التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، ومخاطره الاقتصادية والسياسية
بقلم: الدكتور أحمد الإدريسي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
يسعى الكيان الإسرائيلي إلى التواصل مع العرب وغيرهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، أفرادا كانوا أم مؤسسات وبكافة الأشكال، بهدف إزالة الحواجز النفسية تجاه الاحتلال والتستر عن جرائمه بكل أنواعها، والاستغناء عن المقاومة. كما أن الاحتلال لا يتطلع إلى التطبيع فقط مع الأنظمة، إنما يُركّز في علاقاته على كل الأبعاد؛ السياسية والاقتصادية، والرياضية أو الثقافية والإعلامية لاختراق الشعوب من خلالها، بهدف هزيمة العقلية العربية.
أولا: معنى التطبيع مع الكيان الصهيوني.
1- مفهوم التطبيع:
يحمل جدر “طبع” معاني كثيرة في اللغة العربية، ومنه التطبيع، التطبع بمعنى أن يألف الإنسان شيئا حتى يصير طبعا فيه، أو تداول أمر ما في المجتمع حتى يصير طبيعيا أي مألوفا وعاديا. وتـدُل كلمة طَـبِعَ كل معاني الدناءة والفساد، فنقول طَبِعَ الوَلَدُ: دُنِّسَ فِي جِسْمِهِ أَوْ أَخْلاَقِهِ. وطَبِعَ الْمَعْدِنُ: عَلاَهُ الصَّدَأُ. وطَبِعَ الثَّوْبُ: اِتَّسَخَ. وطَبِعَ فلانٌ: لم يكُنْ له نفاذٌ في مكارِم الأُمور ونحوِها.
و”التطبيع” مصدر طَبَّعَ، ومعناه: “دعَا إِلى تَطْبِيعِ العَلاَقَاتِ مَعَ العَدُوِّ وإِلى جَعْلِهَا عَادِيَة”. وكل ذلك يرمي إلى ما نحن بصدد من التطبيع مع الكيان الصهيوني.
والتطبيع من المصطلحات التي تحمل الكثير من المعاني والتفسيرات والتحليلات التي يراها البعض جريمة لا تُغتفر. ولكن ما هو التعريف الدقيق لهذا المصطلح والذي ينطبق على دولة فلسطين والتعامل مع الاحتلال القائم على أراضيها على وجه التحديد؟
2- معنى التطبيع مع الكيان الصهيوني:
التطبيع هو: إقامة علاقات شراكة أو مبادرة أو مشاريع متبادلة محليا ودوليا بطريقة مباشرة أو بشكل غير مباشر بين الفلسطينيين أو العرب وبين الكيان الإسرائيلي سواء كانوا أفراد صهاينة أو مؤسسات إسرائيلية.
والتطبيع السياسي والاقتصادي فهو: “إعادة صياغة العلاقة، بين بلدين بحيث تصبح علاقات طبيعية”. ولكن هناك خلل في المفهوم وفي محاولة إقحامه وفي تسويقه، فالتطبيع السياسي والاقتصادي يجب أن يتم بين بلدين طبيعيين، وهو الأمر الذي لا يتوافر في إسرائيل، بسبب شذوذها البنيوي، فإسرائيل لا تزال تجمُّعاً استيطانياً، وليس دولة، ولن تكون بإذن الله.
ويلاحظ أيضا أن من يقومون بالتطبيع لا يتطرقون إلى هذا العدوان الغاشم والقتل والتعذيب والتنكيل والاضطهاد الذي تتم ممارسته ضد أبناء الشعب الفلسطيني، أي أن التطبيع باختصار يُشير إلى التعامل على وضع غير طبيعي (مثل الكيان الإسرائيلي) على أنه أمر طبيعي ومسلّم به.
ثانيا: أشكال التطبيع.
هناك عدة أشكال للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي الذي قد يتم بين العرب أو الفلسطينيين وبين مؤسسات وأفراد هذا الكيان، والتي يتم نعتها بأنها بالفعل أحد صور التطبيع، أذكر منها ما يلي:
* إقامة مشاريع وأنشطة مع الصهاينة من أجل تحقيق السلام دون الاتفاق على الحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني التي لا تقبل المفاوضة أو التصرف وفق ما أقره القانون الدولي العام.
* المشاركة في أي مشروع أو اتفاقية سلام حتى وأن دعا إليها طرف ثالث إلى جانب طرفي النزاع العرب أو الفلسطينيين والصهاينة، وخصوصا إذا كان مشروع سلام مزيف يهدف إلى الحفاظ على مصلحة الكيان الصهيوني وإجحاف حق الفلسطينيين.
* موافقة أي من الدول العربية أو أبناء فلسطين على مشاركة أفراد أو مؤسسات الكيان الإسرائيلي سواء داخل فلسطين أو خارجها في مشاريع تعمل على التغاضي عن حقوق الفلسطينيين.
* إقامة أنشطة ترفض أو تتجاهل، عن قصد أو غير قصد، حق أبناء الشعب الفلسطيني في تقرير مصيرهم ومصير كل شبر من أراضيها وخصوصا حق كل لاجئ فلسطيني في العودة إلى أرضه ووطنه.
* المشاركة في مشاريع أو أنشطة من أي نوع مع مؤسسات صهيونية أو أفراد صهاينة حتى وإن كنت تلك المؤسسات مدعومة دعما جزئيا من الصهاينة أو من يمثلهم، ومنها المهرجانات والمعارض وغيرها والتي يتم إقامتها مع فئات صهيونية.
* إضافة إلى “التطبيع المعرفي” و”التطبيع الثقافي” و”التطبيع الإعلامي” و”التطبيع الرياضي”.
* الموافقة على أي مشروع فكري أو ثقافي يسعى إلى إعادة تزييف أو قراءة التاريخ من أجل ادعاء حق مزيف للإسرائيليين المحتلين في الأراضي الفلسطينية أو القدس الشريف وأهمها الروايات الخاصة عن الصراع وحقيقة الاقتلاع والتهجير من أرض فلسطين.
ثالثا: مخاطر التطبيع الإسرائيلي.
يسعى الكيان الصهيوني بكل قوة إلى إقامة علاقات واتفاقيات ومعاهدات وأنشطة ومشاريع مع مختلف الدول العربية من أجل التأكيد على موافقة العرب على ما هو معروف حاليا باسم “الدولة الإسرائيلية” المزعومة. ومن أهداف عروض الكيان الصهيوني لهذا التطبيع:
1- اقتصاديا:
– هذا التطبيع لا يخدم سوى المصالح الاقتصادية لهذا الكيان الغاشم الظالم.
– مساهمة دول التطبيع ومؤسساتها في إنشاء مشاريع اقتصادية تزيد اقتصاد الكيان قوة.
– الكيان يعتبر العالم العربي سوقاً للسلع، ومصدراً للمواد الخام، والعمالة الرخيصة.
– تراجع الوحدة الاقتصادية العربية والإسلامية، حيث يقد الكيان السوق الشرق أوسطية، بديلاً للسوق العربية المشتركة.
– تهديد المشروع التكاملي الاقتصادي والسياسي في العالم العربي، ذلك أن من المستحيل أن نتصور، أن يتم تكامل بين بلد عربي أو مجموعة من الدول العربية وإسرائيل، مع وجود تكامل اقتصادي وسياسي بين الدول العربية، إلا إن كان هذا التكامل الأخير، في خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية للدول الصناعية أو للكيان الإسرائيلي نفسه. ولأجل التوضيح أسوق مثالا:
إن ما ترتب على استعمار بريطانيا أو فرنسا في القرن الماضي، لدول صغيرة مجزأة في غربي أفريقيا مثلاً، من تكامل دولة كغانا أو نيجيريا مع الاقتصاد البريطاني، ودولة كساحل العاج أو غينيا مع الاقتصاد الفرنسي، كان ذلك وحده كافياً لعزل كل من هذه الدول عن الأخرى، ولمنع قيام أي تكامل اقتصادي بين هذه الدول، حتى الخاضع منها لنفس الدولة الغربية.
– الكيان يعتبر العالم العربي سوقاً للسلع، ومصدراً للمواد الخام، والعمالة الرخيصة.
– يقترح الكيان السوق الشرق أوسطية والتي سيشارك فيها، بديلاً للسوق العربية المشتركة.
2- سياسيا:
* عدم وجود التطبيع كان واحدًا من أهم العوامل التي تحول دون أن يتغول الاحتلال على حقوق الشعب الفلسطيني، وأن يستمر في ارتكاب المجازر وانتهاك المقدسات وسرقة الأراضي.
* سياسة التطبيع تكسر الحاجز النفسي لدى العرب في التعامل مع الأراضي المحتلة في ظل بقاء المحتل، وستؤدي لاحقا –حسب تخطيطهم- إلى تجاوز الحاجز النفسي في التعامل مع المحتل ذاته وإهمال حقوق الشعب الفلسطيني.
* يمنح التطبيع الولايات المتحدة ذريعة لتقديم مبادرات “سلام” أكثر جورا للفلسطينيين. فالإدارة الأمريكية ترى التطبيع كقبول تام من الحكومات العربية لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، خاصة في ظل تفاقم الموقف العدائي للحكومة الأمريكية الحالية ضد الفلسطينيين.
* إذا فتُحت العلاقات العربية مع الاحتلال دون حل الصراع، فلا أحد يجبر هذا الاحتلال على أن يرضخ لمطالب الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة.
* إذا فُتحت الأبواب العربية والعواصم للاحتلال فسنجد خلق الفتن وتسعير نيران الحروب بين الدول، لذلك سيكونون سببا لاستمرار هذه الأزمات واشتعال النيران في المنطقة.
* ستمهد سياسة التطبيع لصناع القرار الأمريكي تبني حلول مناسبة للإسرائيليين فقط، بل وستكون بقوة القانون، بعد التوقيع على معاهدات واتفاقيات التطبيع.
3- إعلاميا:
* يهدف الكيان الإسرائيلي إلى تحقيق التطبيع وترسيخه في الأذهان العربية، والترويج له في كل وسائل الإعلام، حتى يُقوي هذا الكيان من وجوده في فلسطين وتسقط حقوق أبناء الشعب الفلسطيني، وهو أمر لا تقبله مبادئ الدين، والنخوة العربية، ولا يتوافق مع مبادئ القومية والوطنية العربية.
* التستر عن جرائم الاحتلال بكافة أشكالها.
* التسويق إلى الاستغناء عن المقاومة.
خاتمة:
كل شكل من أشكال التعاون الذي يهدف إلى الصالح العام للصهاينة يُعد أمرا خطيرا جدا على الدول العربية والإسلامية، لذلك يسعى الكيان الإسرائيلي بكل قواه إلى إقامة علاقات واتفاقيات ومعاهدات وأنشطة ومشاريع مع مختلف الدول العربية من أجل التأكيد على موافقة العرب على ما هو معروف حاليا باسم “الدولة الإسرائيلية” -المزعومة- التي لا وجود حقيقي لها على الخريطة الحقيقية للعالم.
كما أن انتشار التطبيع سوف يجعل كل ما هو غير طبيعي، مع مرور الوقت، أمرا طبيعيا وسوف يقوي من شوكة الصهاينة بشكل أكبر طالما كان هناك من يدعمهم بصورة أو بأخرى من العرب والمسلمين. لذلك يجب أن يكونوا على وعي كامل بأهمية عدم الانصياع وراء عروض الكيان الصهيوني لهذا التطبيع الذي لا يصب سوى في مصلحة هذا الكيان الغاشم فقط.
إن محاولة التطبيع مع الفلسطينيين، ومع الدول العربية محاولة يائسة، ترتطم ببنية إسرائيل الشاذة، غير الطبيعية، التي تتبدى في سلوكها الشاذ الغير الطبيعي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين