البحث

التفاصيل

مستقلة وجريئة.. عن الفتاوى المتعلقة بالشأن العام وقضايا الأمة

الرابط المختصر :

مستقلة وجريئة.. عن الفتاوى المتعلقة بالشأن العام وقضايا الأمة

بقلم: عصام تليمة

 

الفتوى أمر خطير الشأن في الأمة الإسلامية؛ لخطورة موقع الفتوى من الأمة والتشريع، ورغم خطورتها وأهميتها، فإنّ كمّ التجاسر والتجرُّؤ عليها – ممن يتقن علومها وممن لا يتقن- يزداد ويرتفع، وبخاصة في الأزمات والإشكالات التي تتعرض لها الأمة بشكل ملحوظ، وبخاصة في القضايا التي نصفها بقضايا الشأن العام، أو قضايا الأمة.

وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة – وفي قضايانا المتعلقة بالأحداث القريبة والآنية – أنَّ هناك حالةً من السيولة، أو الاضطراب الشديد في الفتوى، خاصة فيما يتعلق بفتاوى الأمة والشأن العام.

وإذا كانت الشكوى في هذا السياق ممن تجرؤُوا على مقام الفتوى، وليسوا من أهله، ولا من مختصّيه، فهو موضع شكوى أيضًا من بعض أهل الفتوى، ممن لا يفرّقون بين الفتوى الخاصة، أو الفتوى الجزئية، التي تتعلق بفرد، أو بشأن من شؤونه الدينية أو الحياتية، وبين فتوى تتعلق بمجموع الأمة، أو بفئة عظيمة منها، مما أصبح شأنًا عامًا بينها.

خصائص فتاوى الشأن العام

ولذا فإن فتاوى الشأن العام والأمة، تمتاز بخصائص وسمات، نتناولها لأهميتها، فبها يتبين الفرق بينها والفتاوى الخاصة بالأفراد، وليس ذلك تقليلًا من شأن فتاوى الأفراد، بل لما لها من خطورة ولتعلّقها بالمجموع، حيث إن لها خصائص تتعلق بماهية هذه الفتاوى، من حيث طبيعة تناولها، وطبيعة فهمها، وطبيعة التعبير عنها، بل تختلف في طريقة الاستدلال عليها، عن الفتاوى الأخرى الخاصة أو الجزئية.

وهو ما لاحظنا مؤخرًا غيابه في الفتاوى المتعلقة بالأحداث التي تعيشها الأمة، سواء كانت أحداثًا سياسية، أو ثقافية، أو أحداثًا عامة، وتترقب الأمة الفتوى المتزنة المعبّرة عنها في هذا الموضوع، وقد غلبت على كثير من هذه الفتاوى العاطفة، أو اللغة الوعظية، رغم التقدير للوعظ والإرشاد ومكانته ودوره في شحذ الأمة، لكنه يختلف تمامًا عن طبيعة وطريقة الفتوى المتعلقة بالشأن العام.

تتسم الفتاوى المتعلقة بالأمة بالشجاعة والجرأة فيما تطرح، حتى وإن خالف مألوف الناس، أو خالف هوى ومصلحة سلطة حاكمة، فمن أكبر العوائق التي تحول بين قيام مؤسسة الفتوى بدورها: خوف المفتي (فردًا كان أم جماعة) من بطش السلطة، أو تهديدها، أو خوفه من العامة وضغوطها

فتاوى بحثية

من أولى وأهم مميزات الفتاوى المتعلقة بالأمة، أنها فتاوى بحثية، والمقصود بذلك أنها فتاوى تحتاج لأناة من حيث التأمل والنظر، ومن حيث البحث والسبر والتقسيم والاستقراء، وتصور المسألة تصورًا صحيحًا، وحسن تكييفها وعدم التسرع في إصدارها، هذا من حيث النظر والفكر.

وهي بحثية كذلك من حيث الشكل، من حيث حاجتها للإسهاب والإيضاح والشرح، والإقناع، والتمهيد للرأي، ثم التنظير له والتأصيل، وسوق الحجج واحدة تلو الأخرى، سواء كانت حججًا من الشرع، أو من أدوات الإقناع الأخرى.

