مدى تأثير توازن القوى في شرعية المقاومة!
بقلم: محمد عياش الكبيسي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
بإزاء معركة الحديد والنار التي اندلعت في 7 أكتوبر، تشرين الأول بين المقاومة والاحتلال نشبت معركة أخرى في عالم التوجّهات والأفكار، ومن المسائل التي لا زالت تحظى بالاهتمام ويدور حولها الجدل؛ مسألة توازن القوى شرطا في تحقّق شرعية المقاومة.
لا بد من التفريق أولا بين نوعي الجهاد في الإسلام؛ جهاد الطلب (الغزو) وجهاد الدفع (المقاومة)، حيث يشترط في الأوّل ما لا يشترط في الثاني، كما أن جهاد الدفع ليس واحدا
صحيح أن بعض من يثير هذا التساؤل له موقف مسبق من المقاومة ومن حماس بالذات بدوافع أيديولوجية أو سياسيّة كحال كثير من السائرين في ركب التطبيع، أو المتحفظين على حركات (الإسلام السياسي) إلا أنه ينبغي أن لا ننكر وجود تيارات أخرى تثير هذا الموضوع من باب (الجدل الفقهي) البحت نظرا للاختلاف في تفسير بعض النصوص الشرعيّة ذات الصلة خاصة بعد تزايد الخسائر في صفوف النساء والأطفال إضافة إلى حملة التدمير الشامل والممنهج لكل مقوّمات الحياة وفي كامل قطاع غزّة، والذي تخشى منه المقاومة دائما أن يتحوّل هذا الجدل إلى حالة من التذمّر في حاضنتها الشعبية خاصة إذا كان هذا التذمّر مسنودا ببعض الفتاوى أو التفسيرات الدينيّة، مع أن الذي نراه ونسمعه من عامة أهل غزّة يوحي بقدر كبير من الصمود والتماسك حتى مع كل هذه الأهوال التي تقع عليهم.
ولتأصيل هذه المسألة لا بد من التفريق أولا بين نوعي الجهاد في الإسلام؛ جهاد الطلب (الغزو) وجهاد الدفع (المقاومة)، حيث يشترط في الأوّل ما لا يشترط في الثاني، كما أن جهاد الدفع ليس واحدا، فجهاد الدفع على حدود الدولة لمنع العدوّ من دخولها شيء كما حصل في معركة الأحزاب، ومجاهدته بعد دخولها شيء آخر، ومن ثمّ فتنزيل نصوص الغزو أو (الفتح) على حالات الدفاع عن النفس ومقاومة المحتل بكل أشكاله وصوره تنزيل في غير محلّه، بل الأصل أن الذي يدافع عن نفسه مهما كان ضعفه أمام عدوّه لا يلام حتى وإن أدّى ذلك إلى قتله، وقد صح عن النبيّ عليه الصلاة والسلام قوله: "من قتل دون ماله فهو شهيد".
نعم لقد تكلّم الفقهاء عن الانسحاب من المعركة وتجنّب المواجهة إذا كانت قوّتهم أقل من نصف قوّة العدوّ استنادا إلى قوله تعالى (الآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) ولذلك انسحب سيدنا خالد بن الوليد بجيشه من معركة مؤتة لما رأى الفارق الكبير في (توازن القوى) لكن الفقهاء هنا يتحدّثون عن الرخصة في الانسحاب وليس الوجوب بدليل أن هناك معارك أخرى لم ينسحب منها المسلمون كالقادسية واليرموك رغم قلة عددهم تجاه عدوّهم ورغم أنهم كانوا في حالة الطلب وليس الدفع، ثم إن الانسحاب إلى أين سيكون في حالة احتلال العدو للأرض؟
النماذج المختلفة من السيرة المطهّرة تعطي المرونة الكافية للمقاومة بعيدا عن الضغوط النفسية والعاطفية والتعبوية، وتحمّلها في الوقت نفسه مسؤولية اتخاذ القرار الصعب وتبعاته بأي اتجاه كان
ولكي لا يظنّ ظانّ أننا ندفع باتجاه المواجهة المفتوحة مع العدوّ مهما كانت النتائج المتوقعة لابد من توضيح أن الجهاد في الإسلام بكل أنواعه ينتمي إلى العبادات معقولة المعنى معقولة الغاية، فهو ليس أمرا تعبّديا محضا، ومن ثمّ كان لابد من التخطيط السليم لتحقيق غاياته على الأرض وليس لمجرد أداء الواجب أو الرغبة في الشهادة، أما إذا ترجّح خلاف ذلك فهنا لابد من إعادة النظر في الخطة وأدواتها وتوقيتاتها دون التخلّي عن مبدأ المقاومة، فلقد كان للصحابة رأيان مختلفين في مواجهة العدو يوم أحد بين من يرى مواجهة العدو داخل المدينة (حرب شوارع) وبين من يرى مواجهتهم على حدود المدينة، دون أن ينكر أحدهم على الآخر، ولقد كان النبيّ -عليه الصلاة والسلام- حريصا على تجنّب المواجهة يوم الأحزاب فأخذ بمشورة حفر الخندق، بل فكّر بدفع شطر من ثمار المدينة لبعض القبائل المتحالفة مع قريش، وفي الحديبية حرص النبيّ عليه الصلاة والسلام على عدم الاستجابة لاستفزازات قريش حتى تمكن من عقد (الهدنة) معهم وكان في ذلك الخير الكبير للمسلمين ولدولتهم ولدعوتهم.
إن هذه النماذج المختلفة من السيرة المطهّرة تعطي المرونة الكافية للمقاومة بعيدا عن الضغوط النفسية والعاطفية والتعبوية، وتحمّلها في الوقت نفسه مسؤولية اتخاذ القرار الصعب وتبعاته بأي اتجاه كان، مع التنبّه أيضا إلى أن المناقشة والمشاورة في هذه (الخيارات المفتوحة) ينبغي أن تتخذ مساقا آخر في حالة احتدام المعركة مهما كانت أسبابها، لأن التلاوم أثناء التلاحم لا يستفيد منه إلا العدو. وللحديث بقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين