"انفروا خفافا ثقالا"
بقلم: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
هذا العنوان هو جرء من آيةكما لا يخفى، اختارته المقاومة لإحدى مداخلات الناطق باسم كتائب القسام، أبوعبيدة في الأيام القليلة الماضية وبالضبط في اليوم الثامن من مارس 2024. ونص الآية بتمامه هو قوله تعالى (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة 41].
والنفير العام، يعني الالتحاق بميادين القتال ودعمه بكل الوسائل، ولا عذر لأحد في التخلف عنه، مهما كانت المبررات. ورغم ان الدعوة في كلمة أبو عبيدة كانت موجهة بالأساس إلى فلسطينيي الداخل في الضفة الغربية والقدس بالتعبئة العامة، والموجهة الشاملة، فإن لهجة الخطاب عامة وشاملة لكل من يؤمن بالمقاومة وشرعيتها في العالم.
لقد كانت مبررات هذه الدعوة قائمة منذ بداية طوفان الأقصى؛ لأن العملية بمستواها وجرأتها وقوة تأثيرها، كانت تنبئ بمستقبل غير الذي اعتاده الناس في مقاومة الاحتلال الصهيوني، وقد لمس كل العالم ذلك منذ بداية التصريحات الأولى من الصديق والعدو، من أن هذه المعركة ليست مماثلة لغيرها من المعارك من قبل، ومع ذلك لم يلمس من خطاب المقاومة ما يستشف من هذه الدعوة الأخيرة، في مرحلة من مراحل المقاومة خلال الأشهر الماضية.
فلماذا لم تلجأ المقاومة إلى هذه الدعوة الصريحة من البداية؟ هل لأنها لم تشعر بضرورة ذلك؟ أم أنها كانت تنتظر حركة من "الخشب المسندة في بقاع العالم الإسلامي"؟ أم أنها شعرت الآن بالضعف الذي يحتاج إلى المساعدة؟
إن المقاومة لا تزال بالنَّفَس الذي انطلقت به، ولا تزال قادرة على المقاومة، ولا أجدها تشعر بتأنيب ضمير أو خوف او تردد، إلا السعور بالألم تجاه التضحيات الشعبية الكبيرة، قتلى وأشلاء في كل مكان وجرحى ومهجرين وهدم البيوت على رؤوس أهلها، وتجريف للمقابر، نتيجة القصف المستمر لغزة بهمجية منقطعة النظير نتيجة العدوني الإجرامي للصهاينة.
والمقاومة لم تضعف رغم كل ذلك ولكنها تتألم؛ لأنها مكونة من بشر يحسون ويشعرون بالمهانة للشعب من قبل جيش كان يعد إلى عهد قريب من بين الجيوش الأقوى في العالم!!
وفي تقديري أن المقاومة لم تكن غافلة عن الدعوة إلى النفير العام منذ البداية، وإنما هي حريصة كل الحرص عن الانضباط بالشرعية، والتقيد بأخلاق الحرب في كل ما تقوم به، فهي حركة تحررية مجبرة على التقيد بحقها في مقاتلة عدو غاصب، والعدو في منطق الحرب هو الجيش، ولذلك لم تلجأ المقاومة إلى محاربة غير العسكري، رغم أن المجتمع الصهيوني في الحالة الفلسطينية كله محارب، وكما قيل: في كل العالم يوجد مجتمع له جيش إلا في حالة الكيان الصهيوني يوجد جيش له دولة وشعب؛ بل وهي حريصة أيضا على إبراز قيمها الجهادية المستمدة من قيمها الإسلامية، وقد ظهرت تلك القيم في عملية تبادل الأسرى بوضوح تام، حيث ظهر الأسرى وكأنهم كانوا في زيارات عائلية، في الصور التي عرضت على العالم، وهم يودعون رجال المقاومة بفرح وسرور.
أما وقد جاوزت الحرب على غزة الخمسة أشهر، ومع احتمال اتساع رقعة الحرب، فامتدت إلى جنوب لبنان والبحر الأحمر، وبعض المناطق الأخرى، فدخل على الخط أكثر من جهة، حزب الله وأنصار الله الحوثيين، والحركة الإسلامية في العراق... وأمام هذه العجرفة الأمريكية في ظل صمت دولي مطبق على الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني، فإن من مصلحة المقاومة اتساع رقعة الحرب، ليتحمل العالم مسؤولياته كاملة، والطريق إلى ذلك هي الدعوة للنفير العام!!
لقد كانت الدعوة للنفير العام في الجهاد الأفغاني، وكانت الاستجابة الإسلامية كبيرة، بسبب الغاية السامية الداعية لها وهي تحرير الشعب الأفغاني من الاحتلال الروسي، رغم أن الأيد الأمريكية الخبيثة عملت عملها، ولكن مع ذلك قد حقق الأفغانيون غايتهم وفرح المؤمنون بنصر الله...
واليوم مع فلسطين... لا حل نهائي للقضية الفلسطينية إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على ألأراضي الفلسطينية كلها، ولا بقاء لليهود فيها إلا في ظل هذه الدولة كما كانوا من قبل.
ومبررات ذلك كثيرة جدا، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: إن الوجود الصهيوني بصورته التي هو عليها، نشاز في المنطقة بإيجابياته وسلبياته؛ بل يعتبر جسم غريب عن المنطقة، غير متجانس مع أهلها وثقافتها ومكوناتها التاريخية.
ثانيا: فشل جميع المساعي السلمية التفاوضية، سواء بصورتها الفلسطينية أوسلو وما شابهها، أو بصورة المهرولين للتطبيع بجميع الصيغ المعروضة على الكيان الصهيوني من كل مكان.
ثالثا: استحالة مشروع الدولتين، لأسباب كثيرة، فضلا عن أن الصهاينة عملوا طيلة العقود الماضية على دفنه، ومع ذلك طفى على سطح الأحداث هذه الأيام، نتيجة ضربات المقاومة الموجعة.
وبقطع النظر عن نوايا المسوقين للفكرة في هذه المرحلة، فإن المشروع غير قابل للتنفيذ للأسباب التالية:
1. من الناحية التقنية هناك خلاف حاد بين الفرقاء في تحديد معنى حل الدولتين؟ فالصهاينة ومن وشايعهم ينظرون إلى حل الدولتين: دولة اسرائيلية كاملة السيادة، ودولة في شكل استقلال ذاتي على جزء من فلسطين التاريخية، بينما الفلسطينيون، فلهم صورة مختلفة، حيث تنازلوا عن جزء من أرضهم للصهاينة مقابل أن يمكنوا من إقامة دولة على جميع الأرض المحتلة في 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
والبت في أحد المفهومين يحتاج إلى الكثير من العمل، فضلا عن أن تيار المقاومة، لا يؤمن بطروحات التوجهين؛ لأن فلسطين بلد محتل، والحل مع الاحتلال هو التحرير.، مثلما وقع ما حميع الاستعمارات في العالم، مثل الجزائر والهند وفيتنام وغير ذلك من البلاد.
2. استحالة قبول الصهاينة بقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدودها؛ لأن قيام دولة كاملة السيادة، يعني الندية الكاملة، وإذا حصل ذلك فإن الصهاينة لا يمكن أن ينعموا بالأمن، خاصة بعد تجربة طوفان الأقصى!! التي فرضت على الصهيونية ومن والاهم منطقها التحرري، ولسان حال الصهاينة يقول، هذه مجموعات وعصابات فعلت كل هذا، فكيف يكون الحال عندما تكون لهم دولة كاملة السيادة؟
رابعا: الوجود الصهيوني في فلسطين امتداد لحركة الاستعمار التي كانت نهايتها نظريا بعد متنصف القرن العشرين، أي بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن الغرب الذي أقر مبدأ تصفة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، له مصالح في مستعمراته القديمة، والقلب النابض لتلك تلمستعمرات منطقة الشرق الأوسط، كان لا بد له من صيغة جديدة لاستعمار لا يكون بالصورة القديمة، فكان دعمه للحركة الصهيونية التي تمثل الصورة الأكمل للحفاظ على مصالحه، فكانت هذه النبنة الخبيثة التي زرعها في العالم العربي والإسلامي، وليس من الصدفة ان يكون سايكس بيكو باتفاق فرنسي اتجليزي، ثم بدعم امريكي بعد ذلك وباعتراف سريع سفييتي لاحقا...
إن المواقف المبدئية لكل الغرب من طوفان الأقصى كانت سلبية جدا وداعمة للصهاينة، ولكن حماقات الصهاينة هي التي أجبرت البعض على التريث والتردد بسبب الجرائم ضد الانسانية التي ترتكبها قوات العدو يوميا في غزة، وهي جرائم فاقت الخيال... والغرب بطبيعته الصراعية التي اختارها لنفسه لا يؤمن إلا بالقوة، وأفضل القوة في حالتنا هذه هي النفير العام.
فواجب المرحلة إذن الدعوة إلى النفير العام عبر الوسائل التالية:
1- ضرب المصالح الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية تحديدا، في كل مكان، وبجميع الوسائل الممكنة والمتاحة والمشروعة، بوصف هذه الدول بالخصوص، هي القوى الأكثر دعما ومساندة للاحتلال الصهيوني؛ لأن هذه الأنظمة تحديدا لا تؤمن إلا بالقوة المؤثرة على مصالحها.
2- الاستثمار في الشعوب الداعمة للقضية الفلسطينية، والمؤمنة بمشروعية المقاومة خاصة، وتحريضها على البقاء في مربع معارضة أنظمتها الظالمة الداعمة للصهاينة ضد الشعب الفلسطيني، ودعوتها للإستمرار في الاحتجاج، خاصة في هذا الوقت الذي خرجت فيه هذه الشعوب إلى الشارع للتعبير عن موقفها الفطري تجاه ما يقع في غزة من جرائم إبادة.
وما يدعو للتفاؤل من هذه الناحية، ان الأجيال الجديدة من الغربيين والأمريكان خاصة ينظرون للقضية الفلسطينية بالكثير من الموضوعية، وإنما يحتاجون إلى الحضور الدائم للقضية والمرافقة اليقِظة.
إن الشعوب الغربية عموما غير مسيسة، ولكنها قابلة للإستثمار فيها فيما فهمت واستوعبت من الأمور، والشاهد على ذلك هذه المسيرات المليونية التي تنظم كل يومي السبت والأحد؛ بل إن بعض الاعيان في الولايات المتحدة لم يترددوا في الإعلان عن أنهم لا يسمحون بأن تستعمل الضرائب التي يدفعونها في قتل الأطفال والنساء، وكما فعل بعض المحامين الفرنسيين الذين بادروا بتنظيم فريق حقوقي برفع دعوى إلى محكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني.
إن الشعوب الغربية مستعدة لأن تفعل أكثر من ذلك، بشرط أنها ان المرافقة اللازمة التي تعرض الموضوع بخلفياته الصحيحة وغاياته النبيلة، وهذا يدعونا إلى الاهتمام بالنقطة الموالية والتعبئة لها بقوة.
3. التركيز على الجانب الحقوقي والاعلامي، بالاستثمار الجيد فيما يحصل من الجرائم ضد الشعب الفلسطيني وأخبار ومعلومات إعلامية وأمنية واستخباراتية، وتحليلها وتكييفها، وفق الصيغ الفعالة في خدمة القضية، لما في ذلك من كشف لتورط العدو الصهيوني في جرائم وتحميله المسؤولية كاملة، وتحميل داعميه.
4. تحريك الشعوب العربية والإسلامية في اتجاه مقاطعة البضائع الغربية عموما، واستبدالها بمنتجات وطنية، ومنها على وجه الخصوص الدول المعنية بضرب مصالحها –أمريكا، بريطانيا، فرنسا وألمانيا-، وذلك بالامتناع عن شراء كل منتوج غربي، وبتحريك قاطرة الانتاج الوطني، خدمة للأمة وليس للأنظمة القائمة، وبالنشاط في الدعم اللوجيستي، وغير ذلك من الوسائل الإغاثية الإنسانية، إذ أن هذه الشعوب في ظل هذه الأنظمة الاستبدادية القائمة اليوم في العالم العربي والإسلامي، لا تملك غير ذلك من الوسائل.
ـــــــــــــــ
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.