الإنسان ذلك المعلوم
بقلم: التهامي مجوري
منذ ما يقارب القرن من الزمان أصدر العالم الفرنسي ألكسيس كاريل كتابه "الإنسان ذلك المجهول" في سنة 1935، الذي دون فيه ملاحظاته العلمية حول الإنسان ومكانته وواقعه في هذا العالم المادي البحت، القاصر عن احتضان الإنسان بأبعاده وقيمه الفاضلة، وحاول كاريل لفت انتباه الإنسانية إلى قصور عالم المادة عن إدراك أبعاد الإنسان وروحه وما تعلق به من مستلزمات الوجود؛ لأن طبيعة الإنسان وخلقته أعمق بكثير مما نرى منه وعلاقة ومدى ذلك بعالم المادة، الذي لا يمثل شيئا مقارنة بما يتمتع به الإنسان من مخزونات عجيبة.
ورغم أن كاريل بحكم تخصصه في علم الأحياء ركز على الجانب البيولوجي في معظم ما تناول من الإنسان، عرج على الجانب النفسي وعلى الجمال باعتباره من قضايا الإنسان المغفول عنها في إطار التطور العلمي التجريبي الذي أخضع كل شيء للمادة الناطقة.
وكأني بعنوان كتاب ألكسيس كاريل "الإنسان ذلك المجهول"، دعوة إلى الغرب الذي تبنى مفهوم الإنسان الطبيعي، الذي يخضع لقوانين الطبيعة وما تفرض عنه من التزاماتها، بحيث عد مجرد شيء من أشيائها، فالإنسان في الغرب هو محور الوجود، الذي تعمل الإنسانية لإسعاده وتمكينه من حقوقه الواجبة له ومن كل شيء، ولكنه في نفس الوقت هو شيء من أشياء هذا الوجود، يمكن التضحية به في أية لحظة.
ذكرني هذا الموقف من الإنسان ومكانته وموقعه من المنظور الكوني الغربي، بموفق العرب قديما من الله وموقعه في ثقافتهم، فكان بعضهم يصنع إلها من تمر أو حلوى، وإذا جاع أكله!! ذلك هو الغرب في موقفه من الإنسان، فالإنسان مقدس ومفضل ومكرم، ولكن يمكن التضحية به في أي لحظة؛ لأن الطبعية تدخل على الخط، فرجل المركز ليس كرجل الأطراف مثلا، والرجل الأبيض ليس كالرجل الملون، والرجل القوي ليس كالرجل الضعيف، والرجل الغني ليس كالرجل الفقير...، وهكذا؛ لأن الطبيعة تنتخب وتصطفي الأفضل والأصلح والأنفع في نظامها!!
ولذلك نجد أن جميع المدارس الغربية تتكلم عن حقوق الإنسان: حقه في العيش، في المأكل والملبس، وحقه في المشاركة في الحكم، وحقه في الحياة، وحقه في العمل، وتتحدث عن حريته في التعبير والتنقل وتنظبم نفسه، ولكن هذه المدارس كلها على اختلاف مشاربها، لا تتردد في التضحية بالإنسان، عندما تتعارض هذه القيم مع ما تهدف إليه من مصالح ومقررات قيم بمنظور الغرب، ومنها على سبيل المثال فكرة المن القومي.. فأمريكا باسم الأمن القومي، تنتقل إلى العراق وأفغانستان!!
فالغرب يتبنى الانتخاب الطبيعي؛ لأن الطبيعة تستغني عن كل ما لا يستطيع التكيف معها بالقدرة على مقاومة مصاعبها، فالشيخ والمريض مرضا مزمنا والعاطل عن العمل والعاجز الذي يتحول إلى عالة على المجتمع لا يحق له البقاء، وكذلك المجتمع الفقير والضعيف وكل من لا يتكيف مع المفهوم الغربي، ولذلك تقرر قتل هذا النوع من الإنسان، فردا كان أو مجتمعا عن طريق أفران الغاز، للتخلص من العجزة والعاطلين. والغرب يمارس التفريق العنصري بحيث يفرق بين الشعوب في التعامل، ويفرق بين الأعراق والألوان، ومن ذلك تعميق الهوة بين المركز والأطراف. المركز هو الغرب الذي ينتج المعرفة والتكنولوجيا وغير ذلك من المستهلكات المادية، وهو الذي عبر عنه مالك بن نبي بمحور واشنطن – موسكو، الذي يمثل منظومة فكرية واحدة ونظرة كونية واحدة، يعبر عنها بتطبيقات مختلفة، والأطراف هي باقي العالم المتخلف أو الذي في طريقه إلى النمو ومنه بالأساس محور طانجا – جاكرتا، الذي يمثل منظومة فكرية أخرى ومنظورا كونيا آخر، غير الذي يسير به الغرب نفسه وغيره.
وما يدعو كاريل للعلم به، باعتباره محهولا في الغرب، هو في الواقع معلوم في ثقافات أخرى، ومنها الثقافة الإسلامية التي تعرض للإنسان بطبيعته التي خلقه الله عليها بجميع مكوناته الخِلْقية والخُلُقية؛ بل إن القرآن الكريم الذي هو كتاب الثقافة الإسلامة الأول ينص على أن الإنسان مكرم (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء 70]، وأن الله أسجد إليه الملائكة (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [البقرة 34]، تثبيتا للتكريم الإلهي له وإقرارا لتفضيله على الكثير مما خلق الله.
وهذا التكريم والفضل الإلهيين، ليسا مجرد تعبير عن صفات للكمال الذي يتمتع به هذا الإنسان، وإنما هو من متطلبات التكليف التي هي من أظهر ما يتعلق بالإنسان حينما قبل تحمل الأمانة وقبل التكليف بإدارتها (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب 72]، وهذا المستوى من تحمل الأمانة يقتضي مستوى من الكمال والقدرات العالية التي تمكنه من القيام بهذا الواجب ومن ذلك العلم والقدرة والإرادة والحرية والحياة والقوة...إلخ، ولعل من أجلى صور الكمال التي يتطلبها المكلف هذه الصفات التي هي من فيوضات صفات الله سبحانه وتعالى، حيث أن الله متصف بهذه الصفات، العلم والقدرة والإرادة والحياة...، وذلك فيما يعرف عند العلماء بالصفات المشتركة.
وطبيعة التكليف الإلهي للإنسان تقتضي القدرة على الاختيار، بحيث يكون معدا لأن يطيع ويعصي، ويفعل الخير كما يمكن أن يفعل الشر (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد 10]؛ بل وصفه بما يستحق في كلتا الحالتين المترتبتان عن هذين النجدين (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين 4-6]، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ*وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ *قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا*قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) [طه 123-126].
ومن التكريم الإلهي الذي لا يقابله إلا المن الرباني، أن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، أي على أحسن خلقة وفي أفضل صورة، فمن حيث الخلقة هو في أحسن صورة، أما من جهة التكليف فهو معرض لأن ينزل إلى الدرجات التي تخل بهذه الصورة الأحسن، أما إذا استقام باتباع الهدي الإلهي فإنه يبقي على تلك الصورة ويزيدها وضاءة وكمالا ورفعة.
إذن نحن الآن أمام مخلوق حسن الصورة كامل الخلقة، معد بأدوات تؤهله لأن يكون على أحسن حال، ومعرض أيضا لأن يكون على العكس تماما، على أسوإ حال، وكل ذلك باختياره هو في إطار منظومة قيمية موضوعة بين يديه، تؤطر له علاقاته بالله وبالكون وبالحياة، وهذه المنظومة متضمَّنَة في مجموعة من ساحات للتفاعل الإنساني، وهي ساحات الوحي والخبرة التريخية ومظاهر الكون الفسيح.
وقد عبر الله عن هذه الصفة المزدوجة –الكمال/ النقص- في صورة حوار جرى بينه سبحانه وتعالى والملائكة وذلك في قوله تعالى (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة 30]، فقول الله للملائكة بأنه سيجعل خليفة في الأرض، ليس استئذانا لهم فيما قرر! كما أن تساؤل الملائكة ليس اعتراضا؛ لأن الله فعال لما يريد ولا يسأل عما يفعل؛ بل إن الملائكة بطبيعتها التي خلقت عليها لا يحق لها الاعتراض (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم 6].
ولكن الله أراد أن يبرز بهذا الحوار بينه وبين الملائكة، طبيعة الإنسان التي جبل عليها، وما بها من استعدادات للإفساد في الأرض وسفك الدماء، مقابل المطلوب منه في هذا الوجود، فالقرار الإلهي أراد لهذا الإنسان أن يكون خليفة له سبحانه في عمارة الأرض (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) [هود 61]، وسخر له كل ما يحتاج إليه في هذه المهمة (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية 13]، لتتقرر صورة الابتلاء الكاملة، في حرية الاختيار البشري التي لا يحدها شيء، فتجعل من التكريم الإلهي مرهونا ومرتبطا ارتباطا وثيقا بفضل التكليف، بحيث لا تلتقي العمارة والإفساد في الأرض وسفك الدماء في شخص واحد.
إن حركة التكليف هذه التي تعبر في مجملها عن مقدار التزام هذا الإنسان بما يريد الله منه، سواء فيما يتعلق بالعبادة التي هي علاقة بين العبد وربه، أو بالنسبة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان أو بالنسبة لعلاقة الإنسان بالكون والحياة، وذلك يكون بعملية إشباع لمكونات الإنسان الأربعة وهي: الروح والقعل والعاطفة والغريزة، وضبط التوازن بين أطرافها.
وهذه المكونات الأربعة كلها مسائل غائبة عن الحواس، ولكن كل إنسان يشعر بها لما لها من علاقة بعالم التكليف، من حيث هي وظائف تمارس بواسطتها إرادة الإنسان وقردته وعلمه وحياته.
فالروح وهي المكون الأخفى عن الإنسان، بحيث لا يشعر الإنسان بوظيفتها إلا في كون وجودها معبرا عن الحياة، وفقدانها معبرا عن الموت، فيقال للميت قد فقد روحه، أي انتزعت منه، بينما هي في الحقيقة لها وظيفة مهمة وهي وظيفة علاقة الإنسان بالغيب، إيمانا وتقديرا وتوقعا واستشرافا وتحسسا وطموحا وتعلقا بالمثل العليا ...إلخ.
فالروح ليست مجرد جسم لطيف كما يقال تنتزع من الإنسان عندما يحين أجله، فتفارق جسده، وإنما هي ذات وظيفة أكبر من مجرد التعبير عن الحياة ببقائها في الجسد، والتعبير عن الموت بمفارقته، حيث أن جميع ما يتعلق بالغيب لا يتحقق إلا بواسطة الروح؛ لأنها أحسن من يعبر عن ذلك، ولذلك يعبر الناس عن الأمور التربوية والسلوكية بالتربية الروحية؛ لأن آليات التربية الروحية تختلف عن الآليات الأخرى التي يعتمدها الإنسان في تحقيق المطلوب منه، وإنجاز الكاسب التي يسعى لتحقيقها. وقد جعل مالك بن نبي رحمه الله، الإقلاع الحضاري بدفعنه القوية، تحت سلطة الروح، حيث اعتبر أن الطاقة الروحية هي الأقوى على الاطلاق في البناء الحضاري عامة، فاستحضر لذلك القوة التي كان عليها الصحابة في بداية الدعوة بلال العبد... وفي مكة في صور صورة عنمار بن ياسر، الذي كان يحمل حجرين بدل حجر واحد في بناء المسجد، في مرحلة بناء المجتمع المسلم.
أما المكونات الثلاثة الأخرى فمهماتها واضحة وجلية ومضبوطة أيضا.
فمهمة العقل متعلقة بكل ما هو إدراك ومعرفة وبحث وتفكيك وتركيب، بينما الغريزة فمهمتها إشباع الجانب الحاجي، وتحقيق الحاجات التي يتطلبها الوجود الإنساني والمحافظة على بقائه، من مأكل ومشرب وملبس وجنس...، أما العواطفة فمهمتها تنمية المشاعر وتهذيبها.
ونشاط هذه المكونات الأربعة يكون في إطار منظومة معرفية قيمية متناغمة فيما بينها، يضمن حركية الإنسان وقيامه بما طلب منه أو شعر بالحاجة إليه، وكل ذلك مبسوط ومفصل في الوحي والخبرة الإنسانية والقوانين الناظمة لحركة الكون والإنسان والحياة.
قد يجهل الإنسان تفاصيل بعض مسائل الحياة، ولكنه يتمكن منها بمجرد شعوره بالحاجة إليها، ولذلك نلاحظ أن المكتشفات العلمية والإضافات التي شهدها العالم في كل العصور، لم تظهر طفرة أو في وقت واحد أو متقارب، وإنما ظهرت في فترات متباعدة زمنيا، وبين الحالة والأخرى مددا زمنية قد تمتد إلى عشرات السنين، وفق المراد الإلهي والمسار الذي تحدده حاجة الإنسان عبر الزمان، فما دام الإنسان لا يحتاج إلى الشيء يبدو وكأنه لا وجود له أصلا، ولكن عندما تبدو الحاجة والضرورة إلى الشيء يُكْتشف بصيغة ما، ولكن دائما في إطار الجهد الإنساني والكرم الإلهي الموفق لكل ما يريد الإنسان إنتاجه وبذل الوسع فيه (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء 20].
والإنسان بهذه الطبيعة، وهذه الخلقة، وبهذا القدر من التكريم الإلهي، لا يجوز له ولا لأي كان تعطيل شيء من هذه الحركية المفترضة، إلا بالقدر الذي يحقق هذه الطبيعة وهذه الخلقة، وما يتعلق بهما من القيام بالتكليف وتحقيق العمارة في الأرضة، وهذا التكريم الإلهي الذي خُصَّ به الإنسان، فلا ينبغي لهذا الإنسان التصرف في حياته فيفعل بها ما يريد خارج التكليف الإلهي، ولا أن يُكره على فعل شيء لا يريده، ولا أن يعطل أمر أراد النشاط فيه؛ لأن الله أراد لهذا الإنسان أن يكون مكرما وحرا ومختارا ومبدعا ليمارس وظيفته التكليفية على أحسن وجه، فله أن يلتزم فيجازى على التزامه، وله أن يعصي ويحاسب على عصيانه...، ومع ذلك يبقى كل إخلال بشيء متعلق بالإنسان، يخل بالضرورة بطبيعته التكليفية؛ لأن الإخلال بالتكليف الإلهي ليس مجرد معصية قاصرة، وإنما هو إخلال بالنظام الكوني العام، جزئيا أو كليا؛ لأن الله وضع سننه الناظمة للعلاقة بالوجود الإلهي والوجود الإنساني والوجود الكوني واحدة، من أخل بها أو ببعضها أخل بالمنظومة كلها جزئيا كلن الإخلال أو كليا.
فحرمان الإنسان من الحرية مثلا، يترتب عنه الحد من العطاء والإجتهاد، وتوقف الحس الإبداعي فيه تلقائيا...؛ بل ربما يموت فيه الشعور بالحرية أصلا، وكما قالت المناضلة الأمريكية ذات الأصل الزنجي، "أصعب ما كنت أعاني منه في نضالي من أجل تحرير ذوي البشرة السوداء هو إقناع العبد بأنه حر!!".
والاستبداد بالإنسان يولِّد فيه شخصية أخرى غير التي فيه، فيتولد فيه النفاق والكذب والروح العدوانية وحب الانتقام من الخصم أو الخضوع له بالمطلق...إلخ.
وهناك أمر آخر أثاره الفلاسفة قديما وحديثا، وهو هل الأصل في الإنسان الخير أم الشر؟ أي هل هو خير أم شرير؟
فيرى الكاثوليك من الديانة النصرانية أن الإنسان شرير بطبعه؛ لأنه يرث خطيئة جده الأول آدم عليه السلام، بسبب معصيته ربه عندما أكل من الشجرة، ومن ثم لا بد من القسوة عليه في تربيته حتى يتطهر من تلك الخطيئة، وفي نفس السياق يرى توماس هوبز أن الإنسان بطبيعته التي خلق عليها بشع همجي، لا يستقيم أمره إلا في إطار مجتمع وقواعد تضبط سيره وفق ما يحفظ الاستقرار، ومن ذلك السلطة الرادعة.
بينما جون جاك روسو لا يرى ذلك؛ لأن الإنسان يخلق لطيفا نقيا وإنما المحيط السيء هو الذي يصبغه بما فيه من شر، وبالتالي فالإنسان خَيِّر والواقع هو الذي يصنع منه شريرا.
ورأي ثالث هو أن الإنسان يولد صفحة بيضاء، لا خير فيها ولا شر، والمحيط او الواقع هو الذي يحنع منه خيرا أو شريرا.
والواقع ان الإنسان ليس خيرا ولا شريرا ابتداء، وإنما الواقع بما يغلب عليه من الخير والشر هو الذي يساعده على احتضان هذا التوجه أو ذاك، ولكنه في نفس الوقت ليس صفحة بيضاء، وإنما هو مبرمج على قبول منظومة سننية متناغمة مع حركة الوجود، بما زرع فيه من بذرة التوحيد (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) [الأعراف 172]، وهذه البرمجة لا تؤثر مسار التكليف وحرية الاختيار، وإنما هي برمجة ومطابقة لمنظومة القوانين التي تحكم الوجود كله.
فعندما نشتري جهاز كمبيوتر جديد، لا نستطيع تشغيله إلا بتنصيب نظام الاستغلال "ويندوز"؛ لأن الجهاز آلة للتشغيل، وعندما ننصب له نظام الاستغلال، حينئذ يطلب منها تنصيب البرامج التي نريد الشتغال بها، هل نريد برامج محاسبة أو برامج تصفيف والتوظيب، أو معالجة صور، او انتاج سمعي بصري...إلخ.
فالإنسان –الفطرة-، مثل جهاز الكمبيوتر قبل تنصيب نظام الاستغلال فيه؛ لأن نظام الاستغلال في الإنسان بمثابة المنظومة الفكرية التي يتبناها عندما يرشد، ليتحاكم إليها في كل ما يريد فعله في الحياة.
فالإنسان وإن كان مجهولا في المنظومة الغربية وفق كشوفات ألكسيس كاريل، باعتبار أن هذه المنظومة قاصرة على إدراك قيمة الإنسان الحقيقية، وهو لا يزال في إطار الكشف بين الحين والآخر، وكل يوم يكشف لنا الفكر الإنساني على قضايا كان يحهلها الإنسان من قبل، فإن هذا الإنسان معلوم بطبيعته التي خلق عليها في جميع الكتب السماوية، إذ لا يوجد في العالم من يعرفنا بالإنسان مثلما تعرفنا به الكتب السماوية؛ بل لا يمكن التعرف على الإنسان المعرفة الحقيقية إلا عبر كتاب سماوي كما يقول الأستاذ عباس محمود العقاد، في كتابه الإنسان في القرآن.
وقد لخصها لنا القرآن الكريم بأفضل ما يمكن التلخيص.
ـــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين