ذكرى مولد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم
بقلم: الأستاذ بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
1- مقدمة:
تحتفل الشعوب والأمم عادة بالذكريات التي تتصل بتاريخها وبتكوينها شعبا وأمة، وبذكريات لأحداث قام بها أفراد، وهذه الأحداث خلفت مبادئ، وقامت على تحقيقها.
الاحتفال بالذكريات والمبادئ سنة طبيعية للشعب الذي يعرف تاريخه، ثم يحرص على بقائه شعبا له شخصية خاصة، وغاية معينة في حياته وفي كفاحه من أجل البقاء. ونحن الآن في ذكريات ميلاد الرسول محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، نبي الرحمة، نحتفل بذكرى ميلاده. وضمنها في واقع الأمر، نحتفل بالمبادئ التي قامت عليها الجماعة الإسلامية، ونحتفل بتاريخ قيامها، وفي الوقت نفسه نوحي بهذا الاحتفال إلى إيقاظ الحرص في نفوس المسلمين على استمرار بقائهم بصفتهم شعبا وأمة.
2 – تاريخ ميلاده صلى الله عليه وسلم
لا نعرف اختلافا بين المؤرخين حول ولادته صلى الله عليه وسلم التي كانت في شهر ربيع الأول، ولكن الاختلاف بينهم في تعيين ما مضى من الأيام في ذلك الشهر قبل ولادته صلى الله عليه وسلم، وقد حقق العلماء أنه ولد في فجر يوم الإثنين، التاسع من ربيع الأول، (الإثنين 9 ربيع الاول)، الموافق لعشرين من عام 571م، (20 عام 571م)، وبعد قدوم أصحاب الفيل لمكة المكرمة بخمسين يوما، وكان قدومهم يوم الأحد لثمانية عشرة ليلة من المحرم، سنة أربعين 40 من ملك كسرى أنوشروان ابن قباد. (الأحد 18 محرم 40)، وأول سنة مولده صلى الله عليه وسلم، كان يوم الخميس، كما كان أول ربيع الأول يوم الأحد، فيكون يوم الإثنين تاسعه لا غير.
3 – تاريخ الاحتفال بالذكرى
قال العلامة السخاوي : (إن عمل المولد، حدث بعد القرون الثلاثة، وأما أول من احتفل بمولده صلى الله عليه وسلم من الملوك، هو صاحب الإربل الملك المظفر أبو سعید کوکابر بن زین الدين بكتكين، وكانت العادة جارية في ذلك العهد بقراءة السيرة النبوية، مع إيثار الكلام في قصة المعراج، وكان ذلك عونا على تكوين السيرة النبوية، وكان الملك المظفر يصرف على المولد زهاء 300 ألف دينار. قال ابن كثير في تاريخه: (كان الملك المظفر يعمل المولد الشريف في شهر ربيع الاول، ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه، وقد طالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر للفرنج بمدينة عكا حوالي سنة 630 هجرية .و أول كتاب ألف في عمل المولد، هوا لكتاب الذي ألفه الشيخ أبو الخطاب ابن دحية، للملك المظفر صاحب الاربل، وسماه “التنوير في مولد البشير النذير ).
4 – حكم الاحتفال بالذكرى:
* قال شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله: (إن أصل المولد، أي الاحتفال به، بدعة، ولم ينقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على المحاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن، وتجنب ضدها، كان بدعة حسنة، وإلا، فلا) . ثم قال : (وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى المدينة، فوجد اليهود يصومون عاشوراء، فسألهم، فقالوا : هو يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله تعالى على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة إلى أن قال : وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي، نبي الرحمة في ذلك اليوم، قال تعالى في سورة آل عمران: “لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ”، [آل عمران: 164]).
* وقال جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في كتابه “الحاوي للفتاوي”: (إن عمل المولد الذي هو إجماع الناس، وقراءة القر آن، ورواية الأخبار الواردة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من الآيات، ثم يُمد لهم سماطا يأكلون وينصرفون من غير زيادة على ذلك، هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى لله عليه وسلم، وإظهار الفرح بمولده الشريف، ثم قال : أخرج البيهقي عن أنس أن النبي صلى لله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، مع أن جده عبد المطلب قد عق في سابع ولادته. والعقيقة لاتعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار الشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين ….كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده الشريف بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات ..).
* وقال الإمام الحافظ شمس الدين الجزري في كتابه “عرف التعريف بالمولد الشريف”، ما نصه: (قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم، فقيل له : ما حالك؟ فقال : في النار ، إلا أنه يخفف عني ليلة الإثنين ، وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا، وأشار إلى رأس أصبعه، وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي، وبإرضاعها له) ، ثم قال:
فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه ، جوزي في النار بالتخفيف لفرحه وعتقه لأمته يوم بشر بمولد النبي صلى الله عليه وسلم به، فما حال الموحد من أمته يُسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم ؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله أن يدخله الجنة، وأنشد الحافظ شمس الدين هذه الرؤيا في أحد كتبه فقال:
إذا كان هذا کافرا جاء ذمه ***** تبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الإثنين دائما ***** يخفف عنه بالسرور لأحمدا
فما الظن بالعبد الذي طال عمره **** بـأحمد مسرور ومات موحدا؟
إن تعظيم بعض الأيام والشهور لما حصل فيها من الأمور العظيمة، والحوا دث ا لجسيمة، مألوف شرعا وعقلا وعادة، ولقد أمرنا الله بالاحتفال في يوم الأضحى لوقوعه بعد الحج مباشرة، ولما حصل فيه من حادث ضحية إسماعيل عليه السلام، وعيد الفطر لوقوعه بعد انتهاء صوم رمضان مباشرة. وقال النبي صلى لله عليه وسلم للسائل الذي سأله عن فضل صوم يوم الإثنين فقال: “ذلك يوم ولدت فيه”، فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف الشهر الذي ولد فيه صلى لله عليه وسلم، وقد أمرنا الشرع بالعقيقة في اليوم السابع من ولادة المولود، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، وإقامة ذكرى مولده.
5 – استثمار الذكر ى اجتماعيا:
كما سبقت الإشارة إليه، هو أن الاحتفال بالذكرى يكون بدعة حسنة، يثاب عليها إن توفرت الشروط، والناس بصفة عامة يهتمون بهذه المناسبة، إلا أنها تبقى سلبية في أكثر الأحيان، حيث تبقى بدون تفكير وتدبير، ولا اتعاظ واعتبار، ولا تهذيب وتأديب، والنبي صلى عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، والقدوة، والمثل الأعلى في القول والعمل، في البيت وبين القوم، في السلم وفي الحرب، كان سمح النفس، رضي العشرة، جميل الصحبة …. بلغ من تواضعه وزهده أنه كان يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، وكان سخيا بما يملك، أسخى من الغمامة المثقلة، وأسبق بالخير من الريح المرسلة، يحمل الضعيف، ويكسب المعدوم، ويطعم الجائع، ويكسو العاري ، ويعين على نوائب الحق، إلى غير ذلك من الفضائل التي خصه بها الله سبحانه، والذي جعله على خلق عظيم . هذه الصفات وغيرها ناذرة في وسطنا، ونحن نحتفل بالذكرى. ينبغي أن نستغل هذه الذكرى مع الأبناء، ومع الأهل والأحباب والجيران، وبين التلاميذ والطلبة والعمال، ومع كل من تربطنا معه علاقة :
1– الأبناء:
تضييف أبناء الجيران لحفل شاي، وقبله حملة لتنظيف الحي من الحجارة مثلاً..
2 – الجيران:
زيارة مصحوبة بهدايا بسيطة، ويمكن اقتراح تنظيم حفل جماعي بينهم...
3 – العائلة:
زيارتهم أو تضييفهم مع هدايا....
4 – ا لإخوان والأصدقاء:
زيارة عائلية للمتزوجين وتضييف العزاب الآفاقيين.
5 – التلاميذ:
داخل الفصل، وبعد التذكير بالمناسبة، يشجع التلاميذ بمد يد المساعدة المادية والمعنوية لأصدقائهم الفقراء والمرضى والمحتاجين في مثل هذه المناسبات، وحثهم على نظافة محيطهم.
6 – الطلبة:
يخصصون بعض حلقاتهم في الجامعة، لتسليط الضوء على الجانب الاجتماعي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وينظمون زيارات بين عامة الطلبة، وتضييف ذوي الهمم منهم...
7 – العمال والمستخدمون:
على الأخ رب العمل أن ينظم حفلا مصغرا لمستخدميه، مع تقديم مساعدة مادية أو معنوية للمحتاج منهم..
ملحوظات:
* يمكن تهييئ هدايا بسيطة غير مكلفة، كإعداد نوع أو نوعين من الحلوة مثلا، وتوزيعها بعد تعليبها إن أمكن.
* يمكن استثمار المناسبة والاستعداد لها أسبوعا من قبل؛ إلى ثلاثة أيام بعدها .. وبتكرار الاحتفال بها على هذا النمط، تطبع في النفوس صورة واضحة يدورون عليها فيما بعد في سعيهم في الحياة، ويدركون بها معالم وجودهم بصفتهم جماعة مسلمة وأمة لها مستقبلها.
6 – خاتمة:
إن الاحتفال بالذكريات، ضرب من ضروب التفكير في أحداث التاريخ. ولقد امتدح الله سبحانه وتعالى الذين انتفعوا بالنظر في ما يحيط بهم، و استخلصوا منه العبر والعظات في قوله سبحانه من سورة آل عمران: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]. وحياة الإنسان تاريخ وسجل لأحداث أمته، والإنسان الحي هو الذي يجعل من هذه الأحداث ذكريات يربط بها ماضيه بمستقبله، فها كم ميلاد المصطفى عليه الصلاة والسلام، فاجعلوا منه ذكرى، وانتفعوا بها في كل عام في تجديد أنفسكم وفي التمسك بمستقبل جما عتكم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
المراجع:
1 – الفكر الإسلامي، السنة الرابعة 1973م.
2 – الإرشاد، العدد الثالث، السنة السابعة 1975م.
3 – المنار الإسلامي، العدد الثالث، السنة السابعة 1982م.
4 – خطب الجمعة والعيدين (كتاب)