البحث

التفاصيل

شرح حديث: «مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبه»

الرابط المختصر :

شرح حديث: «مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبه»

الكاتب: أ.د. كامل صبحي صلاح

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإنّ من نعم الله تبارك وتعالى على عباده توفيقه لهم لاستثمار مواسم الطاعات والخيرات والبركات، وإنّ من هذه المواسم الجليلة العظيمة قيام شهر رمضان المبارك، فشهر رمضان شهر مبارك كلّه من أوله إلى آخره، بل كلّ لحظة منه فيها من البركات والخيرات العظيمات التي تعود على العباد بالخير الكثير والأجر الكبير، لذا يجب أن يُستثمر هذا الشهر حق الاستثمار بعناية وأهمية كبيرة.

حيث أنّ شهر رمضان المبارك هو شهر القيام والصيام وتلاوة القرآن وتدارسه، وشهر العتق والغفران، وشهر الصدقات والإحسان، وهو شهرٌ تُفتح فيه أبواب الجنات، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات، وتُرفع فيه الدرجات، وتُغفر فيه السيئات. شهر رمضان المبارك تفتح فيه أبواب الجنات - نسأل الله العلي الأعلى أن يجعلنا من أهلها ووالدينا -، وتغلّق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي من خير الليالي، وهي خير من ألف شهر، فمن حرم خيرها فقد حرم، والموفق من وفق لقيامها، والقيام بواجبها وحقّها.

ففي الحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ» «أخرجه النسائي (٤/١٢٩)، صحيح الجامع، الألباني(٥٥)».

إذاً فشهر رمضان المبارك هو شهر يجود الله سبحانه وتعالى فيه على عباده بأنواع الخيرات والبركات، ويجزل فيه لأوليائه الأعطيات. حيث أخبر عليه الصلاة والسلام أنّ من قامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله تعالى له ما تقدّم من ذنبه، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» «أخرجه البخاري (٣٧)، ومسلم (٧٥٩)».

ومعنى (إيمانًا) أي: فعل ذلك إيماناً بالله عز وجل، وتصديقاً بخبره، وبالأمرِ به، وعالِمًا بمشروعيته وحكمه، وفضيلة قيامه.

ومعنى (احتساباً) أي: محتسباً لجزيل الأجر والثواب المترتّب على قيام شهر رمضان، فلا يريد ولا يقصد إلا الله تعالى وحده، وهذه من صفات أهل الإيمان بالله جل وعلا الصادقين المخلصين.

قال الإمام البغوي: قوله: "احتساباً": أي طلباً لوجه الله تعالى وثوابه».

وقال المباركفوري رحمه الله تعالى: (قال الخطابي: "احتساباً": أي نية وعزيمة...».

«مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، المباركفوري، (6/ 404)».

وفي هذا الحديث المبارك يخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنّ من أعظم الطاعات والقربات، ومن الأسباب الموجبة لمغفرة الذنوب والسيئات قيام شهر رمضان المبارك، وصلاة التراويح مع جماعة المسلمين، والقيام مع الإمام حتى ينصرف من صلاته، ليُكتب له فضل وأجر قيام ليلة، ففي الحديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه من قام مع الإمامِ، حتى ينصرفَ، كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ».

«صحيح الجامع، الألباني، (٢٤١٧)».

فدلّ هذا الحديث وغيره على مشروعية القيام جماعة في شهر رمضان المبارك، وأنه سنة الرسول ﷺ وسنة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم جميعاً من بعده، لما في ذلك من المنافع والمصالح الكبيرة: من اجتماع المسلمين على الخيرات والعبادات، واستماعهم لكتاب وكلام ربّ البريّات سبحانه، والعمل على مجاهدة النفس على الطاعات والقربات.

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: «واعلم أنّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين وُفِّي أجره بغير حساب».

«لطائف المعارف، لابن رجب، (1/171)».

 

وتُعدّ هذه بِشارةٌ عظيمةٌ مِن النَّبيِّ ﷺ لِمَن وُفِّق لقيام شهرِ رمضان المبارك كلِّه، وحافظ وداوم على قيامه بمغفرة ذنبه، وعلو منزلته وقدره عند ربه جلّ وعلا، فإنَّ المَرْجُوَّ من الله جل وعلا أنْ يغفر له ما تقدَّمَ من ذُنوبه السّابقةِ، غيرَ الحُقوقِ الآدميَّةِ المتعلِّقةِ بأموالِهم أو أعراضِهم أو أبدانِهم؛ فهذه لا تَسقُطُ إلّا بالعفو وتبرئة الذمة؛ فعلى الإنسانِ أنْ يطلُب المسامحةَ ممَّن له عليه حقٌّ، أو يُؤدِّي الحقوقَ إلى أهلها، لتبرئة ذمته من حقوق الناس. وقد وقع الجزاءُ هنا بصيغة الماضي «غُفِرَ» مع أنَّ المغفرة تكونُ في المستقبل؛ للإشعار بأنَّه مُتيقَّنُ الوقوعِ، مُتحقِّقُ الثُّبوتِ، فضْلًا من الله جلّ وعلا على عباده.

وقيل: أنّ المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «غُفر له ما تقدم من ذنبه»، أي: ما تقدّم من صغائر الذنوب، وليس من كبائرها، وهذا ما عليه جمهور العلماء، استدلالاً بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضانُ إلى رَمَضانَ، مُكَفِّراتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذا اجْتَنَبَ الكَبائِرَ».

«أخرجه مسلم، (٢٣٣)».

وعلى هذا فلا يكون في الحديث دلالة على مغفرة كبائر الذنوب.

ومن العلماء من أخذ بعمومه، وقال: إنّ جميع الذنوب تُغفر ولكن بشرط ألا تكون هذه الذنوب موصلة إلى الكفر، فإن كانت موصلة للكفر فلا بدّ من التوبة الخالصة الصادقة، والرجوع إلى دين الإسلام.

 

ولذلك كان النَّبيُّ ﷺ يَجتهِدُ جِدًّا في عبادة رَبَّه سُبحانَه وتعالى في قيام ليالي شهر رمضان المبارك، وخاصة في العشر الأواخر منه، ما لا يجتهده في غيره، ففي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: «كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأواخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ».  «أخرجه مسلم (١١٧٥)».

وفي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: «كان إذا دخل العشرُ شدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيا ليلَهُ، وأيقظَ أهلَهُ». «أخرجه البخاري (٢٠٢٤)، ومسلم (١١٧٤)».

ومعنى «شَدَّ مِئزرَه»، وهو ما يُلبَسُ مِنَ الثِّيابِ أسْفلَ البدَن. هو كناية عن الاجتهاد في العبادات والطاعات، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء، وربما يشمل الأمرين معاً؛ فإنَّه يُقالُ: شَدَدْتُ في هذا الأمرِ مِئزَري، بمَعْنى: تَشمَّرْتُ له وتَفرَّغْتُ.

ومعنى«وأحْيا لَيلَه»، أي: بِالسَّهرِ للعِبادةِ، والصلاة والطاعة. «وأيقظَ أهلَه»؛ لِيُصلُّوا مِن اللَّيلِ، وهذا مِن تَشجيعِ الرَّجُلِ أهلَه على أداءِ النَّوافلِ والعِباداتِ، وتَحصيل فضل وخير تلك الأيّام المباركات.

إذاً فهنيئاً ثم هنيئاً لمَن قام شهر رمضانَ المبارك على الوجه المطلوب منه شرعًا مؤمِنًا بالله تبارك وتعالى وبما شرعه له سبحانه، ومحتسِبًا للثَّوابِ والأجِر مِن اللهِ جل وعلا، فإنَّ المَرْجُوَّ والمؤمل مِن الله تعالى أن يغفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنوبِه. فرحمة الله جل وعلا واسعة، فلقد وسعت السماوات والأرض، أفلا تتسع لعبد ضعيف مسكين يرجو رحمة ربّه جل وعلا وعفوه ومغفرته، ويخاف عقابه، بلى والله، والرجاء بالله تعالى عظيم.

هذا ما تمّ ايراده، نسأل الله العلي الأعلى أن ينفع به، وأن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يعيننا على قيام شهر رمضان المبارك وصيامه، وأن يجعلنا فيه من المقبولين، ومن عتقائه من النار، ووالدينا أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أ.د. كامل صبحي صلاح؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أستاذ الفقه وأصوله.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





التالي
"انفروا خفافا ثقالا"
السابق
قانون الجنسية الهندي خطوة أولى لحرمان ملايين المسلمين من جنسيتهم الهندية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع