أرحنا بها يا بلال... كيف تكون صلاتنا راحة لقلوبنا وغداء لأرواحنا؟
بقلم: د. علي محمد الصلابي
لما نادى الله سبحانه وتعالى موسى (عليه السلام) بوادي طوى جانبِ جبل الطور، كان مما ذكره له، إخباره بأنه اصطفاه وشرّفه بالوحي والرسالة، وتعريفه بالقضية الأهم والمسألة الأعظم، ألا وهي وحدانية الله سبحانه وتعالى، وأمره بعبادته وإقامة الصلاة، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 11-14]، فيا لها من قضايا كريمة وأمور عظيمة إذ ذكرت في حضرة أعظم موقف حيث يكلّم الله عبداً اصطفاه للرسالة وشرفه بالنبوة، فما أحوجنا لتدبر هذه المكالمة العظيمة بما فيها من حكم وعظات وعبر.
أ- قوله تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ أيّ: أنا المعبود الحق الذي لا يستحق العبادة أحد غيري، ودلّ قوله سبحانه هذا على أن معرفة الله تعالى هي أوجب الواجبات وأول المهمات وأعظمها، فهي أول ما يجب على الإنسان أن يعلمه، قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ ]محمد:١٩[.
قال ابن كثير رحمه الله: هذا أول واجل على المكلفين، أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عرّف الله سبحانه موسى بأنه وحده سبحانه المستحق للعبادة والطاعة فلا يستحق العبادة والطاعة أحد غيره جلّ وعلا، لأنه وحده المتصف بصفات الجلال والكمال وسبق تقرير هذه الحقيقة في أول السورة عند قوله تعالى الذي مرّ معنا: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ ]طه:٨[. (مختصر تفسير ابن كثير، ٢/٤٧١]
ولعله قد اتضح لنا الآن سرّ بدء الآيات بعرض قصة موسى من هذه الواقعة من موضع النداء والمناجاة في وادي طوى بجانب جبل الطور، هذه المعرفة التي تنير للإنسان درب حياته وبها تظهر معالم المنهج الذي يجب عليه التزامه ويبقى الإنسان من دون المعرفة يتخبط في ظلمات الحيرة والقلق والجهل، فهي التي تخرج الإنسان من الظلمات إلى النور فيعرف الإنسان بها أنّ عليه أن يتوجه بطاعته وعبادته إلى الله الذي خلقه ورباه. [التفسير الموضوعي، ٥/٢٣٤]
- قال السعدي في قوله تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ أي: المستحق للألوهية المتصف بها، لأنه الكامل في أسمائه وصفاته، المنفرد بأفعاله، الذي لا شريك له ولا مثيل ولا كفؤ له سبحانه وتعالى. [تفسير السعدي، ٣/١٠٢٠]
- وقال محمد متولي الشعراوي في قوله: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾؛ أيّ صاحب التكاليف، والمعبود المطاع في الأمر والنهي، وأوّل هذه التكاليف وقمّتها والينبوع الذي يصدر عنه كل السلوك الإيماني ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ ]طه:١٤[، وما دام لا إله إلا هو فلا يصح أن تتلقى الأمر والنهي إلا منه ولا نعتمد إلا عليه ولا يشغل قلوبنا غيره. [تفسير الشعراوي، ٥/٩٢٢٧]
ب- ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ أيّ: توجه إليّ وحدي بالعبادة والطاعة فمن أجل أن تسعد بعبادتي وطاعتي خلقتك، وأنعمت عليك بنعمي وسخرت لك ما في أرضي وسمائي، فالله سبحانه غنيّ عنك وعن عبادتك وطاعتك، ولا سعادة لك أيها الإنسان إلا بطاعة ربك وعبادته والعيش في ظلال منهجه وشريعته فمعنى العبادة: الطاعة والخضوع والانقياد في جميع شؤون الحياة، إن العبادة تشمل كل حركة تؤدى خدمة في الكون نيتك فيها لله عزّ وجل. [تفسير الشعراوي، ١٥/٩٢٤٠]
- وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾؛ هو بيان أهمية الألوهية التي هي قوام العقيدة والله في ندائه لموسى -عليه السلام- يؤكدها بكل المؤكدات بالإثبات المؤكد ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾ وبالقصر المستفاد من النفي والاستثناء: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ الأولى لإثبات الألوهية لله، والثانية لنفيها عن سواه، وعلى الألوهية تترتب العبادة والعبادة تشمل التوجه لله في كل نشاط الحياة. [في ظلال القرآن، ٤/٢٣٣١]
ت- ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾: وخص الصلاة بالذِكر، وإن كانت داخلة في العبادة لفضلها وشرفها وتضمنها عبودية القلب واللسان والجوارح.[تفسير السعدي، ٣/١٠٢٠]
والصلاة أكمل صورة من صور العبادة وأكمل وسيلة من وسائل الذِكر، لأنها تتمخض لهذه الغاية وتتجرد من كل الملابسات الأخرى وتتهيأ فيها النفس لهذا الغرض وحده وتتجمع للاتصال بالله. [في ظلال القرآن، ٤/٢٣٣١]
والصلاة هي العبادة الدائمة التي لا تنحل عن المؤمن، مادام فيه نفس، فالزكاة مثلاً تسقط عن الفقير وهي كل عام أو كل محصول، والصيام يسقط عن المريض والصوم شهر في العام، والحج يسقط عن غير المستطيع وهو مرة واحدة في العمر، أما الصلاة فلا عذر أبداً يبيح تركها، فتصلى قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً، فإن لم تستطع تصلي ولو إيماء برأسك أو بجفونك فإن لم تستطع فحسبك أن يخطرها على قلبك، مادام لك وعي، فهي لا تسقط عنك بحال.
كذلك فالصلاة عبادة متكررة: خمس مرات في اليوم والليلة، وذلك لتذكرك باستمرار إن أّنْستك مشاغل الحياة، وتعرض نفسك على ربك وخالقك خمس مرات كل يوم. [تفسير الشعراوي، ١٥/٩٢٤٠]
والصلاة لله تعالى تدل على طاعته سبحانه والانقياد والخضوع لأمره، فهي العبادة بمعناها الخاص وهي أهم العبادات ولهذا خصّها سبحانه فذكرها بقوله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ أي: صلّ الصلاة المشروعة على الوجه المستقيم من أجل أن تذكرني فذكره سبحانه يجعل الإنسان في أعلى درجات السعادة الدنيوية، ولا سعادة في الدنيا إلا بذكره سبحانه فهي التي تصله بالله وهي معراجه إليه سبحانه بها يمتلئ قلب المصلي طمأنينة وسكينة ويبتعد عن القلق والحيرة والاضطراب وتعب الأعصاب.
تجمع الصلاة للمصلي الانقياد والاستسلام لله تعالى بأسلوب عملي، بأداء قيامها وسجودها وركوعها، مع ذكره سبحانه ومناجاته بالآيات الكريمة التي يقرؤها وبالتسبيحات الخاشعة التي يردها وبالدعوات والابتهالات التي يرفعها، ويقيض الله تعالى على المصلي في مقابل ذلك من فيوضات رحمته وخزائن فضله وإحسانه، ويذكره سبحانه في الملأ الأعلى أخبر عن ذلك بقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ ]البقرة:١٥٢[.
وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: يقول الله عزّ وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في الملأ ذكرته في ملئهم خير منهم وإن تقرّب ذراعاً، تقربت منه باعاُ وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.
أرأيت سعة فضله سبحانه ورحمته؟ أرأيت كيف أنه سبحانه أسرع إليك بمعونته ورحمته وإحسانه منك إليه بطاعته وعبادتك وهو سبحانه غني عنك وعن عبادتك وطاعتك؟ وهذا هو سر شعور المصلي الخاشع في صلاته بلذة مناجاته سبحانه بهذه اللذة تزول عنه هموم الحياة وأحزانها وبها يعرف حلاوة الإيمان: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ ]الرعد:٢٨[، ولهذا كان الخشوع في الصلاة روحها وزبدتها، وهو أعلى صفات المؤمنين المفلحين وأرفعها: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)﴾ ]المؤمنون:١-٢[.
فالصلاة خير ما يستعين به الإنسان للتغلب على هموم الحياة ومصاعبها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ]البقرة:١٥٣[. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: يا بلال! أقم الصلاة، أرحنا بها. [رواه أبو داود، 4985].
والصلاة واحة غنّاء في صحراء حياة الإنسان يجد فيها راحة قلبه وغذاء روحه وسكينة نفسه، تنزاح بها عن قلب الإنسان ونفسه أثقال الحياة وهمومها ولهذا كان النبي ﷺ إذ حزبه به أمر صلّى، ومعنى: حَزَبه: أهمه وأحزنه.
وقال السعدي في قوله تعالى: ﴿لِذِكْرِي﴾: اللام للتعليل، أي: أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي، لأن ذكره تعالى أجلّ المقاصد وبه عبودية القلب وبه سعادته فالقلب المعطل عن ذكر الله معطل عن كل خير، وقد خرب كل الخراب، فشرع الله أنواع العبادات التي مقصود منها إقامة ذكره وخصوصاً الصلاة.
قال تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ ]العنكبوت:٤٥[ أي: ما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر. [تفسير السعدي، ٣/١٠٢٠]
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: " موسى عليه السلام قائد المستضعفين وعدو المستكبرين"، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
1. مختصر تفسير ابن كثير، محمد علي الصابوني، بيروت، دار القرآن الكريم، 2006م.
2. دراسات في التفسير الموضوعي للقصص القرآني، أحمد جمال العمري، مكتبة الخانجي، ط1، 1986م.
3. تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، السعودية، الدمام، دار ابن الجوزي، ط4، 1435ه.
4. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، القاهرة، مكتبة الأسرة، ط1، 1992م.
5. في ظلال القرآن، سيد إبراهيم قطب، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423ه/ 2003م.
6. موسى عليه السلام قائد المستضعفين وعدو المستكبرين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022.