(سلسلة خطبة الجمعة) | التحذير من الغفلة عن المصير المحتوم
الشيخ بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عباد الله، يقول تعالى في محكم التنزيل في سورة القمر: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]، يخبرنا سبحانه وتعالى في هذ الآية، أن كل شيء خلقه سبحانه بمقدار قدّره وقضاه، وسبق علمه به، وكتابته له في اللوح المحفوظ. لهذا ما من شيء خلقه الله عز وجل في الإنسان، إلا وجعل فيه حكمة، وبيّن القدر الصالح فيه، وذلك بمقياس الشريعة الإسلامية، إذ النقص منه، أو الزيادة فيه، ضرر بالفرد، ولا يمكن بالتالي الاستغناء عما خلقه الله عز وجل في هذا الإنسان، فهو سبحانه وتعالى منزه عن العبث.
فهذه الغفلة مثلا، قد يقول قائل: ما الفائدة منها بالنسبة للإنسان؟ الجواب على ذلك نسمعه من فم أحد العارفين بالله، وهو مطرّفُ بن عبد الله بن الشخير رحمه الله، وهو من التابعين، إذ يقول: ( لو علمت متى أجلي، لخشيت على ذهاب عقلي، ولكن الله تعالى منّ على عباده بالغفلة عن الموت، ولولا الغفلة ما تهنّؤوا بعیش، ولا قامت بينهم الأسواق)، وقال الحسن البصري رحمه الله، وهو كذلك من التابعين: (السهو والأمل نعمتان عظيمتان على بني آدم، ولولاهما ما مشى المسلمون في الطرق)، ولكن يا للأسف على هذا الإنسان، الذي أساء استعمال هذه النعمة، فغفل كلية عن مصيره المحتوم، وغفل عن يوم الآخرة، واشتغل بالدنيا الزائلة، بل إن كل ما حواليه من أمور، إلا وتذكره بالدنيا، وتحببها له، في حين أنها تلهيه عن الدار الآخرة، وتنسيه فيها، لهذا تجدنا نسارع إلى أمور الدنيا، ونتسابق عليها، ونتوانى ونتكاسل في أمور الآخرة، قال الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه: (ثلاث أعجبتنى حتى أضحكتنى: مُؤمّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس يُغفل عنه، وضاحك ملء فيه، ولا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض. وثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة؛ محمد وحزبه. وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله، ولا أدري إلى الجنة يؤمر بي أو إلى النار).
عباد الله، أي جو في مجتمعنا يوقظنا من الغفلة عن الآخرة، أنبقى على حالنا حتى تباغتنا الموت؟! إن سلفنا الصالح، كان كل واحد منهم يستغل الفرصة ليذكر إخوته بمصيرهم، ويوقظهم من الغفلة التي قد يتمادى فيها الإنسان؛ فتضر به، بل كانت جل الرسائل التي يتبادلونها بينهم رغم اختصارها، مركزة على إيقاظ الهمم، والتذكير بالآخرة، فهذا رجل كتب إلى أخ له يذكره وينصحه، تُرى ماذا قال له؟ هل قال له: يا أخي؛ لا تنس من تحسين وضعيتك الاقتصادية، فكل أصدقائك الذين درسوا معك قد بنوا الدور، وزينوا الفيلات والقصور؟! لقد قال له في إيجاز لا يتجاوز سطرا ونصف، لكنه يزهد في الدنيا، ویرغّب في الآخرة، ويوقظ من الغفلة، قال له :(أما بعد : فإن الدنيا حلم؛ والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، و نحن في أضغاث أحلام؛ والسلام). وكتب آخر إلى أخ له يقول: (الحزن على الدنيا طويل، والموت من الإنسان قریب، وللنقص في كل يوم منه نصيب، وللبلاء في جسمه دبيب، فبادر قبل أن تنادى بالرحيل، والسلام).
عباد الله، كان الواحد منهم لا يقول حتى في نفسه، فضلا عن أن يقول ذلك لمن ينصحه: “إن هذه الأمور معروفة، فلا أكتبها لأخي أو صديقي في الله، حتى لا أكدر عليه صفو عیشه، بل كان يعرف أن الإنسان قد تنتابه الغفلة، فينسى مصيره، ويقسو قلبه، فيذكر أخاه بالآخرة عند الالتقاء به، كما كان يذكره بالمراسلة إذا نأى عنه، في حين، أننا اليوم، زمن الغفلة، لا نسأل إلا عن أمور دنيانا عند الالتقاء بيننا، فإذا قال لك الشخص: أنا بخير وعلى خير، فاعلم أنه يقصد أن التجارة مربحة، والأمور الدنيوية على أحسن حال، أما أمور الآخرة، فقد تجده لا يصون لسانه، كما لا يصون عرض زوجته وبناته، ولا يتعفف عن أكل الحرام، ولا يحافظ على صلواته الخمس، وحتى إذا صلى، لا يستحضر فيها عظمة الله، ولا يؤديها بخشوع، ولا يحرص على تكبيرة الإحرام مع الجماعة..
عباد الله، هذا أحد الأشخاص من سلفنا الصالح، كتب رسالة إلى أخيه فقال: (من محمد بن يوسف، إلى عبد الرحمن بن يوسف)، – اسمعوا عباد الله؛ إنه ليس في الرسالة تهنئة بالعرس، أو النجاح في الحصول على شهادة من الشواهد، أو جدال لا يزيد القلوب إلا نفورا، بل فيها كلام موجز، يذكر بأهوال یوم القیامة، وشؤون الآخرة، والتذكير بها، وإليكم نص الرسالة: ( سلام عليك، فإني أحمد الله إليك، الذي لا إلاه إلا هو، أما بعد: فإني أحذرك متحولك من دار مهلتك إلى دار إقامتك، وجزاء أعمالك، فتصير في قرار الأرض بعد ظاهرها، فيأتيك منكر ونكير، فيقعدانك، وينتهرانك، فإن يكن الله معك فلا بأس، ولا وحشة، ولا فاقة، وإلا يكن غير ذلك، فأعاذني الله وإياك من سوء مصرع، وضيق مضجع، ثم تبلغك صيحة الحشر، ونفخ الصور، وقيام الجبار لفصل قضاء الخلائق، وخلاء الأرض من أهلها، والسماوات من سكانها، فباحت الأسرار، وأُسعرت النار، ووُضعت الموازين، وجيء بالنبيئين والشهداء والصالحين، وقضي بينهم بالحق، وقيل: الحمد لله رب العالمين، فكم من مفتضح ومستور، وكم من معذب ومرحوم، فيا ليت شعري، “أي ليتني أعرف الحقيقة”، ما حالي وحالك يومئذ؟ ففي هذا ما هدّم اللذات، وأسلى عن الشهوات، وقصر عن الأمل، وأيقظ النائمين، وحذر الغافلين، أعاننا الله وإياكم على هذا الخطر العظيم، وأوقع الدنيا والآخرة من قلبي وقلبك موقعهما من قلوب المتقين، فإنما نحن به وله، والسلام).
عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بوجوب إحياء هذه السنة الحسنة الحميدة، واجعلوا جل رسائلكم على هذا المنوال، فإذا كانت لقاءاتنا تذكر بالآخرة، ورسائلنا تذكر بيوم الميعاد، وجُمعنا تذكر بيوم التلاقي، كما كانت جُمع الرسول صلى الله عليه وسلم، وخطب الخلفاء الراشدين رضي الله عليهم من بعده، فإننا سنطرد لا محالة الداء الذي كان سببا في تمزق شمل الأمة الإسلامية، واختلاف كلمتها، وتفرق صفها، هذا الداء، الذي هو الوهن، والذي هو حب الدنيا وکراهية الموت، الداء الذي سبب في تجرؤ الكفار علينا.
عباد الله، انتبهوا من رقدتكم، واستدركوا بقية أعماركم، واحذروا الانهماك في دار الغرور، فالویل كل الويل لكم، إن أدرككم الموت وأنتم على هذه الحالة، زینتم المنازل والفيلات والقصور، ونسيتم القبور.
عباد الله، اذكروا القبر وظلمته ووحشته، والموت وسكرته، والميزان وخفته أو رجحته، والكتاب وأخذته، والصراط ودقته.
فيا عبد الله، لا تغفل، ويا أمة الله لا تغفلي، ولا تغفل يا أيها الشاب، ولا أنت يا أيتها الشابة عن الموت الذي يباغتكم، والقبر الذي ينتظركم، وعن يوم القيامة الذي سيهولكم، اليوم الذي وصف الله لنا بعض دواهيه، وأكثر من أساميه، ليقف كل واحد منا على معانيه، إذ ليس المقصود بكثرة الأسامي، تَكرار الألقاب، بل الغرض تنبيه أولي الألباب، فهل أنت منهم يا عبد الله، أم أنت من الغافلين، ألا تعلم يا عبد الله، أن لكل اسم من أسماء القيامة سر، وفي كل نعت من نعوتها معنى، فكن يا أيها المؤمن حريصا على معرفة معانيها، فهي يوم القيامة، ويوم الحسرة، ويوم الندامة، ويوم المحاسبة، ويوم الزلزلة، ويوم الصاعقة، ویوم الواقعة، ویوم القارعة، ويوم الغاشية، ويوم الراجفة، ويوم الحاقة، ويوم الطامة، ويوم الصاخة، ويوم التلاق، ويوم التناد، ويوم الجزاء، ويوم الوعيد، ويوم العرض، ويوم الوزن، ويوم الفصل، ويوم الجمع، ويوم البعث، ويوم الخزي، ويوم عسير، ويوم الدين، ويوم النشور، ويوم الخلود، ويوم لا ريب فيه، ويوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا، ويوم تشخص فيه الأبصار، ويوم يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، ويوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بلقب سليم.
عباد الله، تدبروا كتاب الله، وتدارسوه لتطّلعوا على حقائق يوم القيامة، ومعرفة معاني أساميه، لتتخلصوا من دواهيه، فذاك هو العلم النافع الذي قال تعالى فيه من سورة الروم: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 6، 7]، واعلموا أن الله عز وجل قد أرسل سيد المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنزل عليه الكتاب المبين، وأخبرنا بصفات يوم الدين، استجابة لأمر رب العالمين، الذي قال سبحانه في سورة مريم: ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم: 39، 40].
عباد الله، رغم كل هذا التخويف، وهذه الحقائق، فإن الغفلة طمست القلوب، فلهت واشتغلت، فلا تكن يا عبد الله منهم، من الذين قال الله تعالى فيهم من سورة الأنبياء: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء: 1 – 3].
فيا عباد الله، استيقظوا من غفلاتكم، قبل مفاجأة المنية، وحلول الرزية، ووقوع البلية، حيث لا مال ولا ولد نافع، ولا حميم شافع، ولا فرح واقع، ولا رجاء طامع، ولا حياة تعاد، ولا عثرة تقال، ولا رجعة تنال، فعندئذ تعترف يا عبد الله بالحق، وتقول وأنت تدعو على نفسك بالويل والثبور، كما جاء في سورة الأنبياء: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ؛ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ) [الأنبياء: 97 – 100]، فاللهم نجنا من الغفلة، ومن صحبة الغافلين، آمين، والحمد لله رب العالمين.