وقد نصّ على هذا الشرط الإمام القَرَافي حيث يقول: "ومتى كان الاستفتاء في واقعة عظيمة تتعلق بمهام الدين، أو مصالح المسلمين، ولها تعلق بولاة الأمور، فيحسن من المفتي الإسهاب في القول، وكثرة البيان والمبالغة في إيضاح الحق بالعبارات السريعة الفهم، والتهويل على الجناة، والحض على المبادرة لتحصيل المصالح، ودرء المفاسد.

ويحسن بسط القول في هذه المواطن، وذكر الأدلة الحاثّة على تلك المصالح الشرعية، وإظهار النكير في الفتيا، على مُلابِس المنكرات المجمع على تحريمها وقبحها".

وهو ما قال به شيخنا القرضاوي في مقدمة كتابه: (فتاوى معاصرة)، أن هناك فتاوى لا يمكن الإجابة عنها بأن هذا يجوز أو لا يجوز، أو حلال أو حرام، بل أصبح القارئ الآن، يحتاج للنص على الفتوى على أسباب الجواز أو الحرمة، ثم التمهيد لها بممهدات، وأدلة وأمثلة، وهكذا.

وهو ما لاحظه القرضاوي في فتوى صدرت من الشيخ محمد متولي الشعراوي، تتعلق بتحريمه زراعة الأعضاء، وقد كانت في لقاء تليفزيوني، فقال القرضاوي: إنها صدرت منه في لقاء، وليست في موضع بحث وكتابة، وإسهاب، ومثل هذه المواضع تكون فجائية، ولا تعبر عن رأي العالم تعبيرًا دقيقًا.

وهذا معناه أن القرضاوي يفرق بين الفتوى التي يكتبها الفقيه، ويؤصل رأيه فيها، ويدلل عليه بما يمتلك من أدوات التدليل المتعلقة بالفتوى، وبين رأي الفقيه نفسه ليس بصفة الفتوى، ولا في مقام الإفتاء، ولكن في مقام المسلم المشارك في حدث، أو فهم واقع، كرأي علمي، أو سياسي، أو ثقافي، وليس كفتوى، وبخاصة إذا كان الموضوع يتعلق بالقضايا العامة.

فتاوى جماعية

كما أن فتاوى الأمة -في الغالب- تتسم بالجماعية، فليست فتوى تصدر دائمًا عن فرد، مهما كان علم الفرد، وإن بدأ فرد بفتوى تتعلق بالشأن العام للأمة، فلا بد من أن يعضد فتواه عددٌ من العلماء أو المفتين، لتكون بذلك فتوى جماعية، بحيث تكون أبعد عن الزيغ، أو الهوى، أو الشذوذ، أو الانفراد.

وتاريخيًا فأول من مارس الفتوى الجماعية: الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان الخلفاء الراشدون كلما جدّ أمر من أمور الدولة له أثر في نظام الأمة جمعوا الصحابة واستشاروهم فيه، فيتبادلون الرأي ثم ينتهون إلى أمر تقرّه جماعتهم.

وليست الجماعية هنا شرطًا لصحة الفتوى، أو شرطًا للفتوى العامة للأمة، بل هي أفضل وأكثر قبولًا لدى الناس، وأجدى نفعًا وعلمًا، ولا يمنع ذلك حق الفقيه الثبت من الفتوى، وغالبًا ما تأتي الفتوى الجماعية بعد كتابة فقهاء فرادى مواقفهم، ثم تتلاقح الأفكار، وتناقش الحجج، وتخرج فتوى جماعية بالموضوع.

فتاوى مستقلة

نعني باستقلالها: أي أنها لا تميلُ إلا للحقائق العلميّة والدينيّة، تضع النصوص والقواعد أمامها، وتسير خلفها، فأينما توجهت قالت بها، دون انحياز لأحد، سواء كان فصيلًا سياسيًا، أو دينيًا، أو سلطويًا.

ولا تنطلق من الأمر من السلطة لها بإصدار الفتوى، فلا شك أن الحكام الذين يريدون تزيين أعمالهم بالشريعة شكلًا، يطلبون الفتوى الموافقة لرغباتهم، وهو ما حدث في معظم أزمنة الحكم، ولا بد من فتاوى الأمة ألا تكون بإملاء من أحد، وأن تجد من علماء الأمة من يرفض ذلك.

وهو ما حدث مع فقيه كبير يرفض إملاءات أي أحد على أهل الفتوى، وهو الشيخ محمد أبو زهرة- رحمه الله- فقد ذكر الدكتور محمد رجب البيومي هذا الموقف له: "فقد دُعي (أبو زهرة) إلى مؤتمر إسلامي في ليبيا مع جماعة من كبار العلماء في العالم الإسلامي عام 1972م، وقد كان رئيس الدولة الداعية، معمر القذافي، ذا صدى مسموع في الناس، وبطش معسّف في بلده، فافتتح المؤتمر بكلمة يعلن فيها ما يسميه: (اشتراكية الإسلام)، ويدعو العلماء المجتمعين إلى تأييد ما يذهب إليه، على أنه الحق الوحيد الذي لا ثاني له".

وقد توجّس المجتمعون خيفة، بإبداء رأيهم بالرفض، والتفتوا حولهم لعل عالمًا يرفع عنهم الحرج، فطلب أبو زهرة الكلمة، وقال: "إننا نحن علماء الإسلام الذين يعرفون حكم الله في قضايا الدولة، ومشكلات الناس، وقد جئنا هنا لنصدع بما نعرف، فعلى رؤساء الدول أن يقفوا عند حدودهم، فيدعوا العلم إلى رجاله، ليصدعوا بكلمة الحق، وقد تفضلت بدعوة العلماء لتسمع أقوالهم، لا لتُعلن رأيًا لا يجدونه صوابًا مهما هتف به رئيس! فلنتقِ الله في شرع الله". وصمت القذافي وفزع من رد فعل أبي زهرة، رحمه الله.

فتاوى جريئة

فهي تتسم بالشجاعة والجرأة فيما تطرح، حتى وإن خالف مألوف الناس، أو خالف هوى ومصلحة سلطة حاكمة، فمن أكبر العوائق التي تحول بين قيام مؤسسة الفتوى بدورها: خوف المفتي (فردًا كان أم جماعة) من بطش السلطة، أو تهديدها. أو خوفه من العامة وضغوطها، وبخاصة فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية العامة، كعادات الناس، أو ما يخالف مألوفهم، وما يتعلق بقناعاتهم الخاطئة.

ومما يدخل في هذا الباب ما ذُكر عن الأئمة والفقهاء في فتاواهم التي صدرت عنهم، في قضايا تتعلق بالحقوق العامة، وحقوق الأمة، قديمًا وحديثًا، ومن أشهرها: القضايا والفتاوى التي امتحن فيها العلماء والأئمة، كأبي حنيفة، ومالك، وابن حنبل، وغيرهم من الأئمة الكبار الذين امتلكوا الجرأة في الصدع بالحق في الفتوى أو الموقف المتعلق بالدين.

ومما يؤسف له أن كثيرًا من القضايا المتعلقة بالشأن العام، ومما له صلة بفقه الأمة، وقضاياها المهمة، يتكوَّن لدى العالم أو الفقيه رأي فيها، ولكنه يخشى من الإعلان به، سواء كانت خشيته من جهة السلطة، أو من جهة العامة، مخافة أن يصطدم بالسلطة، فيؤدي ذلك إلى حبسه، أو التضييق عليه في الرزق والحياة والعيش، أو يخشى الصدام مع العامة التي تنكر عليه موقفه؛ لأنه يخالف ما استقر في أذهانهم، أو ما يخالف عواطفهم، وأفكارهم التي تحتاج لتصويب وترشيد.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
السويد.. دائرة الأحوال المدنية تقرر حظر إطلاق اسم "جهاد" على المواليد الجدد من أطفال المسلمين
السابق
كلمة سماحة مفتي أستراليا في المظاهرة الكبرى ضد العدوان الغاشم على غزة في فلسطين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع