نماذج عُلمائية مُلهمة[2]: الخليفة أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)
بقلم: د. علي محمّد الصَّلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إن حياة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) هي الصفحة الأولى من تاريخ دولة الإسلام، بعد وفاة خاتم النبيين والمرسلين ورسول العالمين محمد ﷺ. وأبو بكر الصديق (رضي الله عنه) هو أول من اعتنق الإسلام من الرجال، وأول من جمع القرآن الكريم، وسمّاه مصحفاً، وهو من الصحابة العشر المبشرين بالجنة، وأول من سُمِّي خليفة، وأول من اتخذ بيت مالٍ للمسلمين، وكان من كبار الصحابة، وأكثرهم فضلاً وتفقهاً، وقُرباً من النبي ﷺ، ووزيره وصاحِبه في المحن والمنح. وهو خير القدوات من صحابة رسول الله ﷺ في الدين والدنيا، وهو الرجل الذي اختاره الله (عز وجل) ليكون ثاني اثنين مع خير خلق الله، واختاره النبي ﷺ ليكون إمام المسلمين، وقد قاد الخليفة الصدّيق (رضي الله عنه) أمة الإسلام في مرحلة مليئة بالتحديات والصعاب على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي والفكري والدعوي والجهادي.
أولاً: أبو بكر الصّديق (رضي الله عنه)؛ اسمه ونسبه وألقابه
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب التيمي القرشيّ، ويلتقي مع النبي ﷺ، في النسب في الجد السادس مرة بن كعب، ويكنى بأبي بكر، وهي من البكر والفتي من الإبل، وهو أبو قبيلة عظيمة، ولقب (رضي الله عنه) بألقاب عديدة كلها تدل على سموّ المكانة، وعلوّ المنزلة، وشرف الحسبظ، ومنها: العتيق حيث لقبه النبي ﷺ فقد قال له أنت عتيق الله من النار، وقد ذكر المؤرخون أسباباً كثيرة لهذا اللقب، فقد قيل إنما سمي عتيقا لجمال وجهه، ولأنه قديم في الخير، ولعتاقة وجهه، كما لقب بالصّديق، وهو المشهور عنه، وقد أجمعت الأمة على تسميته هذه، وذلك لسبقه في تصديق للنبي ﷺ، ومنها ألقاب أخرى كالصاحب لمصاحبة رسول الله ﷺ في الغار، وكذلك لقّب بالأتقى والأواه ([1]).
ثانياً: أبو بكر الصديق: مولده ونشأته، وأسرته
- مولده ونشـأته: ولد الصديق في مكة سنة 573م، أيّ بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، ونشأ فيها نشأة تشبه نشأة رسول الله ﷺ في التعفف، وجمع مكارم الأخلاق، وكانت نشأة طيبة صان الله بها عرضه، وحفظ له بها مروءته، ورفع بها قدره، وأعلا بها منزلته، وكانت نشأة صيانة ومروءة فما عبد صنماً، ولا شرب خمر، ولا قال شعراً، بل كان عفيفاً شريفاً، متصفاً بأفضل الصفات، جامعاً لمكارم الأخلاق، حتى وصفه المشركون بما وصفت به خديجة رسول الله ﷺ، قالت عائشة (رضي الله عنها): والله ما قال أبو بكر شعراً قط في جاهلية ولا إسلام، ولقد ترك هو وعثمان الخمر في الجاهلية ([2]).
- أسرته: أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم التيمي القرشي، وأسلم يوم الفتح، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن تيم بن مرة التيمية القرشية، وهي ابنة عمّ أبيه، وقد أسلمت قبل الهجرة.
- زوجاته وأولاده: تزوج أبو بكر -رضي الله عنه- 4 نسوة، وأنجبن له 3 ذكور و3 إناث، وزوجاته هن: قتيلة بنت عبد العزى والدة عبد الله وأسماء (رضي الله عنهما)، وكان قد طلقها في الجاهلية، واختُلِف في إسلامها، وتزوج أم رومان بنت عامر، وكانت مسلمة مهاجرة، وهي أم عائشة وعبد الرحمن (رضي الله عنهم)، كما تزوج أسماء بنت عميس إحدى المهاجرات الأوائل وأرملة جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنهما)، وأنجبت له محمداً، وتزوج حبيبة بنت خارجة، وهي أنصارية من الخزرج، وأنجبت له أم كلثوم بعد وفاته، وكان قد أقام عندها بديار أهلها في المدينة ([3]).
ثالثاً: صفاته الخَلقية والخُلقية
وأما صفته الخَلقية: كان يوصف بالبياض في اللون، والنحافة في البدن، وفي هذا يقول قيس بن أبي حازم: دخلت على أبي بكر (رضي الله عنه)، وكان رجلًا نحيفاً: خفيف اللحم أبيض، وقد وصفه أصحاب السير من أفواه الرواة فقالوا: إن أبا بكر اتصف بأنه: كان أبيض تخالطه صفرة، حسن القامة، نحيفاً خفيف العارضين، أجناً، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، رقيقاً معروق الوجه، غائر العينين أو حمش الساقين، وكان ناتئ الجبهة، وعاري الأشاجع، ويخضب لحيته وشيبه بالحناء والكتم ([4]).
صفاته الخُلقية: كان أبو بكر الصديق(رضي الله عنه) قبل الإسلام، من وجوه قريش وأشرافهم، وأحد رؤسائهم، وكان في المجتمع العربي، شريفاً من أشراف قريش، وكان من خيارهم، ويستعينون به فيما نابهم، وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد، وقد اشتهر بعدة أمور، منها؛ العلم بالأنساب: فهو عالم من علماء الأنساب وأخبار العرب، وفي هذا تروي عائشة –رضي الله عنها- أن رسول الله قال: (إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها)،وكان تاجراً في الجاهلية كان ينفق من ماله بسخاء وكرم عُرف به، هو موضع الألفة بين قومه وميل القلوب إليه: فقد ذكر ابن إسحاق في «السيرة» أنهم كانوا يحبونه ويألفونه، ويعترفون له بالفضل العظيم والخلق الكريم، وكانوا يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، ولم يشرب الخمر في حياته: فقد كان أعف الناس في الجاهلية، حتى إنه حرم على نفسه الخمر قبل الإسلام، فقد قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: حرم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا في إسلام، كما أنه لم يسجد لصنم: ولم يسجد الصديق لصنم قط، قال أبو بكر( رضي الله عنه) في مجمع من أصحاب رسول الله ﷺ: ما سجد لصنمٍ قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي، فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني فلم يُجبني، فقلت: إني عارٍ فاكسني فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه ([5]).
رابعاً: أبو بكر الصديق (رضي الله عنه): عِلمه وفقهه وورعه
1. علمُ الصّديق
تربّى الصِّدِّيق (رضي الله عنه) على يدي رسول الله ﷺ، وحفظ كتاب الله تعالى، وعمل به في حياته، وتأمله كثيراً، كما أن التربية النبوية على مكارم الأخلاق وملازمة الصديق للنبي ﷺ جعلت منه عالما حقيقياً، فقد كان الصِّدِّيق من أعلم الناس بالله، وأخوفهم له، وقد اتَّفق أهل السُّنَّة على أنَّ أبا بكرٍ أعلم الأُمَّة، وحكى الإجماع على ذلك غيرُ واحدٍ، وسبب تقدُّمه على الصَّحابة كلهم في العلم، والفضل ملازمتُه للنبيِّ ﷺ، فقد كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضر.
لقد استعمله النبيُّ ﷺ على أوَّل حجَّةٍ حُجَّت من مدينة النبيِّ ﷺ، وعلمُ المناسك أدقُّ ما في العبادات، ولولا سعة علمه؛ لم يستعمله، وكذلك الصَّلاة استخُلِفَ عليها، ولولا علمه لم يُستخلف، ولم يستخلف غيره لا في حجٍّ ولا في صلاةٍ، وكتاب الصَّدقة التي فرضها رسول الله ﷺ أخذه أنس من أبي بكرٍ، وهو أصحُّ ما روي في بابها، وعليه اعتمد الفقهاء، وغيرهم، في كتابه ما هو متقدِّم منسوخٌ، فدلَّ على أنَّه أعلم بالسُّنَّة النَّاسخة، ولم يُحفظ له قولٌ يخالف فيه نصّاً، وهذا يدلُّ على غاية البراعة، والعلم، وفي الجملة لا يُعْرَف لأبي بكرٍ مسألةٌ في الشَّريعة غلط فيها، وقد عرف لغيره مسائلُ كثيرةٌ، وكان (رضي الله عنه) يقضي، ويفتي، بحضرة النبيِّ ﷺ، ويقرُّه، ولم تكن هذه المرتبة لغيره، وقد ظهر فضل علمه، وتقدُّمه على غيره بعد وفاة الرَّسول ﷺ، فإن الأُمَّة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصَّلها هو بعلمٍ يبيِّنه لهم، وحجَّةٍ يذكرها لهم من الكتاب والسُّنَّة، وذلك لكمال علم الصِّدِّيق، وعدله، ومعرفته بالأدلَّة التي تزيل النِّزاع، وكان إذا أمرهم؛ أطاعوه. كما بيَّن لهم موتَ النبيِّ ﷺ، وتثبيتهم على الإيمان، ثمَّ بيَّن لهم موضع دفنه، وبين لهم ميراثه، وبين لهم قتال مانعي الزَّكاة لما استراب فيه عمر، وبين لهم: أنَّ الخلافة في قريش، وتجهيز جيش أسامة، وبيَّن لهم: أن عبداً خيَّره الله بين الدُّنيا والآخرة، هو رسول الله ﷺ ([6]).
رأى رسول الله ﷺ له رؤيا تدلُّ على عِلمه، فعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: «رأيت كأني أعطيت عُسّاً مملوء لبناً، فشربت منه حتى تملأتُ، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد، واللَّحم، ففضلت منها فضلةٌ، فأعطيتها أبا بكرٍ». قالوا: يا رسول الله، هذا علمٌ أعطاك الله حتى إذا تملأت منه، فضلت فضلةٌ، فأعطيتها أبا بكر، فقال ﷺ: «قد أصبتم» ([7]).
وكان الصِّدِّيق (رضي الله عنه) يرى: أنَّ الرؤيا حقٌّ، وكان يجيد تأويلها، وكان يقول إذا أصبح: من رأى رؤيا صالحةً فليحدِّثنا بها، وكان يقول: لأن يرى رجلٌ مسلمٌ مُسْبِغُ الوضوء رؤيا صالحةً أحبُّ إليَّ من كذا، وكذا ([8]).
لقد كان الصديق (ضي الله عنه) عالماً فطناً، فقد تعلم عن رسول الله ﷺ، ومتواضعاً وفياً، وصاحب فهمٍ، وفتوى، وشورى، حافظاً لسر النبي ﷺ مؤثراً له، وكان ورعاً تقياً نقياً، وأميناً على هذا العلم العظيم، وهو علم القرآن الكريم، وقول رسول الله ﷺ.
خامساً: دعوة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)
أسلم الصديق (رضي الله عنه)، وحمل الدعوة مع النبي ﷺ، وتعلم من رسول الله أن الإسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن الإيمان لا يكمل حتى يهب المسلم نفسه وما يملك لله رب العالمين، وكان تحرك الصديق في الدعوة إلى الله بجلاء صورة من صور الإيمان بهذا الدين، والاستجابة لله ورسوله، صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر (رضي الله عنه)، وحماسته للإسلام إلى أن توفاه الله -عز وجل- فلم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز.
كانت أول ثمار الصديق (رضي الله عنه) الدعوية، دخول صفوة من خيرة الخلق في الإسلام، وهم: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم ابن أبي الأرقم (رضي الله عنهم)، وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى، فأسلموا بين يدي رسول الله، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العُدَّة الأولى في تقوية جانب رسول الله وبهم أعزه الله وأيده، وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، رجالاً ونساء، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم، رعيل السابقين ([9]).
ومن مواقف الصديق الدعوية: إنفاقه ماله في سبيل اللَّه تعالى: فعندما أسلم أبو بكر (رضي الله عنه) كان من أثرى أثرياء قريش، فكانت عنده أموال كثيرة، وقد كان في منزله يوم أسلم أربعون ألف درهم أو دينار، فاستخدم أمواله كلها في طاعة اللَّه، بما فيها إنفاقه المال في إعتاق الرّقاب: فقد أعتق رضي الله عنه رقاباً كثيرة، حُفِظَ منهم سبع رقاب: بلال، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والهندية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، وجارية بني مؤمل، وأم عبيس، رضي اللَّه عن الجميع، وقد كانت هذه الرقاب يُعذّب معظمها على إسلامها، فأنقذها اللَّه بأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأخذ رضي الله عنه ينفق أمواله في خدمة الإسلام والمسلمين ([10]).
وهكذا، كان أبو بكر (رضي الله عنه) لطيفاً، ووديعاً، وزاهداً في الدنيا؛ متقشفاً، وعادلاً، وغير طامع في ملكٍ أو غنىً، بل كان همهُ نشر الإسلام، وتوطيد أركانه، واِتباع سنة رسول الله ﷺ.
سادساً: ما قيل عن أفعال وأفضال أبي بكر الصديق
عن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنها)، قالت: جاء الصريخ إلى أبي بكر، فقيل له: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإنَّ له غدائره فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم: «أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ) [غافر: 38] قال: فلّهوا عن رسول الله ﷺ وأقبلوا إلى أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر، فجعل لا يمس شيئاً من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
وعن أنس (رضي الله عنه) قال: لما كان ليلة الغار قال أبو بكر: يا رسول الله دعني أدخل قبلك؛ فإن كان حيّة أو شيئاً كانت لي قبلك، قال: «ادخل». فدخل أبو بكر(رضي الله عنه)، فجعل يلتمس بيده كلما رأى جحراً قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر، حتى فعل ذلك بثوبه أجمع.
قال: فبقي جحر فوضع عَقِبه عليه؛ ثم أدخل رسول الله فلما أصبح قال له النبي ﷺ: «فأين ثوبك يا أبا بكر؟» فأخبره بالذي صنع؛ فرفع رسول الله ﷺ يديه وقال: «اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة، فأوحى الله عز وجل إليه: إن الله تعالى قد استجاب لك.
وعن الزهري قال: قال رسول الله ﷺ لحسان: «هل قلت في أبي بكر شيئاً؟؛ فقال: نعم فقال: «قل، وأنا أسمع». فقال: وثاني اثنين في الغار المنيف، وقد طاف العدوً به إذ صعّد الجّبلا
وكان حب رسول الله قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا.
فضحك رسول الله له، حتى بدت نواجذه؛ ثم قال: (صدقت يا حسان؛ هو كما قلت)، وقال المدائني: وكان ردفٌ رسول الله، وعن عمر بن الخطاب قال: أمرنا رسول الله ﷺ أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقتُه يوماً، قال: فجئت بنصف مالي، قال: فقال لي رسول الله ﷺ: (ما أبقيت لأهلك؟؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله ﷺ: «ما أبقيت لأهلك؟» فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقلتٌ: لا أسابقك إليّ شيء أبداً، وعن قيس قال: اشترى أبو بكر (رضي الله عنه) بلالاً، وهو مدفون في الحجارة» بخمس أواقٍ ذهباً فقالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعناك. قال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته ( [11] ).
سابعاً: ابتلاء الصديق (رضي الله عنه)
أوذي أبو بكرٍ (رضي الله عنه)، وحُثي على رأسه التُّراب، وضرب في المسجد الحرام بالنِّعال، حتى ما يُعرف وجهُه من أنفه، وحُمِل إلى بيته في ثوبه، وهو ما بين الحياة والموت، وقد روت أم المؤمنين عائشة (رضي الله تعالى عنها): أنَّه لمّا اجتمع أصحاب النبيِّ ﷺ، وكانوا ثمانيةً وثلاثين رجلاً؛ ألحَّ أبو بكرٍ (رضي الله عنه) على رسول الله ﷺ في الظُّهور، فقال: يا أبا بكر! إنّا قليلٌ. فلم يزل أبو بكرٍ يلحُّ حتى ظهر رسول الله، وتفرَّق المسلمون في نواحي المسجد كلُّ رجلٍ في عشيرته، وقام أبو بكرٍ في النَّاس خطيباً، ورسول الله ﷺ جالسٌ، فكان أوَّل خطيب دعا إلى الله تعالى، وإلى رسوله ( [12]).
وثار المشركون على أبي بكرٍ (رضي الله عنه)، وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر، وضُرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكرٍ (رضي الله عنه)، حتى ما يُعْرَف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكرٍ، وحَمَلت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتّى أدخلوه منزله، ولا يشكُّون في موته، ثمَّ رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد، وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتل عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكرٍ، فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلِّمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلَّم آخر النَّهار، فقال: ما فعل رسول الله ﷺ؟ فمَسُّوا منه بألسنتهم، وعذلوه، وقالوا لأمِّه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً، أو تسقيه إيّاه، فلمّا خلت به؛ ألحَّت عليه، وجعل يقول: ما فعل ﷺ؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك! فقال: اذهبي إلى أمِّ جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت؛ حتى جاءت أمَّ جميل، فقالت: إنَّ أبا بكرٍ سألك عن محمَّد بن عبد الله، فقالت: ما أعرف أبا بكرٍ، ولا محمَّد بن عبد الله، وإن كنت تحبِّين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دَنِفاً، فدنت أمُّ جميل، وأعلنت بالصِّياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر! إنَّني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمُّك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالمٌ صالحٌ، قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإنَّ لله عليَّ ألاّ أذوق طعاماً، ولا أشرب شراباً، أو آتي رسول الله، فأمهلتا حتّى إذا هدأت الرِّجْلُ، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله ﷺ، فقال: فأكبَّ عليه رسولُ الله فقبَّله، وأكبَّ عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله ﷺ رقَّةً شديدةً، فقال أبو بكر: بأبي، وأمِّي يراسل الله! ليس بي بأسٌ إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أُمِّي بَرَّةٌ بولدها، وأنت مُباركٌ، فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنفذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله ﷺ، ودعاها إلى الله، فأسلمت ([13]).
ثامناً: وفاة الصديق (رضي الله عنه)
توفي الخليفة أبو بكر (رضي الله عنه) لثمان بقين من جمادى الآخرة ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكان قد سمه اليهود في أرز، وقيل في حريرة، وهي الحساء، فأكل هو والحارث بن كلدة، وقال لأبي بكر: أكلنا طعاماً مسموماً، سم سنة، فماتا بعده بسنة، وقيل: إنه اغتسل، وكان يوماً باردًا، فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة، فأَمر عمر الفاروق أن يُصلي بالناس. ولما مرض قال له الناس: ألا ندعو الطبيب؟ فقال: أتاني وقال لي: أنا فاعل ما أريد، فعلموا مراده، وسكتوا عنه ثم مات. وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال، وأوصى أن تُغسله زوجته أسماء بنت عميس، وابنه عبد الرحمن، وأن يُكفن في ثوبيه، ويشتري معهما ثوباً ثالث، وقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هو للمهلة والصديد، ودفن ليلة وفاته وصلى عليه عمر بن الخطاب، وكبر عليه أربعًا في مسجد رسول الله ﷺ بين القبر والمنبر، ودخل قبره ابنه عبد الرحمن وعمر وعثمان وطلحة، وجعل رأسه عند كتفي النبي (صلى الله عليه وسلم)، وألصقوا لحده بلحد النبي ﷺ، وجعل قبره مثل قبره مسطحًا، وناحت عليه عائشة والنساء، فنهاهن عن البكاء عمر، وكان آخر ما تكلم به: توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين، وكانت عائشة (رضي الله عنها) تمرضه ([14]).
خلاصة القول
إن سيرة الصديق (رضي الله عنه) المشرقة، وأعماله المباركة، وعلمه وفقهه، وعدله، وصفاته، خُلدت عبر الأزمان، فكل مسلم يعرف سيرة رسول الله ﷺ ويتلو صحائفها المنيرة، لا ينفك يذكر معها سيرة صاحبه الأمين وصديقه الجليل أبي بكر (رضي الله عنه)، فلقد بدأ حياته في الإسلام بأمر جليل، وتوسط حياته في الدعوة بأمر جليل، وختم حياته مع النبي الكريم ﷺ بأمر جليل، وافتتح خلافته بأعمال باهرة، ووضع دستور دولته وبرنامجه السياسي في خطبته، وعمل على توطيد الدولة بحكمة وعدل، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ومتابعة لأمر قادته، ووصاياه لهم بالإحسان والرفق، وقد استطاع أن يأخذ بزمام القيادة (رضي الله عنه)، فلله در الخليفة الصديق، هذا الرجل العظيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
[1]أبو بكر الصديق، علي الطنطاوي، دار المنارة، جدة، السعودية، ط3، 1986م.ص43 ـ 53
[2] أبو بكر الصديق شخصيته وعصره، د. علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط9، 2011م، صـ 20
[3] أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، محمد رضا، دار إحياء الكتب العربية، ط2 مصر، 1950م، ص16 ـ 19.
[4] لمحات من سير المبشرين، أبو سفيان السلمي، مكتبة النور، ط1، 2018م، ص 18.
[5] الصلابي، أبو بكر الصديق، ص24.
[6] أبوبكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة، حمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، دار القاسم، الرياض، ط1، 1996م.ص60.
[7] خطب أبي بكرٍ الصِّدِّيق، محمد أحمد عاشور، جمال عبد المنعم الكومي، دار الاعتصام، مصر، ط1، 1994م، ص 155.
[8] تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي، عني به إبراهيم صالح، دار صادر، بيروت، ط1، 1997م، ص129.
[9] أبو بكر الصديق، الصلابي، ص31
[10] السيرة النبوية، ابن هشام، دار الصحابة للتراث، طنطا، مصر، ط1، 1995م، ص340.
[11] صفوة الصفوة، جمال الدين ابن الجوزي، حققه خالد الطرطوسي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 2012، ص96.
[12] أبوبكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، محمد رضا، دار إحياء الكتب العربية، ط2 مصر، 1950م.ص10
[13] الكامل في التاريخ، ابن الأثير، تحقيق على شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1989م، ج3/ص30.
[14] أبو بكر الصديق خليفة رسول الله، عبد الستار الشيخ، دار القلم، دمشق، سوريا، ط1، 2011م، ص728.