البحث

التفاصيل

طوفان الأقصى ومعركة الوعي

الرابط المختصر :

طوفان الأقصى ومعركة الوعي

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

عندما وقعت واقعة "طوفان الأقصى"، هممت بالكتابة عن المقاومة وعودتها، وعن الهوان الذي تلقته الأمة بغيابها، وحاولت أكثر من مرة، ولكنني لم أوفق؛ لأنني لم أستطع الإجابة عن سؤال هام وهو ماذا أكتب؟ وماذا أقول؟ وقد تدفقت عبارات الطوفان صواريخ وهجمات حلت محل الأفوال أفعالا، لا أسماء فيها ولا نعوتا ولا حروفا، وإنما آلات ناطقة بالحق الذي ردمته سنوات الخيانة والذل والعار والعمالة والتطبيع والانبطاح الكلي...

ولمن اكتب؟ والناس مشدودون إلى شاشات التلفزيون، والهواتف النقالة تتابع الأحداث على المباشر أحيانا...، ومع ذلك بقيت مصرا على الكتابة؛ لأنني لا أومن بكذبة "السيف أصدق أنباء من الكتب"، إذ للكلمة مقامها ومكانتها؛ بل الرأي قبل شجاعة الشجعان، وكما قال المهندس القسامي الأسير عبد الله البرغوثي: "الكلمة الصادقة في ھذا الزمن الصعب قد تكون أقوى من الرصاص وأشد تأثیراً، من العبوات الناسفة" (من كتاب امير الظل). وعبد الله البرغوثي لمن لا يعرفه، واحد من القيادات القسامية، المتخصصة في اختراق مواقع الاتصال الصهيونية والمؤسسات الرسمية للسلطة الفلسطيتية والإدارات الصهيونية، ومعد العبوات الناسفة ومهندس العمليات الاستشهادية في القدس التي ركّعت قوات الأمن والمخابراتية الفلسطينية والصهيونية، وهو في الأسر منذ أكثر من عشر سنوات، ولا تزال جوانب من ملفات قضيته مفتوحة إلى اليوم، بسبب علاقاتها المتعددة مع فروع المقاومة وخلاياها.

طوفان الأقصى، عملية عسكرية استخباراتية بامتياز، وقد حققت من المكاسب التي من جنسها الكثير، ولكنها حققت في الوقت نفسه من المكاسب العميقة التي لا تتحقق إلا بعمق كبير في الإدراك لحجم المعركة والمسؤولية تجاهها.

ولا يمكن لهذا المستوى أن يكون غير مفكر فيه كما يتوهم بعض المحللين، من أن المقاومة لم يكن يعنيها إلا ملفات الاستخبارات "الشاباك" المتعلقة بالجواسيس في غزة.

لقد أدارتْ المقاومة بعلم وحكمة وحنكة قل نظيرها في حركات التحرر الوطني التي عرفنا في التاريخ، من بدايتها إلى آخر صورة من صور تسليم الأسرى إلى الصليب الأحمر في دفعتها السادسة، واستمرت في الإبداع النضالي بشقيه السياسي والعسكري، إلى اليوم ودخول المعركة شهرها السادس ولا تزال في مستوى من القوة الذي يرشحها للإستمرار في تكبيد العدو الكثير من الخسائر، وتحقيق المكاسب.

لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية أن الشعوب هي التي تصنع مستقبلها، وهي المنقذ الحقيقي لأزمات الأمة.

والشعب الذي خانته نخبه ومؤسساته التي تمثله في المحافل الدولية وامام دول العالم، يمكنه ان يكفر بالواقع الذي لم ينصفه، ويتجاوزه بفعل ما يؤمن به... فالمقاومة في غزة، قد خانها القريب والغريب، بعد ان استثمروا فيها بانتهازية فائقة وخبث وسوء طوية، وتنمروا عليها؛ بل تآمروا عليها وتواصوا عليه بالخيانة والخبث والمنكر، وهي تعلم ذلك ولكن ما باليد حيلة، فهي محاصرة من جميع الجهات، ومع ذلك لم يثنها احد عن فعل ما آمنت به... بل تجاوزت بفعلها البطولي جميع الطروحات المأزومة والمهزومة، وأعادت القضية إلى مربعها الأول، إلى أن قضية فلسطين قضية استعمار وتصفيته، وينطبق عليها مبدأ تصفية الاستعمار وتقرير مصير شعب مستعمر.

لقد قررت المقاومة بنشاطها العسكري والسياسي والاستخباراتي، خلال الأشهر الخمسة من المقاومة والصبر والاحتساب ان تسقط اتفاقيات أوصلو وفكرة الدولتين وفكرة التطبيع من أسسها التي بنيت عليها، او على الأقل تشكك في جدوى تلك الطروحات وفي من كان وراءها وفضح سرائرهم، بحيث عادت الأمور إلى بداياتها في سنة 1948، وكذلك كانت جرائم الصهاينة أيضا، في حق الشعب الفلسطيني. فبقدر ما كانت ضربات المقاومة موجعة، كان التصعيد الصهيوني في اتجاه الإبادة والتهجير أكثر فتكا بهمجية رفيعة المستوى، وهو النهج الذي سارت عليه الصهيونية في بداية زرع  بذرتها الخبيثة، كل ذلك ساعد على إعادة القضية إلى ذلك المربع المشؤوم.

كما أثبتت عملية طوفان الأقصى، ان جميع المقررات الدولية التي وضعت بعد الحرب العالمية الأولى في حاجة إلى المراجعة؛ لأنها غير محترمة من قبل واضعيها اولا، ومن قبل الاوعية الاستعمارية الجديدة التي صنعتها على عينها ثانيا.

فالمقررات الدولية التي وضعت لصالح الإنسان، لم يخضع إليها لا من الولايات المتحدة الأمريكية ولا الدول الأوروبية، ولا المنظمات الدولية التي من المفروض انها مؤسسات حيادية، ولا الكيان الصهيوني الذي بدا وكأنه الدولة الصغيرة المظلومة التي تحتاج إلى كل مساعدة.

ولذا فعلى العالم إعادة النظر في كل ما تقرر بعد الحرب العالمية الثانية، في حقوق الإنسان، وتقرير مصير الشعوب وتصفية الاستعمار، ومبدإ الفيتو؛ إذ لا يمكن أن يكون ما قامت به قوات الصهاينة من قصف وتدمير وحرب إبادة أقل ما يقال فيها أنها جرائم حرب مكتملة الأركان، مدعومة بالتأييد الغربي، واعمال لا علاقة لها بما يخدم الإنسان وحقوقه والدفاع عنه.

لقد أثبتت المقاومة مشروعيتها وعدالة قضيتها بانضباطها وصبرها، وهي تشاهد عشرات الآلاف من النساء والأطفال يتساقطون كالذباب تحت ضربات القصف الصهيوني بجميع أنواع الأسلحة وفي ظل صمت دولي مريب...؛ بل بفعل مساند إلى أبعد الحدود، ومع ذلك لا تزال المقاومة تقوم بنشاطاتها القتالية، بمهنية عالية وبانضباط أخلاقي، بحيث لم ينقل عن المقاومة انها استهدفت جهة غير عسكرية او غير رسمية، رغم أن الوجود الصهيوني كله عبارة عن جيش بداخله كيانات مدنية.

فماذا لو تحركت خلايا المقاومة النائمة والموزعة في ربوع فلسطين، بروح انتقامية وفعلت ما لا يعجزها فعله؟ وقصفت هي الأخرى بعشوائية كل شيء، ألا تأتي على الأخضر واليابس وكما يقول المثل الشعبي "علي وعلى أعدائي"!! ولكن معركة الوعي التي فقهتها فصائل المقاومة وعلى رأسها حماس والقسام، تنظر إلى الأبعاد الاستراتيجية للمعركة وليس لمجرد الحرص على الغلبة الآنية والفوز بالمعركة آنيا وكفى.

والعبقرية التي ظهرت بها المقاومة في تسليمها للرهائن الإسرائليين وغيرهم ممن كانوا في الأسر عندها، في المرحلة الأولى من المعركة التي تمت فيها مبادرلات الاسرىى، فكانت المقاومة في منتهى الاحترام للكرامة الإنسانية في تعاملها مع الأسرى، الذي يتجاوز الحقوق المقررة في الأمم المتحدة...، تصوروا معي رهينة تسلم هي وكلبها! إلى الصليب الأحمر! لا أظن ان عمال الصليب الأحمر مروا بحالة كهذه في تجاربهم التي مروا بها في العالم... لا أظن جهة مهما كانت من السماحة في العالم، تأسر شخصا ومعه كلبه لمدة خمسين يوما وترعاهما، ثم تسلمه هو وكلبه معا، وتمنيت لو أن المقاومة اعتبرت الكلب في عداد الأسرى، باعتباره مواطنا صهيونيا ردا على الكلب بن الكلب الذي اعتبر الفلسطينيين حيوانات بشرية.

ومن مظاهر الآثار القيمة والجادة في الساحة السياسية الفلسطينية، عودة اللحمة الوطنية بين فئات المقاوِمة المتجانسة في غاياتها العليا، وهي تحرير فلسطين، وظهور القوى الشعبية المعبرة عن ارتياحها لطروحات المقاومة وما تحققه من مكاسب في الصالح الفلسطيني. ورغم أن الجراح عميقة في غزة والثمن المدفوع باهظا، ولكن ما تحقق بالمقاومة لم تحققه ثلاثين سنة من المفاوضات والوعود الدولية الكاذبة والمهرولين إلى التطبيع جماعات وأفرادا، بمباركة فلسطينية؛ بل بتزكية من سلطة لا تمتلك قرارها، كصورة لشبح سموه السلطة الفلسطينية. 

المعركة لم تنته، ولكن مهما كانت صور نهايتها، فإنها تجاوزت الأكاذيب الصهيونية، وداست بقدميها الطاهرتين على النفاق الدولي والخنوع العربي، وفرضت على العالم تغيير النظارات التي يشاهد بها الأحداث، لينظر إلى العالم وواقعه من جديد كما يقرره التاريخ الذي لا يجامل ولا يحابي.

 

ــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





التالي
تجمع سودانيون ضد التطبيع يرفضون بشدة بث قناة إسرائيلية في بورتسودان
السابق
لماذا تُسْتَهْدَفُ الوحدة الإسلامية؟!

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع