مقاطعة بضائع الشركات الداعمة للاحتلال
بقلم: عصام تليمة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
لكل احتلال وظالم أعوان يعينونه على احتلاله وظلمه للناس، قد يكون الأعوان هنا أفراد، أو كيانات، وتتنوع الكيانات ما بين عسكرية واقتصادية، وإعلامية، ودينية كذلك، وقد لاحظنا في العدوان الأخير للاحتلال الصهيوني على غزة، وقوف جهات لم تجد أدنى درجات الحرج في إعلان موقفها من دعمه وتأييده، رغم عدم حاجة الكيان لهذا الدعم، فبعض الدول التي أمدته بالسلاح لم يكن بهدف تلبية حاجته له، بل كان المقصود والهدف، إعلان التأييد بلا حدود له.
ربما كان هذا مقبولا من دول، تربطها بالاحتلال علاقات وطيدة منذ زمن، لكن الأكثر جرأة هو ما أقدمت عليه شركات تقدم خدمات غذائية أو حياتية، تعلن دعمها له، ووقوفها إلى جانبه، ليس فقط الدعم المادي، بل والمعنوي، وذلك بالإعلان عن هذا الدعم.
وهو ما جعل الناس تبدأ في طرح بديلها وخيارها، حيث إن خيارات الشعوب العربية والإسلامية في دعم النضال الفلسطيني محدودة، بحكم القبضة المحكمة عليها، في كل تحرك تقوم به، وبدأ طرح المقاطعة الاقتصادية يزداد بقوة بعد تبجح الشركات المؤيدة والداعمة للاحتلال، وهو ما لا يجرؤ عليه كيانات مؤيدة للفلسطينيين وحقهم في تحرير أراضيهم، حيث ضاقت وسائل التعبير البسيطة بذلك على الناس.
والمقاطعة لبضائع الشركات التي تدعم الاحتلال، لا تحتاج لفتوى، ولا تدليل على ذلك، فهي من الوسائل التي لم يرد نص بمنعها، وتبقى على الأصل الفقهي المعروف: الأصل في الأشياء الإباحة، ولكن لكثرة ما يشوش به بعض أصوات التطبيع الفقهي والديني في بلادنا، يحتاج الأمر لبسط الأدلة التي يستدل بها من الشرع الإسلامي، ومن التاريخ والواقع، والعقل، لتحفيز وتشجيع الناس على هذه الخطوة التي تعد أقل القليل مما يمكن أن يقدموه للشعوب التي ترزح تحت نير الاحتلال.
الأدلة الشرعية على المقاطعة:
لقد ذخرت السنة والسيرة النبوية، بأحداث ثابتة، ومهمة، في دلالاتها، على شرعية المقاطعة، من ذلك: قصة إسلام الصحابي الجليل ثمامة بن أثال الحنفي، وقد كان من بني حنيفة، وقد كانت قبيلته مصدر رئيسي للقمح والغذاء لقريش، وقد ذهب بحكم الدعاية المضللة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع في الأسر، وظل ثلاثة أيام في المسجد النبوي، يأتيه النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم، ويتحدث معه قليلا، في خلال هذه الأيام الثلاثة، كان ثمامة قد اطلع على الإسلام وأهله من واقعهم المعيش في المسجد. فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم دون مقابل، فخرج فاغتسل في حديقة قريبة، ثم جاء معلنا إسلامه، وعاد إلى قومه.
وعندما عاد وبدأت عداوة قريش تزداد ضد المسلمين، ثم خرج معتمرا، فلما قدم مكة، قالوا: أصبوت يا ثمام؟ فقال: لا، ولكني اتبعت خير الدين، دين محمد، ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله عليه وسلم. ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا وقد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل. حتى قال عمر: لقد كان والله، في عيني أصغر من الخنزير، وإنه في عيني أعظم من الجبل.
وهناك دليل لم أجد من العلماء المعاصرين من استدل به سوى الشيخ حسن البنا رحمه الله، فقد التقط هذا الدليل من أحدث السيرة النبوية الشهيرة: حادثة بئر رجيع، وبئر معونة، وقد كانت حيلة من المشركين، وقد أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قبيلة وأسلموا، ويريدون أن يرسل لهم قراء للقرآن يعلمون قومهم، فلما خرجوا غدروا بهم، وكان من بين من غدروا بهم من القراء: عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح رضي الله، وقد أرادوا أسرهم وتسليمهم لمشركي قريش مقابل عطاء من المال، فأسر بعضهم، ورفض آخرون.
وأما عاصم رضي الله عنه فقد أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعيد، وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة العبدري، وكان عاصم قتلهما يوم أُحد، فنذرت حين أصاب ابنيها: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر في قحفه، وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة، ولكن هذيلاً لم تستطع أن تصل إلى جثمان عاصم، أو تمس شيئًا من بدنه، فقد أرسل الله عليه ظلة من الدبر (وهو النحل الكبير) فكلما قربوا منه ذاقوا من لسعه مر العذاب، فلم يقدروا منه على شيء.
يقول البنا: وكان عاصم قد أعلنها على المشركين مقاطعة عامة شاملة: ألا يمس مشركا، وألا يمسه مشرك، وعاهد الله على ذلك، فصدقه الله، وكانوا يسمونه: محمي الدبر، وغاب جثمانه عن أعينهم، فلم يعلموا أين ذهب به.
الأدلة العقلية:
وأما الأدلة التي يستدل بها أي عاقل على وجوب المقاطعة لداعمي الاحتلال، فإن أي إنسان لديه ذرة من كرامة أو عقل، أو خلق، لو أن إنسانا سب أباه أو أخاه أو أمه، أو أهانهم، فضلا عن قتلهم، أو جرحهم جرحا يسبب عاهة مستديمة، فإن أقل ما يمكن فعله من هذا الشخص، هو مقاطعة المعتدي بكل وسائل المقاطعة، ولا يمكن له أن يذهب لمتجر المعتدي، ولو كان في بضاعته حياته، وهو ما تقوم به الدول نحو من يدعمون أعداءها، ولو بالتصويت في المحافل الدولية، فما بالنا بالدعم المادي والمعنوي؟ وما يسري عقلا وقانونا على الدول يسري على الأفراد.
المقاطعة في السياسة والتاريخ:
وهو حق تمارسه كل الدول في العصر الحديث، سواء كدول قوية أو ضعيفة محتلة، فالعقوبات الاقتصادية التي تقوم بها أمريكا وأوربا ضد دول تخالف سياستها، أمر مشهود ومعلن، وإن كان في كثير منه يكون بالتجبر والباطل. وتجارب التحرر في بلدان العالم الثالث مارست هذا اللون، مارسته الهند على يد غاندي ضد الإنجليز المحتل، وذلك بمقاطعة بضائعهم وبدأ بالملح الإنجليزي، وشجع الملح الهندي. وقام به في مصر الشعب المصري مع الاحتلال الإنجليزي، بل قام به مشايخ لم يعرف عنهم العمل السياسي العام، لكنهم مارسوه، فقد فعل ذلك الشيخ محمود خطاب السبكي مؤسس الجمعية الشرعية، حيث إنه لم يكن يمارس السياسة بمعناها المعروف، ولكنه شجع على وجود مصانع للغزل تتبع الجمعية، وذلك بقصد منه معروف، وهو رفض المنتج الأجنبي في مصر، لأنه محتل.
هل تؤثر المقاطعة؟
نعم، تؤثر المقاطعة في هذه الشركات، وتأثيرها قوي جدا، وقد جرب الناس في عدة مرات، مما اضطر بعض الشركات التي في بلادنا العربية لإعلان عدم تبعيتها للشركة الفولانية التي تدعم الاحتلال، وكانت شركات في مصر منذ سنوات، تكتب ذلك على محالها ومتاجرها الكبرى، من أثر المقاطعة التي مارسها المصريون ضدها.
وبالرغم من أنه دور ربما نظر إليه البعض على أنه سلبي، لكنه أقل القليل، وفعل الممكن بالنسبة للشعوب، فإذا كنا شعوبا مستهلكة، فيمكننا أن نستهلك ممن لا يعادينا، ونرفض منفعة من يعادينا ويعادي مقدساتنا، وإن كان الأولى أن يتم بذلك بالإنتاج، لكن ما لا يدرك كله، لا يترك كله.
الهدف التربوي من المقاطعة:
من المعلوم أن المقاطعة لن تغلق هذه الشركات، ولن تنهي هذه البضائع من الأسواق العربية والإسلامية، لكنها توجع أصحابها، وتجعلهم يفكرون عشرات المرات في دعم المحتل، لأن رأس المال جبان كما يقال، وما يجنيه من دعم المحتل سيكون أقل بكثير من الخسائر التي سيتكبدها.
كما أن للمقاطعة هدفا تربويا للناس، وهو ألا يكونوا أذلاء عبيدا لمنتج معين، مهما بلغت جودته، ما دام عائد هذا المنتج يستخدم ضد أمتنا، ويعود الناس على ألا تكون أسيرة منتج، وعلى أن ترك الشيء في حد ذاته هدف تربوي، ولو كان لوقت معين، إلى أن يغير الداعم للباطل موقفه.
ما ذنب العاملين الغلابة؟!
يشوش البعض على هذا التوجه، بقوله: وما ذنب الغلابة الذين يعملون في هذه الشركات؟! إن العامل الغلبان كما يقول هؤلاء، هو أقل المنتفعين بأرباح هذه الشركات، ولم يرد من يقاطع إلحاق الضرر به، ولم نكن نسمع لهؤلاء أي تعليق عندما تقرر دولتهم أو حكومتهم قطع العلاقات مع دول معينة، أو سحب السفراء، وهو إجراء تقوم كل الدول التي تمس كرامتها، أو تختلف مع دولة أخرى، في أمور تكبر أو تصغر.
وإذا كان العامل الغلبان في هذه الشركات، سيكون ضرره في أقصى درجاته خسارة الوظيفة، فإن هناك من يخسر بيته وحياته وعائلته كاملة، بدعم هذه الشركات التي تشارك في جريمة الاحتلال بالدعم، فليس العامل بأعلى مكانة، ولا أغلى قيمة، ممن يخسرون كل ما لديهم من الحجر والبشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين