ البِرَ مَنِ اتَقَى، وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَاتَقُوا اللهَ لَعَلَكُمْ تُفْلِحُونَ" (البقرة: 189). فالآية توضح الإجابة عن السؤال المتعلق بالأهلة، وتبيان حكمها، والأمر بالدخول إلى البيوت من أبوابها. وفي هذا السياق، ذُكر الأمر بالتقوى مرتين.

وعند السؤال عن الإنفاق، قال تعالى في سورة البقرة (الآية 215): "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، قُلْ مَا أَنفَقتُم مِن خَيرٍ فَلِلْوالِدينِ والأقربينَ واليتامى والمساكين وابن السبيل، وما تفعلوا من خيرٍ فإن الله به عليم".

وعند السؤال عن أمر سياسي يتعلق بالقتال والحرب في الأشهر الحرم، قال تعالى في سورة البقرة (الآية 217): "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فيه، قُل: قِتالٌ فيه كَبير، وصَدٌ عَن سَبيلِ اللَهِ وكُفرٌ به والمَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهلِهِ منه أكبر عِندَ اللَهِ، والفِتْنَةُ أكبر مِنَ القتل، ولا يَزالونَ يُقاتِلونَكُم حتى يَرُدوكُم عن دِينِكُم إنِ استَطاعوا، ومَن يَرتَدِد مِنكُم عن دينِهِ فَيَمُت وهو كافر، فأولئك حَبِطَت أعمالهم في الدنيا والآخِرَة، وأولئك أصحابُ النار، هُم فيها خالدون".

وكذلك عند السؤال عن الغنائم بعد الحرب، قال تعالى في سورة الأنفال (الآية 1): "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال، قُلِ: الأنفال للَه والرسول، فاتقوا اللَه وأصلحوا ذاتَ بينِكُم، وأطِيعُوا اللَهَ ورسولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنين".

عندما يتعلق الحديث بالأكل والشرب وما يحل منه وما يحرم، يقدم لنا القرآن الكريم الإجابة، مع التأكيد على الجانب التربوي والتزكوي. ففي سورة البقرة (الآية 219) قال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا، ويسألونك ماذا يُنفِقون، قُل: العفو، كَذَلِكَ يُبَيِنُ اللَهُ لَكُمُ الآيات لَعَلَكُم تتفكرون". وفي سورة المائدة (الآية 4) قال: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَ لَهُم، قُل: أُحِلَ لَكُم الطيبات، وما علمتم من الجوارح مُكَلِبين تُعَلِمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه، واتقوا الله، إِنَ الله سريع الحِساب". وعند تتبع صيغ الفتوى والسؤال في القرآن الكريم، نجد الهدف ثابتا، حتى وإن اختلفت صيغة الطلب المحقق له.

التربية في الفتوى النبوية

وفي السنة النبوية، وردت أحاديث في صيغة الفتوى. كما ترتبط هذه الأحاديث بالتربية برابط وثيق، سواء في الأحاديث التي تناولت التشريع دون وجود سؤال أو في الأحاديث التي جاءت كإجابة عن سؤال من سائل. ورغم كثرة هذه الأمثلة التي تزيد عن العدد، إلا أننا سنستعرض بعضها كنماذج لتأكيد ما تم طرحه في الموضوع.

فمن الأمثلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث الصحابة على إدراك الركعة الأولى والصف الأول مع الإمام. وفي إحدى المرات، كان أحد الصحابة في طريقه إلى المسجد، وعندما اقترب من باب المسجد، رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يهوي من الوقوف للركوع، فركع الصحابي في الطريق ثم دخل المسجد راكعا لكي يدرك الركعة، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بفعله فقال له: "زادك الله حرصا ولا تعد". في هذا الحديث، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم فتوى بعدم تكرار هذا الفعل مستقبلا، وأنه يجب على الشخص أن يدخل المسجد بهدوء ووقار. وما أدركه فليصل، وما فاته فليتمه بعد ذلك. لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن الدافع وراء فعل الصحابي هو حرصه على الأجر، لذا بدأ بتزكية دوافعه قبل توجيه النصيحة، فقال: "زادك الله حرصا"، ثم تبعها بالتوجيه "ولا تعد".

ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، في عيد الأضحى، نهى المسلمين عن ادخار طعام الأضحية، مؤكدا عليهم أن يأكلوا منها في أول 3 أيام دون ادخار. ثم بعد ذلك، رفع النهي وقال: "إنا كنا نهيناكم عن أكل لحومها فوق 3 لكي تسعكم، والآن جاء الله بالسعة، فكلوا، وادخروا، واتجروا، ألا وإن هذه الأيام هي أيام أكل وشرب وذكر الله". والسبب وراء ذلك، كما تدل عليه السنة النبوية، هو الـ"دافة" التي اقتربت من المدينة، و"الدافة" هي مجموعة من الأعراب الذين يقتربون من المصر بسير ليس شديدا. يعتقد أنهم هم الذين قدموا إلى المدينة عند الأضحى، فنهاهم النبي عن ادخار لحوم الأضاحي لكي يقوموا بتوزيعها والتصدق بها، ليستفيد منها القادمون.

ومن ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع الأيدي في الغزو. أي أن الإنسان إذا اقترف جريمة تستحق عليها العقاب في ساحة الحرب، فالأولى هنا تأجيل العقوبة أو التأخير. رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث آخر أن الحد إذا وصل للإمام فليس له العفو أو التأخير. ومع ذلك، كانت فتوى الحرب تحمل هدفا تربويا مهما، وهو عدم تفتيش مقترف الجريمة، فربما أدى ذلك إلى انتقاله لمعسكر الأعداء. وربما حين يشهد موتا في الحرب واستشهد، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر له ما تقدم من ذنب بحقوقه، وإن بقي حيا، فربما يوقظ جهاده ضميره، فيتوب إلى الله عز وجل.

من أبرز الأمثلة التي تجمع بين الفتوى والنقاش العقلي والتربية الخلقية، هو موقف الشاب الذي اقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبا منه الإذن في الزنا. استجاب له النبي صلى الله عليه وسلم بسلسلة من الأسئلة، قائلا: "هل ترضاه لأمك؟ هل ترضاه لأختك؟ هل ترضاه لعمتك؟ هل ترضاه لخالتك؟" وعند كل سؤال كان الشاب يجيب بـ: "لا". فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: "كذلك الناس لا يرضونه". وبعد هذا النقاش المؤثر، وضع النبي يده على الشاب ودعا له قائلا: "اللهم اغفر له ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه". ويذكر راوي الحديث أن الشاب بعد هذا الموقف لم يتجه نحو مثل هذا الفعل أبدا.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على معالجة الجانب الفقهي في سؤال الشاب الذي طلب منه الإذن في الزنا. كان من السهل له أن يقول فقط: "إنه حرام" ويستشهد بقول الله تعالى: "ولا تقربوا الزنى". ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه يجب معالجة هذا الأمر من عدة جوانب، وليس فقط من الناحية الشرعية. الجانب الأكثر أهمية هو تصحيح فهم الشاب لمفهوم العفة والنقاء. وبعد أن قام بالإقناع العقلي، اتجه النبي صلى الله عليه وسلم نحو علاج القلب، الذي يعتبر موطن المشكلة الحقيقي. فدعا له قائلا: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه"، مشيرا بذلك إلى الأبعاد المتعددة للعلاج في الفتوى.

الصحابة والأئمة على خطى القرآن والسنة

إن التربية بالفتوى أمر واضح وجلي في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، وسار على هذا المنهج الصحابة الكرام. فمن يتأمل في فتاوى الخلفاء الراشدين والصحابة المفتين، ثم التابعين ومؤسسي المذاهب الفقهية، سيجد تكاملا وانسجاما بين الفتوى والتربية. ولكن جاءت مرحلة امتدت إلى زماننا -إلا فيما ندر من الفقهاء- خلت فيها الفتوى من هذا الجانب، وأصبحت فتوى مجردة تعاني من الجفاف الروحي، رغم أهميتها، وثقل من يقومون بالإفتاء من حيث الملكة الفقهية وصناعة الفتوى.

ومع ذلك، ظل هناك جانب مهم غائبا عن فتاوى الفقهاء، وهو الارتباط بين الفتوى والتقوى، بالإضافة إلى الفتوى والأخلاق والسلوك. وهذا الجانب يشمل التربية في جميع مستوياتها، التي تعد هي الهدف الرئيسي من التشريع. إذا، كيف حدث هذا الفصل بين الفتوى والتربية؟ ولماذا؟ وما المحاولات التي قام بها الفقهاء في تراثنا لإعادة الفتوى والفقه إلى المسار التربوي؟ سنحاول الإجابة عن هذين السؤالين في مقالنا القادم إن شاء الله.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. عصام تليمة؛ داعية إسلامي ومحاضر. عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
القلق المتزايد بين العائلات المسلمة حيال المناهج التعليمية المخالفة والتحول الجنسي في مدارس الولايات المتحدة
السابق
المجلس الإسلامي في فرنسا ينتقد حظر العباءة في المدارس ويعتبره تعسفيًا ومحتملاً للتمييز

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع