تفكيك منظومات الاستبداد (29): خطر المنافقين في مواقع البطانة والحكْم
بقلم: أ.د. جاسر عودة
نمر بأيام قاسية على كل مسلم حقيقي، خاصة بعد أن وصلت الحرب على فلسطين إلى تجويع أطفال المسلمين واغتصاب نساء المسلمين وتعذيب شباب المسلمين، ولا شك أن الاستشهاد بالقتل الفوري أهون على المؤمنين من هذه الفواجع، لأن القتل في سبيل الله لا يعدو أن يكون بشرى بحياة أفضل عند الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون - آل عمران ١٦٩-١٧٠)، إلا أن ما نراه يحدث أمام أعيننا اليوم لهو أسوأ ما يمكن أن يلحق بالمؤمن -وكل شريف في هذا العالم- من أذى وفتنة، والفتنة أشد من القتل، والأدهى علينا أن جيوش العرب وجيوش المسلمين من ورائهم -دائرة بعد دائرة حول فلسطين- تشترك عمليًا في حصار الشعب المسلم المقاوم الأبيّ بأمر حكامها وقادة جيوشها الذين يدّعون الإسلام، وهي نفس الأنظمة التي تقتل أو تقمع العلماء والشرفاء والأحرار من شعوبهم إذا طالبوا بالدفاع عن ثوابت وحياة وعرض هذه الأمة، بل وتيسر الحكومات المسلمة -دائرة بعد دائرة حول فلسطين وبلا استثناء تقريبًا- إمدادات الغذاء والسلاح للأعداء المحاربين وتلعب لعبة السياسة الدولية الرخيصة لصالحهم جهارًا نهارًا بوجه سافر تارة، وفي كواليس السياسة من وراء ستار مسرح الأحداث تارة أخرى، بالفعل تارة وبعدم الفعل -وهو من أقوى أنواع الفعل كما هو معلوم في علوم السياسات- تارة أخرى.
ولا يسع المؤمن إلا أن يدور مع حكمة الله تعالى في خلقه حيث دارت، فيسلّم بحكمة الله تعالى في ابتلاء الناس، والتي منها في أوقات المحن العظيمة -خاصة في أوقات الحرب- أن يتمايز الصف الداخلي للأمة بين المؤمنين الصادقين وبين الذين نافقوا الذين يظهرون الإسلام وهم يستبطنون الكفر في دخيلة أنفسهم وإذا خلوا إلى شياطينهم، تمامًا كما قال تعالى عن المنافقين في غزوة أحد مخاطبًا المؤمنين: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين. وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون. الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين - آل عمران ١٦٦-١٦٨)، فهؤلاء كان من علاماتهم أنهم قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا، وما أشبه الليلة بالبارحة.
والسؤال الآن: هل يمكن أن نحكم على أناس يعلنون الإسلام بالنفاق العقدي أي بإظهار الإسلام واستبطان الكفر؟ والجواب: اللهم نعم، إذا ظهرت علاماتهم كما نعرفها فيغلب على الظن أنهم منافقون، وهذا هو عين مقصود ذكر علامات المنافقين وتكرارها في القرآن الكريم من أوله إلى آخره، منذ بدايات سورة البقرة التي تبين أنهم يدّعون الإصلاح وهم أس الفساد: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون - البقرة ١١-١٢)، ثم سورة آل عمران التي تحذر المؤمنين من تبوأ المنافقين مواقع البطانة في جيوشهم وحكوماتهم: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر - آل عمران ١١٨)، ثم سورة النساء التي تكشف تحاكمهم إلى طغيان الطاغوت فوق كل حكم: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به - النساء ٦٠)، إلى سورة التوبة التي فضحتهم بالتفصيل، ومنه بناؤهم لمساجد الضرار: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون - التوبة ١٠٧)، [وراجع من هذه السلسلة مقالة: تفكيك منظومات الاستبداد (٢٣): هدم كيانات الضرار في صورها المعاصرة]، وصولًا إلى سورة المنافقين التي تفضح نفسياتهم المريضة على الضد من صورهم الفخمة: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله - المنافقون ٤)، ثم تصف خططهم الخبيثة في سياسات الإفقار والتجويع التي يمارسونها مع أهل الحق: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا - المنافقون ٤)، إلى آخر علاماتهم في كتاب الله تعالى وبيانه من سنة رسوله ﷺ وسيرته، وما أشبه الليلة بالبارحة.
ومن أكبر علامات المنافقين المعاصرين أنهم يلبّسون على الأمة أعداءها ويحرّفون وصف الواقع عن حقائقه، فهم يصورون المقاومة البطلة على أنها إرهاب يجب القضاء عليه، يصرحون بذلك مع شياطينهم في دهاليز السياسة، ولو أنهم لا يجهرون بذلك نفاقًا وتدليسًا على الشعوب المسلمة ويتحدثون عن تهور جماعات المقاومة وعملياتها غير المحسوبة إلى آخره، ويقولون إنه قد يكون هناك تجاوزات يسمونها قانونية من الصهاينة في رد فعلهم على الإرهاب ويُشغلون الناس بمسرحيات السياسة الدولية ومعاركها الكلامية الفارغة، ثم يتذرعون بالتضامن الغربي مع الصهاينة نظرًا لنفوذ لوبياتهم في عواصم الغرب، إلى آخر ما يصفون به الواقع كاذبين حتى يخفوا اشتراكهم في المؤامرة الحالية.
ولكنّ الواقع الذي يعرفه المنافقون جيدًا هو أننا كأمة أمام غزو عسكري استيطاني إحلالي استئصالي من إمبراطورية العنصرية البيضاء المعاصرة، يُعتدي فيه على قلب أمة الإسلام في فلسطين وعلى الفئة الوحيدة التي بقيت تجاهد في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ثم يريد الأباطرة المعاصرون توسيع هجومهم إلى أن يصلوا إلى تشكيل ما يسمونه شرق أوسط جديد خال تمامًا من الإسلام، اللهم إلا من بعض الطقوس والعادات على طريقة الأديان الخاملة، أو لعلهم ينجحون في تحويل الإسلام إلى الديانة الجديدة التي يروج لها بعض المنافقين ويسمونها الإبراهيمية -وإبراهيم عليه السلام منها براء-، والأباطرة المعاصرون يريدون أن يفعلوا بمن تبقى من المسلمين المتمسكين بالإسلام ما فعلته نفس الإمبراطورية بالسكان الأصليين في قارة أمريكا، إلى أن قتلوا نحو مائة مليون منهم وأبادوا حضارتهم، ولم يبقى منهم اليوم إلا فئام قليل منكسر، ويريدون أن يفعلوا بمن تبقى من المسلمين المتمسكين بالإسلام ما فعله مؤسسو إمبراطوريتهم العنصرية من الغزاة الأوروبيين مع الشعوب الأفريقية والآسيوية المسلمة، حين قتلوا منهم عشرات الملايين إبان احتلالهم العسكري الغاشم خلال القرنين الماضيين، وخطفوا منهم عشرات الملايين ليبيعوهم عبيدًا في مستعمراتهم خاصة في الأمريكتين. [راجع من هذه السلسلة مقالة: تفكيك منظومات الاستبداد (٢٤): جذور دعم المسيحية المتعصبة لحرب الإبادة الصهيونية].
لابد أن تدرك أمة الإسلام إذن حجم وعمق المعركة مع المنافقين المعاصرين في مواقع البطانة والحكم، وتعلم أنهم حلفاء أصليون للصهاينة، وأعداء أصليون لأمة محمد ﷺ، وأنهم -مثل الصهاينة- مجرد أداة في يد قيادة النظام العالمي الجديد (وعلي رأسه نادي الواحد بالمائة والعائلات الملكية الأوروبية العنصرية وأملاؤهم من أصحاب المليارات تجار السلاح والمخدرات والرقيق الجديد وغيرها، المستفيدين من هذا النظام العالمي الجديد بشكل مباشر)، ولابد أن تدرك أمة الإسلام أثر هؤلاء المنافقين على الحكومات والجيوش المسلمة في المنطقة، والتي قررت قياداتها بكامل وعيهم وإرادتهم دفع الثمن لبقائهم في سلطاتهم وحماية امتيازاتهم وثرواتهم وبقاء الشعارات الوطنية الزائفة التي يترأسون الناس بناء على أساطيرها، ولو على حساب الإسلام ومقدسات الإسلام ومصالح أمة الإسلام الاستراتيجية، فدفعوا الثمن من دماء وأعراض أشرف وأطهر وأزكى من تملكهم الأمة من رجالها ونسائها وأطفالها خاصة في أرض الرباط في فلسطين، بل وعلى استعداد لدفع الثمن من مقدسات الأمة بما فيها التضحية بالمسجد الأقصى -لا سمح الله- أولى القبلتين وثالث الحرمين بعد حرمي مكة والمدينة على ساكنها الصلاة والسلام، وهي الجولة الحاسمة التي نحن مقبلون عليه تاليًا كما يظهر لكل متابع.
الوعي بهذا الواقع -وإن كان مُرّا- مسألة تأسيسية حتى تنبني التصرفات على التصورات، وحتى نتعامل مع المنافقين بما يتناسب مع خطرهم على الأمة وبما يتسق مع سنن الله تعالى في صراع الخير والشر، وتدافع الإيمان والكفر، وذلك كما قال تعالى لنبيه ﷺ: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا - الأحزاب ٦٠-٦٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين