البحث

التفاصيل

حقيقة مَعاد الخلق والبعث على ضوء آيات النفس والكون

الرابط المختصر :

حقيقة مَعاد الخلق والبعث على ضوء آيات النفس والكون

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

دلّ القرآن الكريم - في آيات كثيرة - خلقه للاهتداء للإيمان بالعث والمعاد وإحياء الموتى والحساب والجنة والنار الأبديّتان من خلال النظر في آيات الكون والنفس، بما تتضمن من بديع خلقه وإتقانه وتقديره للأشياء على ما هي عليه، في دقة متناهية وإتقان بديع، بما لو كانت على غير ما هي عليه لفسدت الحياة واختل الكون وهلك الخلق. ومن هذه المواضع التي أشارت لهذه الحقائق؛ ما ورد في سورة العنكبوت تعقيباً على قصة إبراهيم (عليه السلام) مع قومه في إنكاره عليهم ما يعبدون من الأوثان، وتقريره حقائق التوحيد والإيمان بالله عز وجل.

 فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} ]العنكبوت:19-20[:

يُخبر الله تعالى عن إبراهيم - عليه السّلام - كيف أرشد قومه إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه- بقوله حكاية عن إبراهيم- من خلال الآيات التي نحن في صدد تفسيرها، وذلك بأن وجههم إلى النظر في أنفسهم وكيفية نشأتهم، وخلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، فالقادر على الإبداء والإيجاد قادر على الإعادة والبعث، ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق  القيامة، ويلقى كل جزاءه، وأن مصير من يكفر بالله العذاب الأليم، والخطاب في الآيات الكريمة موجه لأمة محمد كما قال بعض العلماء. (منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني، منى عبد الله بن داود، ص115)

1.   قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ]العنكبوت:19[:

لما بيّن الله سبحانه وتعالى الأصل الأول في الآيات السابقة في سورة العنكبوت وهو التوحيد، وأشار إلى الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشّر والميعاد، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك بعضها عن بعض في الذكر الإلهي. (تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، 21/364)

 {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}:

قد يقول قائل: أنا لم أشاهد نفسي كيف خُلقت؟ فكيف يأمرنا الله عزّ وجل بالنظر في بدء الخلق؟ إنّ الله عزّ وجل جعل نظام البشر على أساس التوالد، فإذا كنت غائباً عن نشأتك، فهذه نشأة ابنك أمامك، فأنت تعلم علم اليقين أن هذا الابن الذي أمامك كان حُويناً منويّاً وكان بُويضةً، ولُقِّحَت هذه البويضة، وتكاثرت ونَمَتْ، والتصقت بجدار الرحم، وجاءها الغذاء إلى أن أصبحت كائناً كاملاً في تسعة أشهر، ثم خرجت إلى الدنيا، وبدأت تنمو، فهو الآن يلعب ويضحك، ويتثاءب ويتكلم ويبتسم ويأكل، له فم، وله لسان، وله لسان مزمار، وله مريء وله معدة، وله أمعاء دقيقة، وأمعاء غليظة وزُغابات ماصّة، وله كبد وله صفراء، وله بنكرياس وأوردة وشرايين وقلب، ورئتان وكليتان، وقصبتان ودماغ، ومخ ومخيخ، وبصلة سيسائية، ونخاع شوكي، وفقرات ظهرية وله عظام بعضها ثابت وبعضها متحرك، وعضلات وشعر، وأظافر، وله قوام وله نَفْس. (تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، 9/205)

ودقق النظر في ظاهرة النبات، فهي وحدها ظاهرة كافية كي تسجد لله سجود الطائعين الموقنين، فالبذرة التي تزرعها لها غلاف، ولها مخزون من المواد، ولها رشيم كائن حي، فإذا جاءته الرطوبة وجاءه الغذاء وجاءه الضوء، ينمو سويقاً وجذيراً ويصبح شجراً له صفات لا يعلمها إلا الله، فلك أن ترى عملية نمو النبات لتعلم كيف يُبدئ الله خلقه، فهذه البيضة التي تأكلها وتقول: أكلت اليوم بيضاً، لو بقيت تحت أمها لأصبحت حيواناً كاملاً فرخاً نسميه "صوصاً"، إذن من حوّل هذا السائل الأصفر والأبيض إلى كائن يتحرّك ويزقزق ويلوذ بأمه، ويكبر وينمو، ثم تأكل منه لحماً وتأكل منه طعاماً لذيذاً؟ الله عزّ وجل لم يبعدك عن وسائل الإيضاح، بل جعلها أمامك، وبثّها في كل مكان، فربّنا عزّ وجل يقول: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} ]الذاريات:20[، فكلمة {يُبْدِئُ} إما من الإبداء أي: الإظهار، أو من الابتداء، وكلاهما صحيح، فالله عزّ وجل يظهر لك قدرته وعظمته من معرفة خلقك، فأنت لا تعرف ماذا في أحشائك، في الإنسان أشياء معقدة. (تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، 9/206)

وتقول بعض النظريات الحديثة أن للكبد خمسة آلاف وظيفة، أي: أنّ له دوراً خطيراً جداً، إنّه مخبر مركزي، فبإمكانه أن يحوّل المواد الشّحمية الدهنيّة إلى مواد سكريّة، وبإمكانه أن يحول المواد السكرية إلى شحميّة، وهذا ما يفعله الكبد بقدرة الله عزّ وجل، وهو يفرز هرمون التجلّط وهرمون التمييع، ومن إفراز هذين الهرمونين على نحو دقيق يكون الدم بهذا القوام المناسب، فلو أفرز الكبد هرمون التجلط زيادة على حدّه الدقيق؛ لأصبح الدم وَحَلاً في الأوعية، ولو أفرز الكبد هرمون التميُّع زيادة عن حدِّه لسال دمُّ الإنسان كلِّه من رُعاف واحد، ومن تعطّل كبده، لا يستطيع أن يعيش أكثر من ثلاث ساعات.

وإذا قرأت في الفلك، تقرأ في ظهور مجرّات جديدة وعن اختفاء مجرّات وعن اتساع بعض المجرات، وعن الثقوب السوداء في الفضاء الخارجي، فإذا أردت أن تطلّع تماماً، تجد بدءاً للخلق ثم إعادة للخلق. (تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، 9/206)

وأما إعادة الخلق، فإن ربنا عزّ وجل في أكثر آيات الإيمان يذكر الإيمان باليوم الآخر مقترناً بالإيمان بالله؛ لأنك لن تستقيم على أمر الله إلا إذا أيقنت بوجود الله، وأيقنت بعلمه وأيقنت باليوم الآخر، فالله عزّ وجل أودع في هذه النفوس الشهوات وأعطاها قوى في الظاهر، فهذه القوى مع تلك الشهوات تندفع نحو مصالحها، فما الذي يُلجمها؟

يلجمها الخوف من الله والخوف من حسابه، وهذه المعرفة بالله عزّ وجل، واليقين بوقوف بين يدي الله عزّ وجل، ففي "المعجم الكبير" للطبري عن أم سلمة قالت: دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم وصيفة له، فأبطأت عليه فقال: لولا مخافة القَوَد يوم القيامة لأوجعتكِ بهذا السّواك.

       ‌أ-       {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}:

فليس في خلق الله شيء عسير عليه سبحانه وتعالى، ولكنّه يقيس للبشر بمقاييسهم، فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم وإلا فالبدء كالإعادة، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله، وإنما هو توجه الإرادة وكلمة: كن فيكون.

2.   قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ]العنكبوت:20[:

إنَّها دعوة ربانية للسير في الأرض، وتتبع صنع الله وآياته في الخلق والإنشاء، في الجامد والحيّ سواء ليدركوا أن الذي أنشأ يعيد بلا غناء. (في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/2729)

والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملّها القلب، وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة، وإنّ الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه، حتى إذا سافر وتنقل وساح، استيقظ حسّه وقلبه إلى كل مشهد، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة، مما كان يمرّ على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه، وربّما عاد إلى موطنه بحسٍّ جديد وروحٍ جديد؛ ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتمُّ به قبل سفره وغيبته، وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلاً عن حديثها؛ أو كانت لا تفصح له بشيء ولا تناجيه! فسبحان منزل القرآن، الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس.

       ‌أ-       {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}:

إنَّ التعبير هنا بلفظ الماضي {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} بعد الأمر بالسّير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق، يثير في النفس خاطراً معيناً ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى، وكيفية بدء الخليفة فيها، كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم؛ ليعرفوا منها خط الحياة، كيف نشأت؟ وكيف انتشرت؟ وكيف ارتقت؟ وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة: ما هي؟ ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أول كائن حي؟ ويكون ذلك توجيهاً من الله للبحث عن الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة.

ويخاطب القرآن الكريم البشر من خلال قصة إبراهيم - عليه السّلام - كما في هذه الآيات بما يتماشى مع توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعاً، ومستوياتهم جميعاً، وملابسات حياتهم ووسائلهم جميعاً؛ ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته، ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبداً.

وهذا من أهداف القصص القرآني في تقديم الدروس والعبر والفوائد عبر الأجيال المتعلقة بكتاب الله الكريم.

     ‌ب-     {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ}:

أي: كما أنَّ الشجرة في الخريف تجد أوراقه اصفرّت وأصبح خشباً، فتظن أنه خشب يابس، ثم يأتي الربيع فتزهر هذه الأشجار، ثم تورق فإذا هي بهجة للناظرين، وكل ذلك حصل وجرى بفعل الله سبحانه وتعالى. (تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، 9/209)

وفي قوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ}: أي: بعد النشأة الأولى التي تشاهدونها، وفي التصريح بلفظ الجلالة {اللَّهُ} إشارة إلى أنه وحده القادر على هذه النشأة، فلا يقدر عليها غيره، وأفاد التعبير عن الإعادة بالنشأة على أنهما نشأتان لا فرق بينهما، فكلاهما اختراع وإيجاد، وهما شأنٌ واحد من شؤونه تعالى، لا فرق بينهما بالأولية والآخرية. (التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، 6/379)

وهما اللتان يقرّ بهما المعذبون في النار يوم القيامة، وهم يسألون الله تعالى الخروج منها: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} ]غافر:11]. (في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2730).

     ‌ج-     {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}:

يبدأ الله تعالى الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة، وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن بما يعرفونه من تجاربهم المحدودة، فالله عزّ وجل يتصف بكمال القدرة وبطلاقة المشيئة وتمام الإرادة، فهو الفعّال لما يريد.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل لما قبلها، فمن علم قدرة الله تعالى على جميع الأشياء، التي منها النشأة الآخرة، لا يتصور أن يتردد في وقوع الإعادة بعد ما أخبر الله تعالى به. (تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، 21/366)

 

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: " إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين"، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

1. منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني، منى عبد الله بن داود، دار ابن حزم، بيروت، 1998م.

2. تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي، تحقيق: هاشم محمد علي بن حسين مهدي، دار طوق النجاة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1421هـ، 2001م.

3. تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، د. محمد راتب النابلسي، مؤسسة الفرسان، عمان، الأردن، ط1، 2017م- 1438ه..

4. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط 32، 2003 م.

5. التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، نخبة من كبار علماء القرآن وتفسيره بإشراف الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم، كلية الدراسات العليا والبحث العلمي، جامعة الشارقة، الإمارات العربية، 2010م.

6. إبراهيم عليه السلام خليل الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2021م.

 





التالي
مدى تأثير توازن القوى في شرعية المقاومة!
السابق
السويد.. دائرة الأحوال المدنية تقرر حظر إطلاق اسم "جهاد" على المواليد الجدد من أطفال المسلمين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع